الثورة الفلسطينية والمصابين بالكساح الفكري والنضالي
عندما تظهر المبررات لممارسات خاطئة فهي إحدى معالم القصور الفكري والنضالي وعندما تظهر المبررات والأطروحات التراجعية يعني ذلك أننا بحاجة إلى العودة إلى الثقافة ، فعندما تختلف الأمم فيما بينها تعود إلى ثقافتها كعامل موحد رئيسي يتجاوز كل الثانويات .
بلا شك أن من الأخطاء الجسام أن الثورة الفلسطينية ومنذ انطلاقتها لم تستطيع بلورة ثقافة فلسطينية موحدة تكون عامل وقاسم مشترك بينالقوى الفلسطينية في صراعها مع العدو الصهيوني ، فتعدد الثقافات والأيديولوجيات وكان القاسم المشترك بين تلك الأيديولوجيات هو الميثاق الوطني الفلسطيني المعبر عن مصالح الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة إلى أرضه .
ومن هنا اكتسبت منظمة التحرير الإجماع الوطني في بداية عمرها النضالي كمعبر حقيقي عن طموحات الشعب الفلسطيني وخاصة عندما خلعت ثوب التبعية بطبيعة تكوين اللبنة الأولى لها وتحولها إلى فكر المقاومة وبرنامج المقاومة .
سريعا ما ذهبت منظمة التحرير في ترهات السياسات الإقليمية التي دفعت بها إلى مواقف دولية وبدون نضوج فكري وبدون نضوج نضالي ، ونحن نعلم أن أي صراع في العالم بين قوتين أو بين شعوب محتلة وقوى إحتلال يخضع لمعادلات غاية في الدقة تحكم هذا الصراع وبناء على ذلك يتم تحديد البرنامج السياسي بناء على هذه المعادلة التي ثوابتها ثابتة ولكن نتائجها تخضع للدقة في رسم السياسات التي تؤدي إلى تحقيق نتائج إيجابية .
لقد أصيبت قيادة منظمة التحرير بالعقم والكساح الفكري والنضالي في إدارتها للصراع مما دفع تلك القيادة إلى وضع عدة مبررات للجنوح وكما قال الشهيد صلاح خلف أن الخيانة أصبحت “وجهة نظر” ومن هنا تتدافع المدافعين عن الجنوح من كتاب واصحاب مصالح في وضع المبرر تلو المبرر من أجل صياغة برنامج سياسي بمنظور المحافظة والإعتراف على ذاتيها فقط ، وليس الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في النضال والثورة وإخراج المحتل من أراضيه .
إنهم المصابين بالكساح الفكري والنضالي عندما حرفت النقاط العشر في أوائل السبعينات إلى منهجية تعتمد على الإتصال المباشر والغير مباشر مع العدو الصهيوني على قاعدة إقامة الدولة وأي دولة ، الدولة التي لها وصف في المعيار الموضوعي هي على أي جزء محرر ويأتي هذا الجزء بناء على معادلة الصراع وتفوق الثورة على قوى الإحتلال ، الأمر الذي يدفع بالإحتلال عن التراجع عن منهجيته وبرنامجه السياسي إلى الخلف وحدث عكس هذه الفرضية والمعيار الموضوعي أن الثورة الفلسطينية وعن طريق قيادة أصيبت بالكساح الفكري والنضالي أن تراجعت إلى دروب مختلفة أدت إلى أوسلو ووثيقة جنيف وخارطة الطريق.
بلا شك ما كان يمكن لهذه الثقافات التنازلية أن تؤدي فعلها بدون التدمير الفكري للأطر والمؤسسات الثورية فلكل نتيجة مقدمات فلا يكفي تشريح أوسلو أو وثيقة جنيف أو القائمين عليها ومنفذيها وقادتها بل كان يجب أن نبحث في المقدمات التي أدت إلى ظهور هذه الممارسات الإنحرافية والفكرية التي أدت لقيادات أن تتجاوز الخطوط الحمراء في طرحها التخاذلي لكي يصبح واقع وأن تصبح الخيانة بحق الشعب والأرض “وجهة نظر” .
وهنا لا نعفى من المسؤولية عن الواقع المتشرذم في الساحة الفلسطينية والذي أساسه فكري وكساح نضالي من إجراءات العدو والقوى المتعاونة معه في الساحة الفلسطينية والإقليمية والدولية والتي أثرت على طيعة قيادة هذا الشعب وتسلقها إلى الموقع الأول في رسم السياسات الفلسطينية .
من أوجه الكساح والتضليل على نقاط الضعف في الفكر النضالي أن تعطي عدوك مكتسبات وامتيازات وحقوق بخطاب ثوري وخطاب نضالي ، وهنا مكمن الخطورة على منهجية الثورة وعطاءها وبناءها الداخلي والخارجي ، وهذا ما وقعت فيه الثورة الفلسطينية ، فالمقدمات كانت أخطر من النتائج من تحلل في أدبيات الثورة والثقافة الفلسطينية والتعمد المسلكي في وضع حلقات مفقودة وحلقات من الفراغ تتغلغل من خلالها القوى المضادة للثورة لكي تصنع لها ثقافة بديلة عن الخطاب والمنهاج الثوري.
ومن هنا يصعب الحل أمام الشعوب وخاصة في مناخات دولية وإقليمية كما هو موجود الآن حول القصية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية .
الثورة بفكرها هي أداة عطاء ومبادرة وليست أداة تلقي وتطبيق من المؤثر الإقليمي والدولي ومتى حدث ذلك يعني ذلك أن الثورة في إنحدار وفي تهاوي إلى المجهول مما يهدد المصالح الحقيقية للشعب الفلسطيني .
المبررات المطروحة هي مبررات تشويهية تدل عن عجز وكساح فكري ونضالي غير قادر على مجاراة الحدث والمتغير ، بل هي غير قادرة على صناعة الحدث في حد ذاته التي تتميز به أي ثورة في العالم وهنا يجب أن نفرق بين المناورة الثورية وعملية التلقي المميتة لإحتمالات أعدها العدو في صراعه مع الثورة .
ما تعاني منه الساحة الفلسطينية ومما تقدم هو نتيجة انهيارات فكرية وتراجعات عن مبدأ الإنطلاقة و احتماليات المتغير في الصراع ، ولا يعني هنا احتماليات المتغير أن تتخلى الثورة عن مبادءها و أهدافها ومنطلقاتها وإستبدال كادرها المقاوم بكادر يعتبر أن ال
خيانة “وجهة نظر” يجب أن يعتد بها وبصياغتها وبمناوراتها التي لن تكون أساسا تجاه الصراع مع العدو بل تكون في إتجاه القوى المحافظة على منهجية الثورة والنضال .
ما تعانيه الثورة الفلسطينية إذا صح التعبير في هذه الآونة وهذا الظرف على مسلكية القيادة الفلسطينية فإنها عملية من عمليات التغييب والتلفيق وسرقة الثوب الثوري من أجل الوصول إلى انهيارات أكبر تحقيقا وأكثر تدميرا في الأطر الثورية والمؤسسات واستبدالها بما يناسب من احتماليات تطبيق فرضيات للعدو كما يحدث في مدينة الخليل أو في القدس أو من حصار غزة ، ومن هنا نقول أيضا أن ثقافة وعد بلفور كانت مقدمة وليست كل المقدمات لعملية إنجاز كيانية صهيونية على أرض فلسطين في الوطن العربي ،فكان لا بد من برنامج متداخل لإعطاء الصفة الشرعية والكيانية لهذا العدو على تلك الأرض ، ولم يكن وعد بلفور كافيا لإعطاء هذا الوعد الباطل في إنشاء تلك الكيانية الغاصبة وما أضفي عليها بحملات إعلامية وقانونية شاملة كدولة حضارية وديمقراطية في المنطقة بنيت دعائمها على الاغتصاب والقتل والتدمير .
ولكن كان ما هو أخطر من هذا الوعد بشكله المجرد وهنا لا أريد أن أدخل في نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية بقدر ما اقول أن العدو الصهيوني أنشأ دولته على أرض فلسطيني نتيجة عقم وجنوح فكري في إدارة الصراع مع قوى الحرب العالمية الأولى والثانية من قبل الرؤساء العرب ، وخاصة عملية الهجرة اليهودية وما تلاها من ثقافات من الوطن العرب لدعم الكيانية الصهيونية في فلسطين ، فالعجز الفكري و الوطني و الثوريك ان يقول أن هناك عجزا في صياغة التحالفات الإقليمية والدولة فإذا ما نظرنا إلى الإتحاد السوفييتي الدولة المصدرة للمغتصبين الصهاينة إلى فلسطينيو الذين كانت لهم اليد الطولى في عملية نزوح وإحتلال الأرض في حين أن تلك الدول استمرت علاقاتها مع الإتحاد السوفييتي بدون النظر عن المؤثرات الحقيقية على مكامن القوة في الصراع والذي لا يعلمه الكثيرون أن هناك من محطات البث الفضائي في المجتمع الصهيوني على ارض فلسطين تنطق بالروسية ، وأصبح المجتمع الصهيوني موالي للإدارة الروسية كما هو موالي لإدارته الذاتية ، ومن هنا نقول أن العجز الفكري لا يضع مجالا لوضع الحلول وإستخدام كل الضغوط على روسيا في مجال صياغة المصالح في المنطقة لوضع حل ديمقراطي على ارض فلسطيني بدلا من ترهات الغيبوبة الفكرية والإنحلافية مثل خارطة الطريق و أنابوليس وأوسلو ووثيقة جنيف .
التشابك مؤكد بين العجز الفكري والنضالي والوطني في الساحة الفلسطينية والساحة العربية فيعتبر وعد بلفور هو الوعد الأول ولكن تلاه عدة وعود كانت قد أنجزت وأخذت فعلها في إتجاه يصب ضد مصالح الشعب الفلسطيني و العربي بدءا من محادثات جنيف و أوسلو ووعود بوش بشرعية الإستيطان في الضفة وخارطة الطريق ووثيقة جنيف كل تلك الإتفاقيات مكملة لوعد بلفور الذي يعطي الحق للصهاينة في إقامة الدولة التي حمتها تلك المبادرات والإتفاقيات لتحقيق الأمن لوجودها على أرض فلسطين ، بل زاد الأمر عن ذلك ومنذ 1919 عندما تحدثت وثيقة عربية مع وايزمان على أحقية اليهود في إقامة الدولية وتوفير وفرص العمل للصهاينة على أرض فلسطين وإقامة التعاون والزراعي والعلمي بين المؤسسات العربية والمؤسسات الصهيونية وهذا ما هو دارج الآن بالفعل فنرى كثير من تبادل الخبرات بين أنظمة عربية والعدو الصهيوني في مجال الزراعة والصناعة والتربية الحيوانية وربما أكثر من ذلك أي يعمل الوطن العربي والكيانية السياسية الفلسطينية المتمثلة في تيار أوسلو بتنفيذ ما جاء في تلك الإتفاقية التي صيغت ثقافيا وسياسيا وأمنيا في عام 1919 مع وايزمان.
إذا أزمة الثقافة والعقم الثوري هو الذي أفرز حالات التشرذم والتراجعات في الساحة الفلسطينية وهي السبب الحقيقي في نظامين سياسيين وأمنيين في الضفة وغزة وتبقى عملية العقم الثوري والكساح الفكري هي السمة الدارجة للقيادة الفلسطينية التي ستعطي مزيدا من التهتك على واقع الشعب الفلسطيني وعلى ثقافته ووحدته ، ومتى يستطيع الشعب الفلسطيني تجاوز وعود بلفور المتكررة بدءا من كامب ديفيد وأوسلو ووثيقة جنيف والمبادرة العربية فإننا نقول أن هناك إنجازا فكريا وثقافيا متقدما حققته الأمة على طريق صيانة الحقوق وعدم التفريط.
بقلم / سميح خلف .