في مكنسة ، أخفِها خلف الجدار..” ، تلك إحدى خزعبلات جدتي الطيبة ، قمت بتجربتها ،وأنا أفور كزجاجة مرطبات غازية . أستعجل رحيل آخر ضيف يتلكأ في مضغ قطعة حلوى بعد وليمة عشاء معتبرة.
أجلس على صبّّّـار استوائي ، و(الأوووووووف ) تخرج من فمي المزموم تنفخ
منــطادا ، تملأ دولايب محل (بناشر سيارات) ، تشّـب شرارة جمر موقد حطب
في ليلة شتوية ، ومكيف الهواء لا يطفيء توهج حرارتي المسعورة.
أصوب نظرات حزينة ، متوسلة نحو أمــــــي ، أودّ الانسحاب .. تجهل السبب،
ترمقني بأرستقراطيتها المعهودة “:تأدبي “..
ألتزمُ الصمت .. يتململ قلبي ، يغادرني متسللا من ثقب البـــــاب ،أضع عقلي في فنجان القهوة الفارغ ، تحمله الخادمة وتمضي ..
أتجمد كعامود البلدية الصدئ ،مشلولة إلا من بؤبؤ يتجول بيـــن أسنان صفراء ولسان أحمر يدور في فلك حديث لا يُطرب، وبؤبؤ يحدق في رقاص الساعة التي قاربت منتصف ليلي الطويل ..
ينهض متثاقلا منتفخ البطن ، يغمغم بكلمات شكر ، أمد كفي ، أفرش خدي ، أقطع عليه خـــط الرجوع ،وأهّــــــــم بالهروب ، لكن قميصي قُدَّ من دبر ، بيد أمي التي لا تكـلّ ولا تمـــــلّ .. لنبدأ حوار (الطرشان) ، الجدل السفسطائي ، ودروس تطبيق
(الإتيكيت) في احترام زوار البيت .. أردد كالببغاء بنود حسن التصرف في اللباقة واللياقة ، كأني طالب يؤدي قسم الالتحاق بالتجنيد الإجباري .. ننهيه بتحية مساء، ضمة (فرجار) متباعد الساقين .. قبلة فاترة على جبهة القطب الشمالي ..
أسابق خطوي، وتسبقني (بوسي) .. تهز قطتي المدللة ذيلها تشاركني وجدانيا : غضبا، دعما، ومؤازرة ..
أدخل محرابي ،أحرّر شعري من عقده ، أفك أسر جسدي من الخيوط والخطوط ، أقص شريط باقة ورد جوري ، أشكل سهما يخترق قلبا أحمر..
أثقب ليمونة، أدس ورقة تحمل اسما ، وأغرزها بسبعة دبابيس . أشعل شمعة وأترك الليمونة تذوب على شعلة اللهب .. فيشتعل قلب الحبيب ، وبطرفة عين جنيّ يأتي على عجل ، هكذاتزعم جدتي ..
ألتقط قصاصات الصور السرية ، أطفيء الأنوار ، أبرك كالجمل على البلاط أستمد بعض الرطوبة ، وقد أقعت قبالتي (بوسي ) متحفزة ، متأهبة لأي خلل فني طاريء قد يفسد السهرة ،وأعلن بدء طقوس تجميع لعبتي الورقية.
زادي الليلة عينا صقر، أنف ، فم ، شارب ،جبهة ، وجنة بدوي ، ابتسامة طفل أسمر اللون بهي ، و رصيدي السابق ..
يد تسكب الشاي ، تعقد ربطة، ترتدي جوربا ، تخلع فردة حذاء ، تطوي قميصا ، تقرأ صحيفة ، تسرح خصلة شعر يغزوها بعض الشيب . أمرر أصابعي على الجزء المفقود من الصورة المبتورة .. تنتصب قامة ممتدة العود ، معتدة بقوامها ،غير فائقة الجمال ، ولا تصل حدود الكمال ،و في مرآة قلبي أراها ل( أعتـى ) الرجال..
رنة ، يتمايل الخصر ،رنتان ، يشرئب العنق ، الثالثة ، يسود سكون ..
– لا أحب الهاتف المحمول ، تشاركني فيكِ عشرات الآذان ، أحب هاتفكِ الأرضي الغافي على السرير بين أغطية، وملمس شراشف الحرير .. وتكونين لي وحدي أنا …
– ياااااا وحدنا.. !
يقهقه ، أرجووووووووك .. لا تقلبيها سياسة..
الرنة الرابعة ترتجف يدي ، تهيم روحي وأنصت :
– أشتاقك ..
– ……..
– لؤلــؤتي
– ……..
– دفء صوتك الأنثوي ، يسحرني ، يضمني ، يبعثرني .. على أعتابه أستريح وأرتمي .. تكلمي ..!
– أنااااااااااا ..
– مابك يا كنزي الثمين ؟..
– أعرفُ أن أيامكَ سريعة ، أنفاسك متلاحقة ، وعمركَ يمضي بين تلال الورق وبحور المداد ، وأدركُ أنك أمس ، اليوم ، وغدا ، وبعد غد تتوسد مقالا ، تعانق تحقيقا ، تحلق بفكرة ، تحدق بقصيدة ، تنبض بقصة ، وتتنفس بأسلوب مبتكر كي تحافظ على الخط ، الخطوة والطموح . أنا معكَ وأشد على يدك ، لكـــــــــن …
– لكن ماذا .. ؟
– أنتَ وأنا حرف الضاد يجمعنا ، حدود الوطن العربي مسكننـا ومع ذلك لا يستطيع أحدنا قراءة وجه الآخر .. رغم قراءاتك المستمرة في أعماق امرأة متميزة ، ومطالعاتي الدائمة لأعماق رجل مبهر..
أسآلت الكلمة دموعي الهشة الواقفة على قشة ..
– يا فرحتي لا تبكي .. آتيكِ غدا ، ألقي مرسا
تي في ميناء انتظارك ، تجففين ملح الغربة، أكمل العمر معكِ ، نغزلُ الكلمات ، نطرزُ اللحظات ، ننسى ما فات …
– غدا !ولن نفترق …؟
– أقسم بالمصحف المدلى على صدركِ الحنون أننا لن نفترق..
تسقط السماعة ، تلتقطها (بوسي) قبل أن تقع ، تجرها نحو الصورة ، تضع القلب النازف شوقا في (الفراغ) ،وتمـــــــــــوء….
محاسن الحمصي