علي الجفال*
تتطلب قراءة المشهد السياسي العراقي الآن تحصيناً بأسئلة منهجية تسوِّغ محصلةُ إجاباتها عمليات الفرز الموجبة والملحّة بين خندقين متداخلين، يهدف أحدهما إلى تحرير العراق من براثن الاحتلال الصهيو-أمريكي وإرهاصاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو الخندق الذي تمكَّن حتى هذه اللحظة من إنجاز مراحل متقدمة على هذا المسار، فيما يسارع الخندق الثاني للمتاجرة بذلك الإنجاز للحصول على منافع شخصية من دول ومنظمات وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية.
ويزداد التداخل بين الخندقين كلما حقق الخندق الأول انتصاراً يؤثر بشكل مباشر في بنية الاحتلال ويسرِّع من هزيمته، إذ يسارع الخندق الثاني إلى فعل استعراضي بغية تجيير هذا النصر لمصلحته، وغالباً ما يتمثل هذا الفعل الاستعراضي بمؤتمر في إحدى العواصم العربية مدفوع التكاليف من الرياض أو الكويت أو طهران، أو بالإعلان عن قيام تجمُّع أو جبهة أو اتحاد غالباً ما يرتبط اسمه بـ(تحرير العراق).
والتهافت المحموم الذي نراه الآن على عقد مثل هذه المؤتمرات وتشكيل الجبهات، ليس سوى انعكاس مبتذل لنشاط موازٍ تقوم به أجهزة مخابرات عربية وإقليمية لتحقيق الأجندة الصهيو-أمريكية التي تستهدف وحدة العراق تحت ذرائع ومسميات مختلفة أكثرها رواجاً لعبة (الأقاليم)، وتستهدف كذلك قوى العراق الحية، وفي المقدمة منها فصائل المقاومة البطلة التي قطعت شوطاً كبيراً في مهمة التحرير تاركةً مهمة التصدي لعملية فكِّ الاشتباك بين الخندقين للوطنيين من مثقفي العراق.
وإذ يتذرع البعض بحسن نوايا القائمين على عقد مثل هذه المؤتمرات وتشكيل هذه الجبهات في محاولات لتقليص مسافات الخلاف، فإن الوطنية العراقية الحقّة تستدعي اختباراً حقيقياً لهذه النوايا من خلال تمحيص تزامن عقدها مع منعطفات خطيرة مرَّت بها الأزمة العراقية على مدى سنوات الاحتلال التي تقترب من عامها السادس.
إن هكذا تمحيص يقود حتماً إلى فضح أحزاب وتجمعات وشخصيات أخفقت، رغم كل ادعاءاتها، في بلوغ عتبة الفعل المقاوم، واقتصرت علاقتها بالمقاومة على الجانب التجاري الذي حقق لبعضها أرباحاً طائلة على المستوى المالي وخسارات فادحة على المستوى الأخلاقي.
هذه الأحزاب والشخصيات تعي أن اقتراب موعد النصر يؤشر لاحتضارها، لأن إنجاز النصر يعني موتها كونها ستفقد آنذاك النسغ الذي تستمد منه أكاذيبها، وبالتالي ستفقد حياتها السياسية، وهي لحظات مرَّت بها فصائل وشخصيات ما كان يسمى بالمعارضة العراقية في مرحلة ما قبل الاحتلال، حيث كانت لحظة إسقاط النظام السابق هي لحظة موتها السياسي فقد وجدت نفسها في حالة بطالة سياسية أدت ببعضها إلى الانزواء، وببعضها الآخر إلى الذوبان في أحزاب وتكتلات دينية طائفية، فيما لم يجد بعضها الثالث موطئاً لقدمه في المشهد السياسي الجديد، فراح يعيد تلميع بضاعته القديمة ليحاول تسويقها في أوساط المقاومة العراقية التي كان حتى الأمس القريب من ألد أعدائها، بل ومن أكثر المتحمسين لإلصاق تهمة الإرهاب بأبطالها، حتى إن الأمر وصل ببعض هؤلاء إلى سرقة شعارات المقاومة الوطنية، وأخذ يزايد على فصائلها، في ادعاء مقاومة الاحتلال بعد أن كان حتى وقت قريب يجاهر بكونه جزءاً من المشروع الأمريكي في العراق.
وللحديث صلة..
*رئيس تحرير جريدة المدار