منذ أقل من يومين، بدأت القوات الأميركية بضرب طوق أمني حول دير ما إليا الواقع في منطقة الموصل، تخوفاً من تدمير هذا الصرح التاريخي الذي بني قبل أكثر من 1500 سنة. فعمليات «التطهير العرقي» وحرق الكنائس في تصاعد في العراق، وخاصة أن مجموعات كانت قد وزعت مناشير في بغداد والموصل داعية «أتباع عيسى إلى الرحيل عن بلاد الرافدين… وقد أعذر من أنذر».
هذه الإنذارات يأخذها أبناء الطائفة على محمل الجد، فعدد كبير منهم غادر بيته والتحق بقوافل مئات آلاف اللاجئين العراقيين. وكما هي الحال بالنسبة إلى كل اللاجئين في العالم، فإن الرحيل مؤلم، وخاصة حينما يكون البيت المقفلة أبوابه والمحرم الدخول إليه هو بيت الأجداد المتوارث منذ عقود عدة. فمسيحيو العراق هم أهله منذ 2000 سنة. إنهم، مهما كانت طوائفهم من آشوريين وكلدانيين، حملة حضارة وتاريخ وتقاليد ولغة. فهم لا يزالون يتكلمون مع أولادهم وفي معابدهم الآرامية، اللغة التي كان ينطق بها المسيح، وبشّر بها الرسل، وهم آخر من يتكلمها على الأرض. والطريف أن العراقيين يستخدمون مصطلح «أنا أتكلم المسيحية» للتعبير عن لغتهم القديمة التي أصبحت جزءاً من هويتهم الثقافية والدينية! هوية عمل الاحتلال الأميركي على تمييزها في العراق، فمجمل الموظفين في المكاتب الأميركية يُختارون بناءً على خلفيتهم الدينية أولاً، مما أجّج نار الفتنة الطائفية التي كانت قد بدأت تفتعل قبل الحرب. ففي حينها كان المسيحيون يعيشون يومياً امتحان «الخائن بيننا». فيقول أحدهم (وقد طلب عدم ذكر اسمه) قبل الحرب «كانوا يسألوننا، حينما يأتي الصليبيون، هل ستساعدونهم ضد العراق؟ كما لو أننا لسنا عراقيين أولاً».
ولتأكيد سياسة التفرقة تلك، أسس ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي السابق مكتباً يُعنى فقط بشؤون تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة للمسيحيين العراقيين. خطة نُفذت بوضوح وحققت أهدافها، فعملية النزوح من العراق كانت قد بدأت مع عمليات الغزو، وأتت عمليات التهديد والقتل الأخيرة لتدفع بعجلة الهجرة الواسعة. فالعراق يخسر اليوم إحدى أهم ركائز هويته كدولة ذات طوائف متعددة.
عن الهجرة والمحافظة على الهوية في أرجاء العالم يقول كاهن من قرية في شمال العراق (جرى التواصل معه عبر البريد الإلكتروني): «إن تاريخ المسيحية في العراق محفوف بدم الشهداء. فعلى مدى العصور كانت تأتي مراحل من الاضطهاد، ولكن البقاء في الأرض والتأكد من أن يرث الأولاد تاريخ الأجداد، حال دون اندثار هذه الحضارة التي نحن أبناؤها. لذا، يجب البقاء. ولا يمكن المقاربة بين تلاوة القداديس بالآرامي في ديترويت في الولايات المتحدة وفي كنيسة الطاهرة في الموصل مثلاً. ففيما الأول ملجأ آمن، الثاني صرح تاريخي سمعت جدرانه الترانيم لأكثر من ألف سنة».
وتتميز كنائس شمال العراق (المبنية داخل مدينة الموصل القديمة، أو في الجبال القريبة منها) بطابع هندسي خاص بها، وبتزيين للجدران بالرخام الأخضر. إنه الرخام نفسه الذي استعمله الآشوريون في الألف الأول قبل الميلاد لصقل ثيرانهم المجنحة وتزيين جدران قصورهم. رخام فريد من نوعه، إذ لا يصعب صقله كثيراً، فهو ليس بصخرة صماء. واستعمله الفنانون المسيحيون لتغطية جدران الكنائس، ومن ثم نُحتت نصوص دينية ورسومات مستوحاة من الكتاب المقدس. ويتميز الفن العراقي المسيحي بدقة النحت وبمحاولة الفنانين الوصول إلى المنحوتات الثلاثية الأبعاد في تجسيداتهم للحيوانات، أما الأشخاص فهم منحوتون بشكل بسيط «ساذج» مع احترام قواعد المقياس. ولكن أكثر ما يلفت النظر في كنائس شمال العراق هو الزخرفات التي تستعمل حول مذابح الكنائس وحول الأبواب. زخرفات تستعمل كل الأشكال الهندسية وتتداخل في بعضها فتتحول إلى حلقات معقدة… روعة في الجمال. والجدير بالذكر أن دراسة هذه الزخرفات تظهر تلاقيها مع تلك التي تزين جدران جوامع الموصل والعراق. فمن المعروف تاريخياً أن النحاتين المسيحيين كانوا ينجزون تزيين كل الأبنية الدينية خلال فترات الحكم الساساني والعباسي.
كنائس الموصل القديمة تختفي في شوارعها. فلولا إشارة الصليب المنحوتة فوق الباب، لما عرف المارون بالصرح الديني. ولكن، خلف تلك الأبواب ترتفع روائع من الفن التي لم تُدرس بعد علمياً بالتفصيل، ولم تُعطَ الشهرة العالمية التي تستحقها كفن مسيحي محلي.
وبالطبع، ففي ظل الوضع الحالي الذي تعيشه هذه الطائفة، لم يعد الخوف على الدراسات، بل على سكان المباني أولاً، وعلى الحضارة التي ستزول ثانياً.