د. وسام جواد
تضمن قوانين ومقولات المادية الديالكتيكية, التحليل الأفضل , والإسلوب الأمثل , لإستيعابٍ أشمل , وجوابٍ أكمل , لكل من يسـأل : مَن يتحمل مسؤولية ما حصل للعراق وشعبه قبل وبعد الإحتلال .. ؟
قانون انتقال التراكمات من الكمية إلى النوعية :
لا شك أن الفترة ما بين 1968– 2008 كانت الأقسى في تاريخ العراق المعاصر ( إن لم يكن في كل تاريخة..) من حيث الخسائر البشرية والمادية الهائلة, نتيجة الصراعات والخلافات الداخلية,التي كانت ولا تزال تحسم عن طريق إستخدام السلطة للقوة مع القوى السياسية والدينية المعارضة, وبسبب الحروب التي خاضها ( الحرب العراقية–الإيرانية, حرب الخليج الثانية, حرب الحصار, الغزو والإحتلال ) .
تسلم حزب البعث مقاليد السلطة في 17 تموز 1968, وكان على قيادة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك أخذ الحيطة وتوخي الحذر, خصوصا وأن تجربته المريرة مع حزب البعث بعد انقلاب 8 شباط 1963 قد تركت وراءها أعدادا كبيرة من الضحايا وذكريات أليمة, يحتفظ بها من إرتبط بهذا القدر أو ذاك بمن إستشهد,أوعُذب,أو سُجن ,أو تغربَ أثناء وبعد الإنقلاب. إلا أن قيادة الحزب الشيوعي فضلت في بداية السبعينيات من القرن المنصرم, الدخول طوعا في شرك ما سمي زيفا بـ “الجبهة الوطنية” واضعة بذلك, بداية لمرحلة طويلة من الإخفاقات المتتالية, إبتداءا من الموافقة على تحريم نشاط الحزب في معظم المرافق الحكومية والمجالات المهنية الحيوية, مرورا بإعدام عدد من كوادر الحزب في 1978 والهجرة الجماعية للشيوعيين وأصدقائهم من العراق,وانتهاءا بتوقيع إتفاقية الخزي والعار مع الإمبريالية الأمريكية .
سعى حزب البعث الى التخلص من غريمه العتيد في الساحة السياسية, ونجح في ترويض القيادات الكردية في شمال العراق بعد توقيع إتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 بين نائب رئيس الجمهورية صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي, تم بموجبها تقديم بعض التنازلات مقابل أن توقف الحكومة الإيرانية دعمها للقيادات الكردية ( البرزانية ) . وكان في إلغاء الإتفاقية لاحقا, والدخول في الحرب العراقية– الإيرانية المدمرة للطرفين إختبارا جديدا لقدرة القيادة البعثية على التعامل مع الصراع الخارجي بعد أن إحترفت أشكال الصراع الداخلي. وقد لعب النجاح في إجتياز هذا الإختبار,دورا في إسرافها باظهار التجبر والتكبر والمُبالغة في الإعتداد بالنفس,الذي جرحته حرب الخليج الثانية وأهانته حرب الحصار وقتلته أخيرا,حرب العدوان وإحتلال العراق بعد تراكمات كمية لعوامل داخلية وخارجية أدت في النهاية الى إحتلال العراق, وحدوث تحولات نوعية في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية .
قانون وحدة وصراع الأضداد :
إن التطور هو النتيجة لوحدة وصراع الأضداد.. فاذا كان المصنع أو المعمل يمثل وحدة صراع التناقض بين العامل ورب العمل, واذا كانت الأرض تمثل وحدة الصراع بين طبقة الفلاحين والإقطاعيين, فإن التناقضات قد تفرض أحيانا على المالكين لوسائل الإنتاج تغييرا في العلاقة مع العمال وإمتثالا لبعض مطالبهم كتحديد ساعات العمل والضمان, وقد تحسن جزئيا علاقة الإقطاعيين مع طبقة الفلاحين, لكنها لا تحدث تغيرا جديا في ملكية وسائل الإنتاج والأرض. ولا يمكن لهذا ان يحصل مالم تكتمل وحدة الضد وتنضج حدة التناقضات الى مرحلة الصراع النهائي , للقضاء على الإستغلال الطبقي . وليس من المستبعد, حدوث إنتكاسات خطيرة أثناء صراع الأضداد, قد تعيق التطور وتؤدي الى نتائج عكسية, كما حدث بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي ,الذي كان بمثابة النقيض القوي للمعسكر الرأسمالي, وكما حدث في العراق حين دخلت قيادة الحزب الشيوعي العراقي الحالية في تحالف مع القوات الغازية بقيادة الإمبريالية الإمريكية لتسجل بذلك,الحالة الشاذة والوحيدة في تاريخ الأحزاب الشيوعية,التي كانت دائما القوة الطليعية في مقاومة الإحتلال .
لا يحتمل النظام الرأسمالي, بحكم تناقضاته الإجتماعية والسياسية البقاء دون خلق المبررات لشن الحروب العدوانية واستفزاز مشاعر الشعوب, ومن غير ربط تهور سلوكياته الرعناء بالمصالح والأمن القومي ,الأمر الذي يؤدي الى تكون الجنين في رحم التناقضات وولادة النقيض,الذي ينمو ويصبح قادرا على الدخول في صراع الأضداد .
لعل أحد أكثر المرشحين للصراع في هذه المرحلة هو الدين. فقد عاد الشرق ليتحول من جديد الى طرف في صراع عنيف مع الغرب,الذي استشرس بعد انهيار المعسكر الأشتراكي واندفع لارتكاب الحماقات والجرائم ضد دول وشعوب المنطقة, دون أن يخفي نطقه لشعارات دينية غبية كالحرب الصليبية, التي وردت على لسان مجرم الحرب بوش . وما الحرب الامريكية– البريطانية على العراق بمساعدة بعض الدول المتسولة, والتهديد والوعيد لبعض الدول العربية (سوريا, لبنان,فلسطين,السودان) والإسلامية ( إيران,أفغانستان,باكستان ), والحرب على ما يسمى بالإرهاب, والتطرف الإسلامي إلا نماذج على عدوانية الرأسمالية وحاجتها الى التشبث بمبررات كاذبة وأعذار واهية لفرض هيمنتها, مما يجعلها تتخبط وتسقط كل مرة في مستنقع أقذر من الذي ما لبثت ان خرجت منه .
قانون نفي النفي :
ألغت الإقطاعية نظام المشاعية البدائية وفرضت البرجوازية نفسها كنظام بديل عن الإقطاعية لتد
خل بعد ذلك في مرحلة الرأسمالية الأكثر تطورا. وقد حصلت هذه التغيرات في التكوينات البشرية نتيجة لتراكم التناقضات الإقتصادية والإجتماعية الى الحد,الذي جعل من التعايش بين القديم المقاوم للتغيير والجديد المثقل بعوامل التغيير أمرا مستحيلا .
وتفسر المادية الديالكتيكية والتاريخية ما يحصل من تغييرات في الطبيعة والمجتمعات بأنة الغاء متواصل للظواهر القديمة بواسطة أخرى جديدة, نتيجة لإستفحال التناقضات مع الإحتفاظ بالعناصر الإيجابية للظواهر المنفية, كشرط لعملية للتطور. فاذا حدث إنقراض لبعض الكائنات الحية, ولو تطورت أساليب التكيف مع التغييرات البيئية, فذلك يعني استحالة القدرة على البقاء في الحالة الإولى وإمكانية التطور النوعي في الحالة الثانية. ولايختلف الحال في المجتمعات البشرية, حيث تؤدي حدة التناقضات بين مصالح الدول الإستعمارية المستغِلة والدول المُستعمَرة مثلا, الى الدخول في صراع, ينتج عنه حركات التحرر الوطنية, لتخليص الشعوب من التبعية للقوى الإستعمارية .
ولكن, هل تتمكن الظواهر من العودة بعد نفيها ثانية ؟, وما هي النتائج المحتملة والمترتبة على مثل هذه العودة ؟. وهل تؤدي عملية نفي النفي, وصراع الأضداد, والتحولات الكمية الى النوعية بالضرورة الى التطور؟ وماذا لو إنتكست هذه العملية ؟
لم تخطر مثل هذه الأسئلة ببال الكثيرين من اولئك,الذين عاصروا المَد الجارف لبناء الإشتراكية, خصوصا بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور المعسكر الإشتراكي, وتأييد العديد من قادة حركات التحرر الوطني للنظام الجديد. ولم يكن طرحها هينا في زمن خروشوف,الذي وعد بالإنتقال الى مرحلة الشيوعية خلال بضعة أعوام, ولا حتى في زمن ليونيد بريجينيف, حين كان ميخائيل سوسلوف يُنَظِر حول الإشتراكية المتطورة ( ( Развитый социализм. أما وقد تمت تنحية خروشوف, ولم يتمكن النظام الإشتراكي “المتطور” في فترة العقدين من حكم بريجينيف من الإنتقال الى المرحلة الاكثر تطورا, وبعد أن إنهار لإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي ,فإن هذه الأسئلة تصبح ملحة, لا سيما وان عملية التطور وفقا لقانون نفي النفي, تمثل سلسلة مترابطة ومتواصلة الإتجاه الى الأمام ونحو الأعلى, يتم خلالها الإنتقال من مرحلة الى أخرى على أساس النفي الديالكتيكي لظواهر يرفض جديدها ما يناقضها في القديم .
تحرر العراق من الإستعمار البريطاني بعد ثورة 14 تموز 1958, وحصل على الإستقلال بعد نفي أحد طرفي الصراع (الإستعمار),وها هو يُحتل من جديد, بعد مرور 45 عاما على تحريره من الإحتلال البريطاني, وهذا يدل على أن عملية التطور في صراع الأضداد قد تتعرض الى الإنتكاسة وان الإتجاه يصبح رجعيا, وليس الى الأمام كما يُفترض, مع الأخذ بنظر الإعتبار, تغير الشكل وتباين الظروف. أما السبب فيعود الى :
فشل الظاهرة الجديدة (الإستقلال) في الحفاظ على تماسك عواملها الداخلية للبقاء, وعدم تمكنها من تلافي أسباب تراكم التناقضات الداخلية, بعد نجاحها في نفي ظاهرة النقيض القديم ( الإستعمار) .
قدرة النقيض على الإحتفاظ بعوامل البقاء واستعادة قواه مع اشتداد التناقضات,التي تضعف الخصم في صراع الأضداد تجعل النقيض قادرا على الظهور ثانية باشكال أخرى, لكنها لا تختلف ولا تغير من مضمون تركيبته الإستعمارية المُستغلِة .
السبب والنتيجة :
مقولة فلسفية في الديالكتيك المادي, تصلح تفعيلات اللغة العربية ( فعل ,فاعل ومفعول به ) وواقع الحال في العراق لتوضيح مضمونها, فالسبب هو الفعل ( الحرب العدوانية على العراق ) والفاعل هو ( قوات الغزو الأنجلو-أمريكية ), أما نتيجة ما وقع عليه الفعل ( العراق ) فهو القتل , والدمار, والتشيرد, والتهجير, والسجون وأخيرا, تكبيله باتفاقية مذلة, تكافأ القتلة على جرائمهم وتتيح لهم فرص نهب الثروات والعبث بمصير العراق وشعبه .
يمكن لردة الفعل في الطبيعة أن تكون مساوية للفعل في المقدار ومعاكسة له في الاتجاه, إلا أنها تختلف عن الفعل في المجتمعات البشرية. وقد لاحظنا كيف أن ردة فعل القوى الوطنية في العراق أثناء و بعد الإحتلال لم تكن متساوية في مقدارها فعل قوات الغزو, لا لضعفها وعدم قدرتها على التصدي للغزاة, وإنما لتشتتها وهدرها لطاقاتها في صراعات جانبية, شجعت الإحتلال على القيام بجرائمه ومكنت أعوانه من المضي في دروب النذالات والإستهتار بالقيم والثوابت الوطنية .
الخلاصة :
أدت الخلافات بين القوى السياسية والدينية من جهة والنظام السابق من جهة أخرى الى اضعاف الجبهه الداخلية, وجعلت من الإحتلال وبقاء قواته في العراق أمرا ممكنا . وقد سعت بعض القوى الى الإطاحة بالنظام السابق من خلال تعاونها السافر مع أطراف خارجية, لضعفها وعجزها عن التغيير .
حكم نظام البعث في الداخل بصرامة ويد من حديد, لكنه أفلتها بدخول القوات الغازية, تاركا الجيش العراقي في مواجهه الكارثة للمرة الثانية بعد حرب الخليج الثانية .
يتحمل الإحتلال وأعوانه كامل المسؤولية عن ما حصل للعراق وشعبة, دون أن يعفي ذلك, القوى الوطنية الرافضة للإحتلال من تحمل مسؤولية غياب وحدتها, وعدم قدرتها على الإستفادة من التراكمات الكمية للتناقضات,التي خلفتها سنوات الإحتلال العجاف, وجعلها أساسا للتحولات النوعية (التحرير) في صراع الأضداد الدائر مع الإحتلال وأعوانه .