قال أبو هلال العسكري في أول الباب الثاني من كتاب الصناعتين:
” الكلام أيدك الله يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيّر لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشابه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخيره لمباديه، مع قلّة ضروراته، بل عدمها أصلاً، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه. فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقا، وبالتحفظ خليقاً.”
استوقفتني هذه العبارة وأنا أعيد قراءة (الصناعتين) في إطار محاولة بلورة جديدة لمفهوم الشعرية عند العرب. فالعسكري يلخص فيها بطريقة لافتة كل تقنيات البلاغة العربية التي تتطلبها الصناعتان؛ النثر والشعر، بحسب المفهوم القديم.
ينبني كتاب الصناعتين كله على مبدأ اتفق البلاغيون قديما على اتخاذه تعريفا للبلاغة وهو (مطابقة المقال لمقتضى الحال)، غير أننا نكتشف أن هذا التعريف لا يشير إلى قضية عقلية بحيث يكون الكلام بيانا واضحا متين الحجة قوي البرهان، بل كانوا يعنون أن يكون الكلام مناسبا للمخاطب والغرض من حيث بنيته الفنية فيكون مؤثرا في النفس التي يتخذ منها طريقا يتسلل من خلاله إلى العقل من غير المرور بمرحلة الإقناع بالحجة، ويجدر بالذكر هنا أن القرآن الكريم اتخذ هذا التكنيك وسيلة لمخاطبة العرب والتأثير فيهم فكانت معجزته البناء اللفظي قبل البناء العقلي.
هناك الكثير من القضايا التي يطرحها العسكري في العبارة السابقة مما يجب التوقف عنده، غير أننا سنركز هنا على ما نراه مهما ويتسع له مدى هذه المقالة.
وأول ما نريد التوقف عنده قوله: (وتخير لفظه)، فالعسكري هنا يعارض النظرية التقليدية التي كانت شائعة في أيامه، التي كانت تربط الأدب بعوالم ميتافيزيقية مثل الإلهام وشياطين الشعر، فهذه الجملة تُظهر أن العسكري ينظر إلى الفعل الأدبي على إنه فعل إرادي واع، فالأديب أكاتبا كان أم شاعرا، هو المسئول عن اختيار المفردات ونظمها ولا وجود لقوى ملهمة. وعلى هذا المبدأ تترتب الجمل التالية في العبارة التي ستحدد فلسفة البنية الفنية كما يراها العسكري.
مع إن قول العسكري في آخر عبارته: (فتجد المنظوم مثل المنثور) قد يوحي بأنه يرى أن النثر هو الأصل في الأدب، فإننا نرى الحقيقة ضد ذلك كما تبين الجمل السابقة، ولكي نتمكن من توضيح الأمر لابد من الإشارة إلى سمات الهيكل التقليدي لشكل القصيدة العربية، فالقصيدة تتخذ من البنية الثنائية أساسا، فالمطلع وهو البيت الأول يتكون من قسمين متساويين في الطول، هما الصدر والعجز ولأنهم أرادوا لفت المتلقي إلى هذه البنية اشترطوا وجود التصريع في المطلع إمعانا في إظهار الطبيعة الثنائية للبنية، أما الأبيات التالية فليست إلا تكرارا لهيكل المطلع الثنوي، وبهذا تتكون البنية الشكلية للقصيدة نظريا من سلسلة لا متناهية من الثنائيات.
ولنعود الآن إلى كلام العسكري لنرى كيف أنه يستخدم أوصاف البنية الشكلية للشعر في معرض الحديث على النثر، فقال: (وجودة مطالعه، ولين مقاطعه)، فالمطالع هي أوائل الكلام مثل مطلع القصيدة، أما المقاطع فهي أواخره، غير أن المهم أن نلاحظ هنا أن المطالع والمقاطع في البلاغة القديم لا تختص بالنص بتمامه حسب، فكل وحدة موضوعية أو فقرة لها مطلع ومقطع، وكانوا يسمون المقطع في غير الفقرة الأخيرة (التخلص) لأنه يتخلص من الكلام السابق إلى اللاحق واستحسنوا فيه أن يكون رابطا معنويا بين الفقرتين، فكان المداح يصف الديار ثم يقول انه سيرحل عنها على ناقة او فرس يجيد وصفها لأنها ستحمله إلى ممدوحه وهكذا يكون وصف الناقة مقطعا لوصف الديار ورابطا بقسم المدح وعند ذلك يقال ان ذلك النص اتسم بحسن التخلص، بالربط المعنوي بين عنصري الثنائية (مقطع-مطلع)، وهذا ما قصده العسكري بقوله (ولين مقاطعه)، وبذلك فرض هذا التكنيك الشعري على النثر.
ثم يأتي العسكري بحشد من الثنائيات التي توضح سلطة البنية الشكلية للقصيدة على كل فنون القول. فمصطلحات التشابه والاستواء والتعادل والموافقة كلها تدل على علاقة ثنائية متكررة مثل قوله: (ونعادل أطرافه) فكلمة تعادل علاقة ثنائية تشبه الميزان ذا الكفتين، لكن اللافت هنا أنه قال (أطرافه) ولم يقل طرفيه، والعلة في ذلك فهمه للبنية الشكلية على أساس بنية الشعر الثنائية المكررة تكرارا لا متناهيا. وقل مثل ذلك على العلاقات الأخرى كالأعجاز والهوادي والبوادي والمآخير.
إن تأملا سريعا للنثر العربي التقليدي المسجوع كفيل بأن يوصلنا إلى قوة سلطة البنية الثنائية للقصيدة العربية على النثر، انظر مثلا هذا المقطع من خطبة قس بن ساعدة الشهيرة:
أيها الناس، اسمعوا وعوا، واذا سمعتم شيئا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
ماذا لو كتبناها هكذا:
اسمعوا وعوا
واذا سمعتم شيئا فانتفعوا
من عاش مات ومن مات فات
وكـــــــل مــــا هــــو آت آت
فالذائقة العربية كانت تفترض تساوي السجعتين الأوليتين، وطول السجعة الثالثة، فأول سجعتين تشبهان مطلع القصيدة في تساوي شطريه وانتهائهما بالتصريع، بينما تكون السجعة الثالثة كما لو كانت بيتا ثانيا.