كيف يجري توزيع الأدوار لإظهار الأطراف الأساسية الثلاثة التي عملت على تمرير “الاتفاقية الأمنية” بين العراق المحتل والولايات المتحدة الاميركية بالصورة التي تريدها، فتبدو أنها نتيجة صبر و”نضال” أهل الحكم في بغداد، وحرص الأميركان على ترسيخ “أمنه وديمقراطيته”. ثم “حكمة” الإيرانيين، وهذه الأخيرة تعني في الحقيقة مدى تمكّنهم من اللعب على ثلاث ورقات، كمحترفي النصب الذين يسلبون الناس على أرصفة الشوارع ويقتسمون مع شركائهم رصيد ما سلبوه؟!
صحيفة “الهيرالد تريبيون” الصادرة من باريس باللغة الإنكليزية كشفت الأسبوع الماضي أن الحكومة الأميركية رفضت نشر بنود الاتفاقية الأمنية، معلّلة ذلك بأنها اعتمدت على ترجمة غير رسمية نشرتها صحيفة عراقية (تبيّن أنها تُدعى الصباح)، علماً بأن هناك نسخة رسمية أصلية بكل من اللغتين العربية والإنكليزية”!” فكيف يمكن الضحك على ذقون الناس بهذا التعليل؟
وكالة فارس الايرانية للأنباء سارعت إلى نقل هذا الخبر على طريقتها، فعدّلت فيه وفسّرته كما تشاء بحرفيّة عتاة الباطنيّة، قائلة في المحصلة النهائية “إن هذا يعكس خوف الإدارة (الأميركية) من الكشف عن التنازلات (التي قدمتها للعراقيين)”.!
هذه الجرأة الغريبة في التدخّل وتحريف الخبر الواضح المعاني والمقاصد بشكل يخدم جماعة طهران الحاكمة في المنطقة الخضراء، ويظهرها وكأنها حقّقت نصراً، تُريد إيران أن تُصوّر من ورائه للناس أنها ضد الأميركان وقد ساعدت على “هزيمتهم”، مع أنهم في الحقيقة قد حصلوا على ما سعوا إليه، لأنهم لا يريدون في الأساس أكثر من “أكل العنب لا قتل الناطور”، وهو ما حصلوا عليه من وراء تمرير الإتفاقية الأمنية التي شملت ضمن عملية الإخراج المشترك تسميتها بـ “إتفاقية الإنسحاب”!
ضد الإتفاقية ظاهراً .. معها فعلاً!
لكن واقع الحال يقول العكس، ويؤكد بالشواهد الحسّية ان ايران قد ساهمت بشكل أساسي في الوصول الى بر ” أمان” هذه الاتفاقية التي وصفت بالعبودية والإنتداب وعودة الإستعمار وبيع العراق بالكامل للأميركان… الخ. وقيل من ضمن ما قيل فيها أنها وُقّعت بين الأميركان و… الأميركان. أي بينهم وبين أتباعهم وشركائهم في اقتسام الغنائم بهذا البلد العربي.
وبالعودة إلى لسان كل طرف من هؤلاء وليس غيرهم. نتثبّت من دقّة هذا الكلام وحجم مساهمة الإيرانيين وتوزيع أدوارهم بين دعم المالكي وجماعته المؤيدة لاتفاقية الاحتلال ودعم الشاب غريب الأطوار والمواقف المتقلبّة مقتدى الصدر، الذي يُجاهر – كلاماً – بمعارضة الأميركان والتصدّي للإحتلال وهو يجلس في الحضن الإيراني الذي يضمّ “خصومه” من المالكي الى الجعفري فالحكيم… وما شابه. وباختصار: نتثبّت عن الكيفية التي يديرون بها أدوارهم بشكل يبدون فيه أنهم ضد تمرير الاتفاقية ظاهرياً، في الوقت الذي يمهدّون فيه السبل لإقرارها من منطلق موافقتهم الصريحة “سراً” على ذلك، وهو ما كشف النقاب عنه أحد أعضاء الكتلة العراقية الحاكمة ويدعى عزت الشابندر بقوله لراديو “سوا” الأميركي أن مصادقة حكومة المالكي على الاتفاقية الأمنية مع واشنطن يعني عدم معارضة طهران لها، وأكدّ في سرده التفصيلي على أكثر من ذلك قائلاً بالنص: “لقد أعطت ايران المالكي الضوء الأخضر بالموافقة على هذه الاتفاقية”.
هذا بشكل عام، ولكن، ماذا تقول التفاصيل؟
عندما تنكشف الحقيقة
استكمالاً للحديث عن الدور الإيراني الموغل في الباطنية والمصلحية معاً، والمتقلّب في مواقفه كغريب الأطوار مقتدى من اعلان الحرب على الاحتلال الى التهدئة فإعلان العصيان المدني، ثم اعتزال السياسة والذهاب الى “قُمْ” لإكمال المدرسة هناك. أبدى الايرانيون ظاهراً أنهم ضد الإحتلال وضد إقرار الاتفاقية الأمنية، ولعلعوا لفظياً في وسائل الاعلام هذا الموقف، مبدين تخوّفهم من إمكانية إستهدافهم بموجبها، مع أنهم
لم يستهدفوا يوماً، بل كانوا شركاء في تسهيل عملية الغزو فالاحتلال فتمكين أتباع الأميركان وأتباعهم – معاً! – من الحكم على أشلاء مئات آلاف الضحايا وملايين المهّجرين والمعذبين.
لم يستهدفوا يوماً، بل كانوا شركاء في تسهيل عملية الغزو فالاحتلال فتمكين أتباع الأميركان وأتباعهم – معاً! – من الحكم على أشلاء مئات آلاف الضحايا وملايين المهّجرين والمعذبين.
لكن هذا الموقف لم يلبث أن انكشف بعد ساعات معدودة من مصادقة “مجلس النواب العراقي” على الاتفاقية وتأكّد الإيرانيين من تمريرها دون أن يُمارسوا أي ضغط على جماعتهم المختبئة بالمنطقة الخضراء من أجل الإعتراض عليها، حين طلع رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام أحمد جنتي ليعلن في أول ردّ فعل أمام الناس “تحفّظه” على هذه الاتفاقية، إلى جانب ترحيبه بتضمينها جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الاميركية من العراق، مع أنه يعلم جيداً أن هذا الانسحاب غير قطعي، وأنه يخضع لاتفاق الطرفين، وسيبقى مرهوناً بالظروف الميدانية، حسب تصريح الأدميرال مايكل مولن رئيس هيئة الأركان المشتركة، وأن أول المعترضين عليه قبل أن يجري نَشْرها كان كبار قادرة الجيش الاميركي وفي مقدمتهم الأدميرال مولن، الذين أعلنوا أنهم لا يوافقون على تحديد موعد لسحب جميع القوات المنتشرة على الأرض بحلول نهاية سنة 2011.
وفي إمعانه بإظهار دور “المعترض” ومعه أهل الحكم في بغداد، أرجع أحمد جنتي “إضطرار” الحكومة العراقية الى التوقيع على الإتفاقية، ومصادقة البرلمان عليها إلى أن واشنطن استعملت الضغوط والتهديد بالقوة. وكأن الحكومة فصيل من فصائل المقاومة أو أن البرلمان حُر وشرعي وتم انتخاب أعضائه خارج سيطرة الإحتلال!
مواقف الأتباع
وعلى نفس هذا المنوال عزف الكثيرون ممن وضعوا بيضاتهم في سلّة المصالح الأميركية – الإيرانية المشتركة كموفّق السامرائي (الإيراني الأصل) الذي ادّعى في مقال كتبه بصحيفة الشرق الأوسط السعودية (الأميركية أيضاً) أن إيران فشلت في منع تمرير الاتفاقية”، وكأنها دفعت فعلاً باتجاه ذلك. وقوله في نفس المقال أن من ايجابيات الاتفاقية أنها “حصرت اللعب الايراني في ملعب مفتوح الى أجل غير محدود، ووفّرت فرصاً لابتعاد عراقي مفترض عن النفوذ الايراني”!، موحياً بإمكانية الابتعاد وأنه ليس مع هذا النفوذ، مع أنه أحد رجالاته وأبرز بيادقه المتحركة في الاتجاهات الأكثر تلوثاً وخطورة.
وإذا كانت إيران هي “البارومتر” والمرجع لمواقف اتباعها في العراق، فإن موقف السيستاني كان بنفس المواصفات وأكثر تعصّباً وباطنية، رغم ادعائه الابتعاد عن “يوميات” الحياة السياسية ومحاولة الظهور بمظهر المترفّع عنها مع أنه غائص في عمق تفاصيلها. ومن هذه الأرضية كان موقفه من الإتفاقية، خصوصاً منذ أن عُرضت عليه مسودّتها لأول مرة لاستمزاج رأيه “الشرعي” بها، فأبدى رأياً يحتمل أكثر من خيار مفتوح أمام حكومة المالكي التي أوحى لها أيضاً بالموافقة وأعطاها الضوء الأخضر على طريقته، دون أن يتلفّظ بذلك صراحة كما تقتضي حالات “الإفتاء” الشرعي.
وبعد أن سار أهل الحكم على طريق “الإخراج” رغم ابدائهم ملاحظات لزوم المسرحية، وصدور ردود أفعال رافضة ومنددّة، الى جانب التخوّف الفعلي لبعض دول الجوار – كسورية مثلاً – من انعكاساتها الخطيرة بفعل الإمتيازات المعطاة لقوات الإحتلال بصك رسمي تعاهدي، خرج معتمد السيستاني في كربلاء ليعلن يوم 6 تشرين الثاني المنصرم أن على الحكومة العراقية طمأنة دول الجوار بخصوص الاتفاقية، وهذا الكلام يعني في صدارة ما يعنيه موافقة “المرجعية” عليها والإعتراف الضمني بوجود ما يبعث على القلق فيها!
تراجع السيستاني عن شرطيه
وفي ضوء هذه الحقيقة سارع مكتب السيستاني الى التذكير بأن موافقة المرجع الديني قد جاءت وفقاً لشرطين، أولهما “رعاية المصالح العليا للشعب” في السيادة والأمن والاستقرار… الخ! وثانيهما ضرورة موافقة مختلف مكونات الشعب “ممثلة بقواها السياسية الرئيسية”!
غني عن الذكر أن هذين الشرطين لا معنى لهما إذا علمنا أن المراهنة على الذين نصّبهم الإحتلال في رعاية مصالح الشعب كالمراهنة على شرف مفقود. كما أن قصده من مكوّنات الشعب وقواه الرئيسية، نفس القوى التي تسيطر على البلاد وأهلها وفق المحاصصة الطائفية والفئوية وطوع أوامر قوات الاحتلال والمصالح العليا لمرجعيتهم في الولايات المتحدة.
ومما زاد في التأكيد على فقدان هذين الشرطين معناهما، إصدار مكتب السيستاني بياناً لاحقاً جدّد فيه طلب المرجع الديني من القيادات الحكومية بضرورة اعتماد كل منهم في التصدّي للشأن العام على ذاته عند تقييم الأمور في صلاحها من عدمه، لا أن تنتظر موقفاً من المرجعية الدينية”.
هكذا بالحرف تراجع السيستاني ـ عمليا ـ عن شرطيه، وأعطى تفويضاً جديداً وعلى بياض لأهل الحكم التابع للاحتلال باتخاذ أي قرار يُقيّمونه صالحاً”!” فهل هناك لاعب ثالث ورقاق قادر على الخلط والتمويه و”التمرير” أكثر من ذلك؟
ودون الحاجة لاستعراض تفاصيل ما نشر حول نص الاتفاقية والتعديلات التي قيل أنها أُدخلت عليها، وقد أخذت حقّها من التغطية الإعلامية كلٌ حسب قناعته أو مصلحته وارتباطه، الى ان أعلن المتحدث باسم الحكومة ان الولايات المتحدة استجابت لمطالب العراق الخاصة بالتعديلات، دون الكشف عن البنود التي تضمّنتها هذه الاستجابة . اكتشفنا معلومات أدق على لسان الناطق بلسان الخارجية الاميركية عندما قال “قدّمنا القليل من التنازلات حقاً، وقدّم الجانب العراقي تنازلات فيما رفضنا جزءاً لا يمكن القبول به”، وتبعه الناطق باسم وزارة الدفاع براين ريتمان بالقول “انه النص النهائي الذي لا يقبل التفاوض عليه”.
وهكذا يمكن التأكد بلسان أصحاب الشأن أنفسهم ان ما أرادته أميركا قد حصلت عليه بالكامل من حيث الجوهر، ولم تتنازل إلاّ عن تفاصيل لا تتعلق حسبما أشيع بالحصانة أو بالخضوع للقضاء العراقي وتفتيش بريد القوات… ولا القواعد والمعسكرات والمهام وحتى التنقلات والتصرفات… الى آخر كل ما تعتبره الولايات المتحدة من اختصاصها السيادي المطلق.
يبقى القول انه قيل الكثير عن الاسباب التي دفعت أهل الحكم إلى توقيع هذه الاتفاقية رغم المعارضة الشعبية العارمة لها، وطُرحت تساؤلات عديدة حول الإحتمالات المتوقعة إذا لم يتّم التوقيع عليها. وتم التركيز من قبل أزلام “المارينز” على ان خيار الموافقة قد جاء كأهون الشرّين من أجل الحفاظ على “الأمن والاستقرار”، وكأن الاتفاقية تحفظهما.. أو كأن هذه هي مشكلة العراق الأساسية وليس الإحتلال هو السبب.
أما إذا سأل أحد عن الأسباب الحقيقية فيمكن تلخيصها بسبب واحدٍ لا ثاني له وهو أن البديل الوحيد لزوال الاحتلال في نظر أهل الحكم ونظر الدنيا كلها هو المقاومة. فهي وحدها التي تُرعب كل من يلوذ بحماية المنطقة الخضراء ومن يتخفّى خارجها أيضاً. وهي وحدها الجاهزة لتكون بديل الفوضى وفلتان الأمن وتحكّمُ الغرائز الطائفية والمذهبية والعرقية، إذا ما ارتفعت أيدي قوات الاحتلال ولو ليوم واحد عن حماية التركيبة الحاكمة، وغير هذا الكلام إدعاءات للتغطية على ما هو آت… قريباً بإذن الله.
- كاتب وصحافي عربي يقيم في باريس