سلوى بن رحومة
هو لغة كالماء تجري ، الشعر فيها قربان لآلهة الأرض والحب ، الشعر مملكة الروح وخطاها على الأرض ، الشعر نفحات من ملائكة الرحمان والقصائد أزهار بطيب الجنة وطعم الحياة .
منير مزيد المتفرد في لغته في مناخاته ، إلهامه وصوره ، في مواضيعه وإشكالياته ، يكتب
للمرأة ، للقصيدة ، للأرض وللإله . ..نعم ،فالحب عند منير مزيد لا يختصر في موضوع المـرأة و إِنَّمَا يمتد معه إلى الأرض وإلى الذات العليا .. تلك الذات التي تتسلل الى قصائده وتختبىء وراء جملها في بساطة وسلاسة مستعصية هي سر منير مزيد ..
هذا الشاعر الفلسطيني الذي عشق اللغة وكل اللغات كتب صمته وصوره على جدران الحياة بصوت مغدور وأوجاع متعاقبة ..
” ما بيني وبين الحياة
حاجز من الصمت
وسر لامتناه من الدهشة
والألم .. “
منير مزيد اختصر آلامه وآلام العالم في كلمات ،إختارَ لها لغة الشعر حتى صار الشعر لغة لفلسفة الحياة , لغة تفكر وتشكل أجمل آت .. الشعر فيه سلاح يهزم كل الصعاب وإن اختلفت الوسيلة عن البقية إلا أنه يعلم إن الكلمة تحكم الإنسان والعالم أيضاً وليست فقط البندقية .. !
” أَنا وصديقي مختلفان …
.. يحلم بتحرير العالم …
إما أَنا رجل عادي
وبسيط
أحلم
بان لا أَرى البراعم
تموت عطشا” .
يختلف المبدع كثيراً عن الإنسان العادي ، وعن العالمين ، لكن هذا الاختلاف ليس دائماً لتاليهه لأن المبدع ليس متشابها دائما. فأحيانا يخيل الي إن المبدع واحد من إثنين لا ثالث لهما . إما أناني مغال في أنانيته وانغلاقه على نفسه ، وإما ملاك مفتوح قلبه وروحه على الناس ولها ، بل مفتوح لكل العالم ولكل المخلوقات ، والشاعر منير مزيد من هؤلاء الذين يشعلون حطب اللغة من أجل قطرة موسيقى، ومن أجل ضحكة طفل ، ومن أجل طلعة فجر، ورقصة للأسماك في
الماء .. منير مزيد سيشعل حرائقه في اللغة لتصير القصيدة ممزوجة بسحر يسري في مسامات الروح فيطربها حتى لا تستغني عنه بعد ذلك ..
صوت ما
يعصر
ثمار الحلم في كاسي
قصائد
لينتهي إلى إن
شعري و الإله واحد
كلاهما
لا يموت.. “
هذه الرهبة التي يصنعها لشعره ، وهذا الإجلال لفعل الكتابة لا يليق به إلا عبارة متمردة جريئة خاصة لا تشبه غيرها ، خاصة إذا اعتبرناها مثله مهداة من الله خالدة لا تنضب ولا تنقطع.. ولا بد أننا نتفق معه في إن صدق الكلمة يجعلها لا تموت وحرارتها تجعلها أيضاً لا تموت ، هذا الصدق الذي يكتب به منير مزيد فيخترق جدران صمتنا وبعد مسافاتنا ويطوي به اختلافاتنا واني هنا لا بد ان أأكد على إن الشعر بالذات يعكس نفسية صاحبه ولو اني لم أدرس سيكولوجية الإبداع إلا أني أجزم بحكم ممارستي لفعل الكتابة بأن فيه شيء منا ، شيء كبير منا لا في الحكاية التي نسردها شعرا وهي التي يركز عليها النقاد خاصة ، وانما في الشكل الذي تأتي فيه القصيدة والعبارات التي تعتبر قاموسه لا قاموس غيره .. منير مزيد مفتاحه في قصائده واذا كنت تعرفه عن قرب فانك مغمض العينين ستقول هذه قصيدة منير مزيد دون ان تصل الى قراءة اسم الشاعر. والمؤكد إن
هذا هو المطلوب في الكتابة والمفقود أيضاً تقريبا لأن البصمة هي التي تصنع اسم الشاعرِ وهي التي تحدد شعبه وشعبيته معا ، و منير مزيد قد اختار عن وعي أو غير وعي جمهورا من كل الأجناس والأعمار والثقافات لَيسَ لأنه يكتب بأكثر مِنْ لغة وانما لأنه يجيد الوصول إلى أكثر من عالم فينا واينما كنا لأن الإنسان في النهاية واحد يتوق إلى ما يتوق إليه الإنسان مهما اختلف عنه في ثقافته وأصوله .. منير مزيد لم يصل إلى العالمية لأنه يحسن الكتابة بأكثر من لغة وانما لأنه أحسن اختيار الحقيبة التي يحملها جوازه الينا ..
هذا هو المطلوب في الكتابة والمفقود أيضاً تقريبا لأن البصمة هي التي تصنع اسم الشاعرِ وهي التي تحدد شعبه وشعبيته معا ، و منير مزيد قد اختار عن وعي أو غير وعي جمهورا من كل الأجناس والأعمار والثقافات لَيسَ لأنه يكتب بأكثر مِنْ لغة وانما لأنه يجيد الوصول إلى أكثر من عالم فينا واينما كنا لأن الإنسان في النهاية واحد يتوق إلى ما يتوق إليه الإنسان مهما اختلف عنه في ثقافته وأصوله .. منير مزيد لم يصل إلى العالمية لأنه يحسن الكتابة بأكثر من لغة وانما لأنه أحسن اختيار الحقيبة التي يحملها جوازه الينا ..
الحياة عند الشاعر حب وتحاب بين الأشجار والأمطار طبيعة نائمة وحركة دافئة تجاوب بين كل الكائنات التي يتعامل معها في قصائده وكانها عاقل متفاعل ومضيف إلى الحياة لا مفعول به ولا غرابة في أن ينتهي مشبها نفسه بإحدى هذه الكائنات التي تسكنه عوض أن يسكنها وتضيف إليه وتغير فيه عوض أن يستعملها ويغير فيها ولعل غرابة الصورة جزء من متعة القراءة له لأننا معه نكتشف أنفسنا ونكتشف كم علينا أن نكون ايجابيين في الحياة ولو بمجرد التفكير إيجاباً
ربما
قبل
أكثر أو اقل / من الف عام /
كنت فراشة أو زهرة
أو ..
اسألوا القصيدة
ولعل الدعوة موجهة إلى داروين و إلى الذين يشتغلون على مدونته العلمية من أجل إعادة البحث لأن الإنسان في نظر الشاعر لا بد أن يكون أصله من طيب ومن ألوان وهذا هو الجمال الذي يبحث عنه في الإنسان والذي يريده فيه ولذلك ربما يسترجع جذوره ويعود اليها …
منير مزيد طفل كبير يستكشف الحياة ويسميها باسمائه لا باسمائها التي تعودنا عليها يحملنا إلى أكثر من عالم و بأكثر من لغة لتكون القصيدة دائما شاهدا على حياته ومواقفه وكانها شخص عاش معه ” اسألوا القصيدة “. هذه القصيدة التي يجعلها مبدأ الكون ونهايته كيف لا وهي باب الروح والطريق المؤدي إلى الله والمفتاح اليه . لعلنا نتساءل أحياناً من يكتب من ؟هل تكتبه القصيدة بوحيها المنساب من السماء ام هو من يصفف حروفها ويلاعب كلماتها ثم لا يتورع أن يجعلها شاهدا في النهاية .. شاهدا حتى على حياته ونفسه و كأنها ولدت قبله و كأني به يدعونا من جديد للاعتراف بأن المعرفة تذكر .
ثم ينتقل بنا بين كل المواضيع جاعلا بينها خيطا رقيقا موحدا لعناصر الكون والحياة و الذي يؤثث الكون ويحميه ويزرع التوازن فيه هذا الثالوث هو عشقه الابدي ولا أظنه يطلب من الحياة غيرها.. بل هو يطلب أن يكون مفعولا به من طرفها ولاسيما وأن القصيدة تضيء حياته
وتكتبها ، فالكتابة عالمه جدرانه سماؤه ومرقده هي التي تفتح آفاقه لباقي أبواب الحياة مع الكتابة يكتشف لذة الحياة وعظمة السماء ..الكتابة تثمن وجوده وتحميه.. أليس يتنفس الحروف فكيف لا يكتب شعرا ..؟
ما ان تكتبني
أصير عاشقا لله
للمرأة والأرض .. !
طقوس القداسة عنده متفردة كلغته وشخصه ، يصنع منها عالما غريبا عنا قريبا منا أساسه الحب ونهايته دعوة للحب بكل أنواعه .. ولأن الكلمة هي التي تقوم بكل هذا العمل النبيل ، قرر منير مزيد أن يغير العالم ..لتنزل الملائكة من سماء الـ…شعر..فالقصيدة صارت مقدسة بما إنها حديث عن الحب والأرض والإنسان والإله
ما أن اصرخ وا اماه
تهبط الملائكة من سماء الشعر
حاملة روائح وأزهار الجنة … ! “
هذا الحب الذي يبحث عنه الشاعر بين الشجر .. في السماء وفي الأمطار .. فهل كان الشاعر محظوظا بالحب ..
ما أن أدخل حديقة
تتبعني حوريات الاولمب
الفراشات والعصافير
وتناديني المقاعد.. ! “
لعل المـرأة في شعر منير مزيد هي المحظوظة بكلماته لأنها وجهه الآخر ..
حين أُريدُ أن أظهر
مفاتن ذاتي..
لم نر من قبل شاعرا يضيف صدقا لذات المـرأة أكثر مما اضاف لها منير مزيد الذي أضاء عتباتها وجعلها
من تروض خيول ذاتي
المتمردة
وتمتطيها راغبة ….
هذه خلاصة مفتاح تنطبق على الرجل عموما يهبها الشاعر واعيا أو غير واع للمرأة التي تريد أن تلج الرجل ، هذا المختلف المتمرد القاسي بثقافة مجتمعه المتعالي برجولته يحتاج دوما لإمرأة تهذب وتشذب تقابل القسوة باللين والجفاء بالحنين ، امـرأة تعلم روحه كيف يحب لتمسك لجام قلبه بيديها ويهنأ بها وبين يديها فهي عند الشاعر الدفء الحالم والجنون المسكون بعبارة واحدة ..
دعيني ألخص الأحلام
وهذا الجنون…
في عبارة واحدة:
أحبك!…
يتواصل حلم منير مزيد بين يدي المـرأة التي تشكل وجهه حينا وأحلامه حينا آخر لتكون أصل الحياة ومنبعها ، هي ينبوع يستلهم منه قصائده وحلاوة الحياة ، ولعل صوره تأتي مختلفة حتى في حديثه عن الجسد أي جسد المـرأة ، فبرغم جرأة كلماته ونفس عباراته إلا أنه يكسوها بما هو بين السطور يتنفسه فنحسه معه دون أن نجد له وجودا جغرافيا على الورقة ، هو قداسة لهذا الجسد الذي ليس له معه مشكلة غير أنه معه تكتمل ذاته والذات الإنسانية عموما ولعلنا في جل قصائد منير مزيد نلاحظ تفرده في العبارة والاختيار كما قلنا وهو اختلاف مع جل الأقلام العربية التي تكتب الشعر ومأتاه مصادر منير مزيد المتنوعة والتي اضافت إلى شعره نفسا جديدا علينا فمزجت روح الشعر العربي بنفحات الشعر الغربي وعبير لا نعرف من أي القصائد يآتي عبقه. فمصادر الشاعر في القراءة متعددة بحكم حذقه لأكثر من لغة مما جعله أكثر اطلاعا على الشعر في العالم عموما كالشعر الصيني والروماني ( الأوروبي عموما ) والأمريكي والفارسي والهندي .. وإن كان لا بد له من تأثر بهذه الاختلافات فإن الشاعر قد اختار أن يترك العنان لنفسه تحفظ ما اقترب منها وتعلقت به فجاءت الصورة و الدلالة والشفافية و الإحساس متعانقة كل ينبض بقلب الآخر ليكونوا سنفونية تليق باسم منير مزيد ..
حلمت
بأنني شجرة لوز
مزروعة في تربة عينيك…
ونهدك
جندول عسل
يرويها…
ولعلني لا أبالغ إذا اقتنصت لكم هذه المقطوعة أيضاً من أجل ولوج عالم الشاعر العاطفي المختلف جدا فهو الإله الذي يسمح لمخلوقته أن تصنع منه آخر لعلها فراشة أو زهرة أو طائر دون تعب ولا أحزان ، امـرأة لا تقاسمه آهاته كما تعلمنا في لغة العشق سابقا وانما امـرأة ضمآنة لعشقه وذلك وحده كاف لتكون قادرة على امتصاص كل كريات الحزن في دمه..
علني أخلق منك فراشة
ترشفني
وعلى ظمأ
تمتص كل قطرات آهاتي…
ترشفني
وعلى ظمأ
تمتص كل قطرات آهاتي…
هذا الشاعر القادر على الخلق أحياناً والمخلوق أحياناً أخرى يتراوح بين الألوهة والإنسانية حتى يختار أن يكون ملاكا
أنت تهب الروح للأشياء
أنا أعلمها الغناء
الصلاة و التسبيح …
أليس هذا دور الملائكة ؟ لكن الشاعر أضاف لها دورا جديدا هو الغناء لأن دنيا البشر عند الشاعر لا بد لها من الغناء من لغ
ة الإنسان الحقيقية وما شعره إلا غناءا من الروح واليها وما الشعر إلا صلاة وتسبيحا ..
ة الإنسان الحقيقية وما شعره إلا غناءا من الروح واليها وما الشعر إلا صلاة وتسبيحا ..
لا ريب فيما يذكره الشاعر لأن ملائكيته تستدعي أكثر من ذلك فهو في خطاب دائم مع الذات العليا منذ ولادته وهو لذلك يتمتع بصفات الملائكة التي من بينها قلب بصفات الحي القيوم المحب السميع البصير الحق الوهاب البارىء للحب في كل الدنيا
مازلتُ أذكر يوم ولدت
كيف قبلني الله بفم لا نهائي
وهمس في أذني ..
نعم هكذا أرى الشاعر يحلم بأن يكون ملاكا يوزع الحب والأحلام على العالم ويستقيه من امـرأة تحبه ومن قصائد تسكنه فكون الشاعر لا يمكن أن يكون إلا مقدسا وقصائده ليست إلا ..
أسراب عصافير بلورية
تشدو آيات الله
تنام بين أحضان الحوريات
القصيدة عنده لا بد أن يحبها الملائكة ليس لأنها من روح ملائكية فقط وانما لأنها حاجتهم ومتعتهم ..
هبط عليّ ملاك عاشق
يطلب مني تلاوة قصيدة
ما أن انتهيت
هبط القمر من عليائه
وطارا معاً …
القصيدة متعة الجن والملائكة وما سكن الأرض والسماء لأنها تكتب روح الأشياء وتصل
إلى أعماقها لأنها تخاطب فينا القلب وتدعونا إلى الامل والمحبة إلى كل ما هو جميل في الحياة إلى كل ما يجمل الكون ويجعله أبهى ..
لكن هذه الملائكية وهذه القصائد لا تخلصان منير مزيد من أحزان دفينة تمزق ذاته يتعالى عنها بكتابة الشعر وبقلب ملائكي يمنح الوجود قيما سمحة لكنها تنتصر عليه أحيانا وترتسم فوق قلمه وتمسك لجام صورته وصوته ليعلو صوتها ونسمع معه أنينها ونتأوه معه ومعها إنها أزمة الشاعر الحقيقية التي وإن ظهرت في مقاطع قليلة وقصيرة إلا إنها معبرة وليس لنا التغاضي عنها لأننا نريد أن نكون في مرتبة صدقه مع كلماته ..
لا وطن لدىّ
يمنحني لغته
ولون بشرته
في هذه اللحظة يمحي ألق الشعر و تأثير الكلمات على الشاعر فالقصيدة لم تعد روحه ومأواها مقرها ومنتهاها القصيدة تفشل في مثل هذه اللحظات في التخفيف عن الشاعر وكتابة مصير آخر له حتى انه حينما تخونه القصيدة يصبح رافضًا لوجوده معتذرا عن البقاء متخليا عما صنعه للكون من غناء ونشيد متخليا عن كل عيد فليس بعد الوطن عيد
الشعر يدعوني الليلة
إلى زفاف الماء و التراب
اعتذرت عن الحضور
حتى لا يشكلان وجهي مرة أخرى.
لكن هذا الإعتذار لا يخلو من تصفيق نكنه له عن هذه الصور التي أبدعها الشاعر في التعبير عن حزنه كما عن فرحه وهذه ميزة لشاعرنا الذي يجيد طرق كل أبواب قلوبنا فيبكيها ويرقصها ويصنعها ويمنيها .