جبهة اليسار الفلسطيني
أولى ضحايا اجتماع المركزي الأخير
….لم يمضي على ولادة جبهة اليسار الفلسطيني أشهر معدودة،حتى تبين أن هذا المولود يعاني من تشوهات كثيرة،وهو بحاجة إلى أكثر من مبضع وعملية جراحية تعمل في جسده حتى تزيل هذه التشوهات،والتي يبدو أن التسرع في علاجها وإزالتها قد يسبب من الضرر أكثر من ما هو متوقع من العلاج،حيث أن عمليات الحمل السابقة جميعها لليسار الفلسطيني،كانت تجهض ويضيع المولود،ورغم كل مثبتات الحمل في المرات اللاحقة فهي لم تنجح في أن يكون هناك حمل مكتمل وناضج،ولعل الجميع قد استبشر خيراً في حالة الحمل الأخيرة،وخصوصاً بأن هذا الحمل جاء في ظروف غاية في الصعوبة والتعقد،حيث حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين جناحي الوطن قائمة ومتواصلة وآخذة في التعمق،والوضع الداخلي على درجة عالية من الضعف والتأزم والاحتقان،والحوار الوطني الفلسطيني متعثر وعلى ما تبدو عليه الصورة فإنه بدون مخارج أو نهايات،والحاجة ملحة وضرورية إلى وجود قوة تعيد التوازن للمجتمع والسياسة في الساحة الفلسطينية،واليسار الفلسطيني بنضاله وتاريخه وتضحياته،وعدم مشاركته في الصراع الداخلي بين قطبي السياسة الفلسطينية (فتح وحماس) ،محط رهان واحترام عند قطاعات واسعة من شعبنا وجماهيرنا ووجوده ضرورة موضوعية وحاجة مجتمعية فلسطينية،وهي تعول على هذا التيار الشيء الكثير في أن يتحمل مهامه ومسؤولياته تجاه الشعب والوطن في همومه العامة الوطنية السياسية والهموم المباشرة الاقتصادية والاجتماعية.
ومن هنا وجدنا أن بداية دوران العجلة بتشكيل جبهة اليسار الفلسطيني من الجبهتان الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب،قد يكون الرافعة والبداية لخلق تيار ديمقراطي واسع في الساحة الفلسطينية يتصدى للمهام الوطنية التحررية والديمقراطية المجتمعية،ويحقق نوعاً من التوازن الداخلي أمام قطبي فتح وحماس،وبما يشكل حماية للبرنامج والمشروع الوطني من التبدد والضياع،بفعل سياسات الانقسام والخيارات السياسية المطروحة،وما يجري من تحولات في المجتمع تحد من التعددية وحرية الرأي والتعبير،وفرض قيم غربية على المجتمع تتعارض مع كل قيم الحداثة والتنوير،ناهيك عن تكريس منهج الإقصاء وامتلاك الحقيقة المطلقة. وقلنا هذا المولود الجديد،سيخط ويشق له طريقاً ونهجاً مستقلين على الأرض وفي الساحة الفلسطينية،وبما يغرس ويكرس وجوده ودوره ونشاطه وفعله عميقاً في الوجدان والذاكرة الشعبية الفلسطينية،ومغادرة التبعية والتذيل لهذا الفريق أو ذاك مقابل فتات ومكاسب فئوية ضيقة،تبهت من صورة ومواقف اليسار وبالذات السياسية منها،وبما تظهره بأنه لا لون ولا طعم ولا رائحة له،وخصوصاً أنه بمختلف أطيافه ورغم التفاوت هنا أو هناك،سعى جاهداً إلى إنهاء حالة الانقسام الفلسطينية،وبدأ بنقل الأمور في هذا الإطار من الجانب الدعاوي والشعاري والنظري والتحريضي إلى جانب الفعل على الأرض من خلال مسيرات ومهرجانات شعبية تجوب الوطن والشتات،تطالب قطبي السياسة الفلسطينية بوقف حالة العبث والصراع غير المبرر على وهم سلطة فاقدة لأبسط مقومات وجودها وسيادتها،وبالفعل خاضت جبهة اليسار أكثر من انتخابات نقابية،ونشطت في القيام بالعديد من الفعاليات والأنشطة داخل الوطن وخارجه تحت هذا المسمى.
ورغم الاعتراضات من هنا أو هناك،إلا أنه كان هناك دفع تجاه أن تدور العجلة،لعل وعسى طبيعة الظروف،والإخفاقات السابقة التي مني بها اليسار الفلسطيني في أكثر من محطة وتجربة،شكلت دروساً وعبراً قاسية لقيادات تلك القوى،بأنه لا وجود لوزن حقيقي لتيار يساري فاعل دون أن يوحد تعبيراته السياسية والتنظيمية،والخروج من شرنقاته الذاتية،ورغم التحفظات والتشخيصات العديدة بأن هذه الوحدة لن تنتج شيئاً،فهي وحدة لمجموعة من القوى تعيش العديد من الأزمات المركبة والمتداخلة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً،وبالتالي لن تنتج سوى قوة مأزومة على نحو أشد وأعمق.
وبالنظر وأخذاً بالحسبان لكل ذلك،كانت هناك رؤيا تقول بأن توحد هذه القوى اليسارية والتي تشكل العصب الرئيس للقوى الديمقراطية،لها قيمة وأهمية عاليتين في صفوف قواعدها وأنصارها وقطاعات واسعة من جماهير شعبنا الفلسطيني،التواقة لهذه الوحدة واستعادة هذه القوى لدورها وحضورها بين الجماهير،وان تحقيق هذه الوحدة بشكل متدرج،وعلى أسس صلبة ومتينة تتجاوز الرؤ
ى والنظرات الضيقة والفئوية المقيتة سيعكس نفسه إيجابا على هذه القوى ويزيد من ثقة والتفاف الجماهير حول برامجها ومواقفها ورؤيتها.
ولكن اجتماع المجلس المركزي الأخير والذي عقد في 23+24/11 /2008 في رام الله،جاء ليكشف أن هذه بعض أطراف هذه الجبهة،لم تغادر عقلية الأنا والفئوية المقيتة،وهي ليس لديها قناعات جدية وعميقة،بخط وحدة حقيقية تمكن من تحقيق التمايز والموقف الواضح والمنفصل عن التبعية والتذيل،وهي رأت بهذه الوحدة تكتيك أو مجرد تحسين فرصها وشروطها في مكاسب آنية وفئوية.
وفي الوقت الذي كانت فيه قوى اليسار تعد ورقة مشتركة تعبر عن رؤيتها ومواقفها من القضايا المطروحة على جدول أعمال المركزي،كان أحد قيادات أطراف تلك الجبهة يعد ورقة أخرى باسم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تتعارض في جوهرها مع ورقة جبهة اليسار بل وتنسفها كلية،والورقة المعدة لتقدم باسم اللجنة التنفيذية،ليست مقبولة أو تعبر عن موقف جبهة اليسار حتى لم تكن مقبولة على قوى أخرى وبالذات في البند المتعلق بالمفاوضات،والتي جزء من أهل البيت نفسه (أي أصحاب نهج التفاوض)،باتوا على قناعة بأن هذا المسار أثبت عقمه وعبثيته،وهو بحاجة لإعادة تقيم جدي،وفي المحصلة النهائية عندما رفضت الورقة التي أعدت باسم اللجنة التنفيذية،أيضاً رفض ذلك الطرف اليساري الورقة المعدة باسم جبهة اليسار.
إن هذه الحالة عكست ليس فقط عمق الأزمة بين أطراف تلك الجبهة ،بل أن هذه القوى وبالذات العديد من قياداتها قد شاخت وتكلست وتعودت على نمط معين من العمل،وجزء آخر متخم بالعمل المكتبي والمهام العملية على حساب الإبداع الفكري،تحاكي ولا تنتج،وغير قادرة على مغادرة خط وعيها وسيرها التقليدي إلى وعي وخط سير جديد،وصحيح أن جوهر الأزمة اليسارية ومظهرها العام،هو في مشروعها النظري وهويتها الفكرية،ولكن ما هو أصح أن القيادات اليسارية الأولى هي السبب الرئيسي في الأزمة،فمن غير المعقول ولا المقبول أن القيادات التي تفرق هي نفسها التي ستوحد،وهي في إطار سعيها وبحثها عن ذاتها ودورها ووجودها وأنانيتها وفئويتها تجد سجل طويل من الذرائع والمبررات لكي تفشل أي جهد وحدوي،ولا تعدم وسيلة تغليفه أو تبريره أو تسويقه لقواعدها وكادراتها وجماهيرها.
ومن هنا فرغم الدرس القاسي المتمثل من هذه التجربة،فما زلت أقول أن خلق وبناء أوسع تيار ديمقراطي في الساحة الفلسطينية،هي مسؤولية تتحملها بالأساس القوة المركزية في هذا التيار،والتي عليها أن تخطو خطوات جدية وعملية على هذا الصعيد،ومن لم يلتحق الآن بالركب،فمع دوران العجلة والتقدم في هذا المسار سيجد نفسه مضطراً للحاق بهذا الركب أو تتجاوزه الحركة.
راسم عبيدات
القدس- فلسطين
28/11/2008