علق احد الاشخاص على مقالة امس الاول والتي نشرت بعنوان “فاطمة وساعتها الرولكس وفقراء غزة” بشكل ساخر قائلا انه ما كان يجب ان تنشر هذه القصة ، وتساءل “هل ذهبت لتغطية مؤتمر او تغطية فاطمة” ورددت عليه بما معناه ان الصحفي المحترف البارع اذا ذهب الي أي مكان عليه ان ينظر الى جميع الزوايا المحيطة ، ليخرج بعشرات القصص الصحفية.
وليسمح لي القاريء العزيز ان أعرض جزءا اخرا من الحوار مع السيدة فاطمة او فوفو كما تحب ان يناديها الناس ، حيث عاتبتني السيدة فاطمة اليوم بشدة، وتخيلتها ستحطم الهاتف بين يديها، لانني نشرت ما قالته على هامش اعمال المؤتمر، وقالت كان يجب عليك ان تستأذنني قبل النشر ، فما اقوله في الجلسات الخاصة لا اعلنه في الصحف والمواقع الاعلامية على شبكة الانترنت، وباستطاعتي ان انفي كل ما ذكرت واتهمك بالكذب وارفع عليك شكوى تشهير.
قلت لها هل تعرفي ان المكالمات الهاتفية تسجل في شركة الاتصالات ويمكن من خلال امر قضائي ان احصل عليها واقدمها للمحكمة لاثبت صدق ما قلته، واثبت ان ما ذكرته في المقالة ليس كذبا، والدليل على ذلك غضبك وثورتك العاصفة ، وفي نفس الوقت فانا لم اذكر اسمك بالكامل فهناك مليون فاطمة فوفو، وعندها سوف تخسرين القضية ويتخذ بحقك اجراءات عقابية.
قالت انا لا يهمني العقاب .. ولا يهمني اصلا البقاء في البلد كلها .. واستطيع ان اترك البلد فورا والعودة الى بلدي فانا سورية وافتخر .. اما انت ”لوين بدك تروح”
صعقتني العيارة وتوقفت مطولا اما مها فقلت بيني وبين نفسي وانا فلسطيني وافتخر .. ولكن أي فلسطيني..؟ فلسطيني اردني .. وغيري فلسطيني لبناني . وثالث فلسطيني عراقي .. ورابع فلسطيني امركي .. وهكذا لا بد من اضافة اسم دولة اخرى الى اسم فلسطين للستة ملايين فلسطيني المشردين في انحاء الارض .
بينما الفلسطينيون في فلسطين المحتلة في عام 48 اصبحوا عرب فلسطين، ولكن الاخطر من كل ما سبق هو ذلك التفتت والتشظي لدى الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية وغزة، ففي ما يطلق عليها بالارض المحتلة تكاد تنتفي كلمة فلسطين .. واصبح المواطن هناك يقول .. انا فتحاوي .. واخر حمساوي .. واخر جبهاوي .. واخر جهادي الى اخره .. وتفرعت منها مسميات اخرى كادت في مرحلة سابقة ايام فوضى السلاح وسيطرة المليشيات على الشارع والعواطف والمشاعر الشعبية ، فاصبح هناك فلسطيني كتائب الاقصى ، وفلسطيني كتائب القسام ، وفلسطيني كتائب ابو علي مصطفى .. وفلسطيني سرايا القدس .. الى اخر الكتائب والسرايا ..
وليت الامر يقف عند ذلك .. فهناك الانتماء الجهوي .. فابن الخليل يعتبر نفسه سيد فلسطين، وانه افضل من فلسطيني نابلس .. وابن نابلس كذلك فهو ابن جبل النار واحسن من باقي الفلسطينيين .. وابن اللد افضل من ابن يافا .. فيما ابن يافا يزدري اللداوي ويعتبره متخلفا .. ليأتي ابن حيفا ويفخر بانتمائه الى مدينته . فيقفز له ابن عكا قاهرة نابليون .. يضاف الى ذلك التمييز بين “المدني والفلاح” والغزاوي والضفاوي ، والضفاوي واللاجيء.
وليت تشظي وتفتت الشعب الفلسطيني يقف عن هذا الحد ، فهناك تفتتا من نوع اخر هو التفتت القبلي والعشائري والعائلي وحتى الاسري.
فكل يعتز بانتمائه لهذه المنظومات الاجتماعية على حساب الوطن، فالانتماء الاسري له الاولية .. ثم الانتماء العائلي .. ثم القبلي ثم التنظيمي .. واخر الانتماءات يكون لفلسطين.
ومع ذلك ترى القوى الوطنية وغير الوطنية وكل الناس يرفعون شعار الوحدة الوطنية بمعنى وحدة او تحالف القوى السياسية الفلسطينية .. ولا احد على الاطلاق ينتبه الى التشظي الاخطر بين الفلسطينيين الى حلقات وجماعات ومجموعات صغيرة كل منها لا يرى بالاطراف الاخرى معادلا او موازيا او حتى جديرا بالاحترام الا اذا وافقه واستسلم له وقبل افكاره وبرامجه وسياساته وعقد له لواء القيادة والزعامة.
كم انت محقة يا فاطمة .. لك الحق بان تقولي .. “انا سورية وافتخر” ومن حق ماجد العنزي ان يقول انا كويتي وافتخر .. ومن حق ولاء ابراهيم ان تقول انا سعودية وافتخر .. ومن حق سامر الشمايلة ان يقول الاردن اولا فانا اردني وافتخر.. وكذا المصري والمغربي واليمني والسوداني ..
لكن الفلسطيني يقول انا فتحاوي وافتخر .. وحمساوي وافتخر .. وجبهاوي وافتخر .. ويقول انا خليلي وافتخر ونابلسي وافتخر ويافاوي وافتخر وغزاوي وافتخر .. ليصل الى القول انا من عائلة كذا وافتخر وعشيرة كذا وافتخر .. وابن فلان وافتخر.. الى ان يصل للقول انا ابن الحارة الفلانية وافتخر .. وابن الشارع الفلاني وافتخر..
ان مجتمعا مكونا من هذه الفسيفساء يا سادة .. لا يمكن له ان ينتصر ..
ان شعبا تنخر في جنباته قوى ترفض الهوية القومية للشعب ، وترفض من حيث المبدأ فكرة الدولة القومية الوطنية، وترى بفلسطين ارض وقف اسلامي، وان تحريرها من الاحتلال الصهيوني لن يتحقق الا بسيوف جنود الخليفة .. لا يمكن له ان ينتصر.
ان شعبا تنطلي عليه الاكاذيب القائلة “وما النصر الا صبر ساعة ” وان الله وعد المؤمنين بالنصر دون تحديد من هم المؤمنين، وان الحصار القاتل الذي يتعرض له الناس في غزة هو امتحان من الله او عقابا لهم على مااقترفت ايديهم من اثام .. وعندما تسال احدهم وماذا ارتكب اهل غزة من اثام يرد عليك بالقول .. ليس بالضرورة ان يكون جميع اهل غزة ارتكبوا اثاما بل يكفي ان يكون احدهم او قلة منهم ارتكبوا اثاما فينزل الله العذاب على القوم، متجاوزا بذلك قوله عز وجل “لكل نفس وما كسبت “، ان شعبا تنطلي عليه هذه الاكاذيب لن ينتصر.
واعترف يا ست فاطمة واقر بانتصارك .. وهزيمتي .. فلك الحق كل الحق بان تقولي انا سورية وافتخر.. فمهما كان موقفك من النظام السياسي في سوريا ومهما كان انتمائك السياسي او الفكري او العقائدي فانت قبل كل ذلك سورية .. اما الفلسطيني فانتمائه العائلي او القبلي او العشائري او الفصائلي.. يأتي قبل انتمائه لفلسطين .. الوطن والهوية والتاريخ ..
فمتى وكيف يتم تغيير اولويات الانتماء ليصبح الانتماء لفلسطين قبل كل شيء ؟؟
اوجه هذا السؤال للمفكرين والكتاب والاعلاميين الفلسطينيين وللقوى السياسية الوطنية الديمقراطية .. كونهم المسؤولون عن استمرار سيطرة القيم القبلية والعشائرية ، ولم يختلف الامر عندما استبدلت القبيلة والعشيرة بالتنظيم او الفصيل السياسي ، فما زالت هذه القيم والاعراف ضاربة جذورها في مجتمعنا لتنتج التخلف والقهر والفساد والرشوة والمحسوبية ، والواسطة، وطالما استمرت هذه القيم وهذه الاعراف فان كل ما يقال ويشاع عن الديمقراطية واقامة الدولة المدنية .. التي تسود قيمها العدالة والمساواة وتكافوء الفرص ، هي ضربا من الاحلام تراود بعض المخلصين .. والى ان يتم تحجيم .. والافضل القضاء .. على قيم القبيلة والعشيرة فلن تتمكن يا شعب فلسطين من الخلاص .. ولن تتحقق اهدافك بالتحرير فما بالك بالعودة .. وستظل مكبلا باغلال الاحتلال والتخلف، والتشرد .. وستظل قوى الظلام تجد في اوساطك مرتعا خصبا لبث افكارها العدمية .. واوهامها الخرافية .. وادعاءاتها غير المنطقية.
شكرا لك يا ست فاطمة .. واقولها يصوت عال .. انا فلسطيني وافتخر .. ولكني ذاك الفلسطيني الذي ينتمي الى الانسانية كلها .. يؤمن بالمساواة بين كل البشر بغض النظر عن دينهم او عقيدتهم او لونهم او جنسهم.
هذا ما تعلمته في سني عمري الاولى في مدارس وشوارع وملاعب واسواق رام الله .. عندما كان جارنا اندراوس سابا ، وفي اول الشارع عائلة جدعون، ومدير مدرستنا الاستاذ ابو بهيج، ومربي صفنا الاستاذ ابو عيسى، وكلها اسر مسيحية كريمة، عندما كانت المحلات تغلق ابوابها اثناء مرور جنازة في الشارع بغض النظر عما اذا كانت لمسلم او مسيحي، وعندما كانت والدتي تذهب الى الكنيسة لحضور فرح ، وتذهب ام ادمون مع جدتي لزيارة الاقصى.
هذه فلسطين التي افخر بانتمائي لها .. وستظل فلسطين كما كانت ميدانا للتسامح والتعايش المشترك ، رغم الغيوم الداكنة التي تعبر سمائها .. فمهما طال امدها فهي مجرد غيوم عابرة .. فلا تظني انك تعايرينني بقولك “انا سورية وافتخر”. وسوف يتمكن المخلصون من ابناء شعبي من ترسيخ جذور الوحدة الوطنية، وسوف يتمكن شعبي من اقامة دولته الوطنية الديمقراطية، مهما بذل اعدائها من جهود ومكابرة.
ابراهيم علاء الدين