صافحتها ضمن مجموعة من السيدات والسادة خلال زيارتي لمنزل احد الأصدقاء في العاصمة الأردنية عمان الصيف الماضي قبل استفحال أزمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة، وكانت تتميز عن الحضور، بلباسها الإسلامي الذي يشبه الشادور الإيراني، تنوره سوداء، وغطاء بنفسجي اللون، ينسدل من رأسها ليغطي نصف جسدها العلوي .
ودار حديثا بين الحضور كان محوره الاستثمار العقاري والأرباح الضخمة التي يحققها، ولم أعلم أن ملاحظتي بان الاستثمار العقاري فيه الكثير من المبالغة والوهم، وان هناك مخاوف من حدوث تراجعات كبيرة بالأسعار إذا لم يكن انهيارات، وان الارتفاعات التي شهدتها في السنتين الماضيتين كانت نتيجة للمضاربات والتسهيلات المصرفية غير المنضبطة، لم أكن أعلم أن ما قلته سيفتح حوارا مع السيدة يسرى، التي انبرت لتنتقد بقوة وجهة نظري، وقالت بحزم، وبما يشبه الأوامر..احتفظ بوجهة نظرك لنفسك، ولا تجعل أحدا يسمعك حتى لا يضحك عليك.
ساءني طريقة نقدها وشعرت في نبرة صوتها نوعا من الغرور، خصوصا وان حديثي لم يكن موجها لها، بل إلى كل الحضور، ووجدت نفسي أمام خيارين، إما التزام الصمت والانسحاب بهدوء، أو الرد عليها مع محاولة التزام الهدوء، واخترت الأول تفاديا للمزيد من التوتر. وقلت على كل حال سأعمل بنصيحتك فلا تتضايقي.
حاولت السيدة يسرى أن تخفف من وطأة أجواء الحدة، وإشاعة بعض الهدوء في نفسي بقولها : يا رجل لقد أرعبتني فانا اشتريت عمارة للتو لم يمض عليها عدة أشهر، وحديثك أشعرني بان البنك سيأخذها مني وارتمي بالشارع .. لكن هل تظن حقا أن أسعار العقار سوف تنخفض ؟ ولماذا .. فالعراقيين ما زالوا يتدفقوا على البلد ، والخليجيين يضخوا أموالا كبيرة في الاستثمار العقاري، هل سمعت بمشروع العبدلي ؟ ألا ترى ورش البناء في عمان الغربية تعمل ليل نهار؟ أليست كل هذه مؤشرات على النهوض وليس على التراجع؟.
حاولت إقناعها بان ما تقوله صحيح من زاوية أن هناك نشاطا ملموسا في عمليات البناء لكن ذلك لا يؤشر على الازدهار، بل انه قد يؤدي إلى وفرة في العرض، وان المهم بالأمر أن يرافق وفرة العرض وفرة في الطلب أيضا، وإلا فان الأسعار سوف تنخفض حسب قانون “العرض والطلب” وأنا أظن أن الطلب سوف ينخفض، ولذلك سوف تتراجع الأسعار بالمنطقة كلها.
وحاولت إقناعها بان تدفق العراقيين على الدول المجاورة وتحديدا الأردن وسوريا سوف يتراجع وبمعدلات عالية نظرا لتنامي حالة الاستقرار في العراق، وأيضا للقيود الجديدة التي تفرض على حركة وإقامة العراقيين في العديد من الدول العربية، سواء لأسباب سياسية واقتصادية أو أمنية. ثم سألتها عن سبب تأثرها البالغ، فكل ما لديها هو عمارة ومهما حصل فلن تنخفض الإيجارات بشكل دراماتيكي ، وبالتالي فلا مبرر للخوف.
ولم أكن اعلم أنها ضحية للرهونات العقارية .. والتسهيلات المصرفية .. فالسيدة يسرى وهي في أوائل الثلاثينات من عمرها ، كانت تعمل مدرسة بالسعودية لمدة خمس سنوات، وعادت إلى الأردن منذ سنتين لتكتشف أن زوجها متزوج من أخرى، خلال زياراته القصيرة، ولديه طفل من زوجته الأخرى، مما دفعها لطلب الطلاق ، الأمر الذي حال دون عودتها للسعودية لعدم وجود محرم.
وواجهت السيدة يسرى التي حجت إلى بيت الله الحرام 3 مرات، صعوبات بالغة بعد انتهاء عملها في السعودية، وطلاقها من زوجها، ومرت بحالة نفسية سيئة، واستثمرت كل أتعابها في شراء بناية سكنية في إحدى ضواحي عمان الغربية.
لكن أي أتعاب هذه عن مدة خمس سنوات عمل تمكنها من شراء بناية قيمتها أكثر من مليون دينار أردني أي أكثر من مليون وربع المليون دولار..؟
هنا يكمن السر .. ومن خلاله يمكن تسليط الضوء على احتمالات امتداد أزمة الرهونات العقارية إلى المنطقة ، إذا لم تكن قد بدأت خيوطها الأولى في دبي وفي بعض الدول الخليجية ، حيث بدأت بعض الأصوات تطالب بتقديم دعم للشركات العقارية أسوة بالدعم الذي قدم بالمليارات للشركات الاستثمارية.
لكن السؤال .. كيف اشترت السيدة يسرى العمارة؟ كل “تحويشة” عمرها كما قالت كانت حوالي 30 ألف دينار، فكيف حصلت على قرض قيمته 1ر1مليون دينار؟
السيدة يسرى طموحة جريئة نشيطة مثقفة في مقتبل الشباب، تمتلك سيارة حديثة فارهة، تعيش مع والدتها وخادمة فلبينية .. (هذا ليس إعلانا للزواج) فعلى حد قولها أنها لم تعد تثق بالرجال بعد أن تعرضت للخيانة، وتحاول أن تعوض ذلك بانهماكها بالعمل التجاري في مجال العقار، وخصوصا في ميدان السمسرة أو الوساطة العقارية.
بسرعة تمكنت السيدة يسرى من إقامة علاقات في السوق العقاري خلال بحثها عن شقة بهدف الشراء للانتقال من المنطقة الشعبية التي تقيم بها والدتها في احد ضواحي عمان الشرقية إلى عمان الغربية، وحصلت على معلومات مذهلة كما تقول مفادها أنها تستطيع شراء عمارة سكنية بدلا من شقة.
وتقول هذه المعلومات أن البنك يشترط أن لا يزيد عمر البناية عن خمس سنوات، وان تكون مؤجرة بالكامل، وان يغطي إيرادها قيمة القسط السنوي، وان يدفع المقترض 25 بالمائة من قيمة العمارة، ويتم رهن العمارة للبنك وتقسط القيمة على مدة 10 سنوات ويمكن إعادة جدولة الدين بعد انتهاء خمس سنوات لفترة 10 سنوات أخرى.
هذه القواعد تنطبق على أي عميل .. كما أن معظم البنوك تتبنى نفس القواعد، لكنها لم تطبق على السيدة يسرى وكثير غيرها كما قالت.. فمن خلال سماسرة السوق قامت بمعاينة عمارة ينطبق عليها المواصفات فهي حديثة، وجميع شققها مؤجرة .. وبعد المساومة اتفقت مع المالك على سعر 850 ألف دينار، بشرط أن يعطيها إيصال قبض رسمي (وهمي) بقيمة 250 ألف دينار،مقابل ضمانات بحضور محامي الطرفين، من ضمنها أن تعطيه هي الأخرى سندا رسميا يفيد بأنها استردت المبلغ، وبشرط آخر وهو أن يتعهد البائع بتحويل أية مبالغ تزيد عن 850 ألف دينار المتفق عليها إلى السيدة يسرى بنفس اليوم الذي يقوم به البنك بتحويل قيمة العمارة لحساب البائع.
وحصلت السيدة يسرى على وثائق الملكية والتراخيص وخلافها وقدمتها للبنك، ومن خلال اتفاق مسبق قدر البنك قيمة العمارة بمليون ومائة ألف دينار، وضمن التسهيلات القائمة على المعرفة الشخصية بين البنك والسمسار تم تخفيض قيمة المقدم الواجب دفعه إلى 15 بالمائة أي حوالي 165 ألف دينار.
وأحضرت السيدة إيصالا يفيد بأنها دفعت للمالك مبلغ 165 ألف دينار، ودفعت الرسوم المقررة للجهات المعنية بالتراخيص ونقل الملكية، وتم نقل ملكية العمارة إلى السيدة يسرى ورهنها لحساب البنك، وحول البنك إلى حساب البائع مبلغ 935 ألف دينار، خصم منها 850 ألفا ، وحول للسيدة يسرى مبلغ 85 ألفا. دفعت منها “من خلال السمسار” 50 ألفا لمدير فرع البنك و 25 ألفا للسمسار، وغطت العشرة ألاف دينار المتبقية مصاريف نثرية من هنا وهناك، وبذلك أصبحت مالكة لعمارة من ستة ادوار تحتوي على 18 شقة، دون أن تدفع من جيبها الخاص دينارا واحدا على حد قولها.
السيدة يسرى ليست أكثر من نموذج على ما جرى في السنوات الأخيرة بالسوق العقار بالمنطقة، فأزمة الرهون العقارية لو تفجرت في بلادنا فسوف تكشف عن أنواع من الفساد المالي والرشوة والمحسوبية لا حصر لها، خصوصا في ضوء ازدهار طرق التسهيلات المصرفية الناتجة عن تخمة السيولة النقدية في بنوك المنطقة، مما حرك شركات السمسرة تحت مسميات “شركات التمويل”، لتقديم إغراءات كبيرة للراغبين بالثراء السريع، ومن ضمنها توفير الضمان البنكي للقروض مقابل عمولة تصل إلى 20 بالمائة من قيمة الضمان، أو أن تقدم شركة التمويل قرضا وهميا لتغطية قيمة الضمان، أو تسجيل وهمي لعقارات تستخدم كضمان للقروض، وسوف أتطرق لعدد من هذه الجوانب في مقبل الأيام .
لقد بات من المباح في الولايات المتحدة وأوروبا الحديث عن أسباب أزمة الرهونات العقارية وتبين أن ورائها الفساد المالي بالدرجة الرئيسية، وتسيب القوانين الناظمة للنشاط المصرفي والتمويلي، وجشع المدراء التنفيذيين، وتكون جيش من الوسطاء الماليين اتسعت ساحة معركته لتشمل مختلف الدول بلا استثناء.
وكان هناك نصيب لغزواتهم في المنطقة .. وبسرعة انتقلت الخبرات .. وتكاتف الجهود .. ووظفت بكفاءة وسائط الاتصال السريع .. كما استخدمت أجهزة الإعلام بإشاعة مناخات الوهم والنجاحات الزائفة .. والأرباح الوهمية.
أزمة الرهونات العقارية ليس سببها إعادة بيع القروض وان كان سببا هاما، وإنما أيضا عدم توفر ضمانات كافية للقروض، وقصة السيدة يسرى نموذجا.
ابراهيم علاء الدين
div>