عماد بدر
كاتب سوري
ليس غريباً أن يكتب حول الاتفاقية الأمنية المزمع عقدها بين واشنطن وبغداد آلاف المقالات والدراسات، فالأمر يبدو عادياً، وذلك تبعاً لأهمية هذه الاتفاقية وخطورتها ليس على الأمن القومي والوطني العراقيين، وإنما على مجمل منطقة الشرق الأوسط وتحولاتها المستقبلية المتعلقة بأمنها واستقرارها، فضلاً عن انتعاشها الاقتصادي ومحاولة دخولها العصر حضارياً بعد أن خرجت أو أخرجت منه، أو أنها على شفا ذلك.
أقول رغم آلاف المقالات والدراسات التي كتبت عن هذه الاتفاقية، إلا أنني مازلت أقف عند فكرة تعتمل في داخلي كلما أمعنت النظر في تلك الاتفاقية ـ اللعنة التي يزمع الجانبان على توقيعها، مع الأخذ بعين الاعتبار الحجم الكبير لمعارضتها على جميع الصعد، شعبياً وسياسياً وحتى رسمياً من قبل بعض الكتل النيابية في العراق.
الفكرة بسيطة وتتعلق بالمفكر الأميركي الكبير زبغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر, الذي اعتبر الحرب ضد العراق بمثابة مأساة وطنية للولايات المتحدة الأميركية نفسها, وفاجعة اقتصادية, وكارثة إقليمية, ومصدر ضرر عالمي, وأن إنهائها يخدم المصالح الوطنية العليا للولايات المتحدة, و اعتبر تنبؤات الرئيس بوش والمرشح الرئاسي السابق جون ماكين عن النتائج الكارثية في حال انسحاب القوات الأمريكية من العراق, بأنها “تذكره بتوقعات الدومينو المتساقطة التي استخدمت لتبرير التورط الأمريكي في فيتنام” وذكر بأن الأمريكان لو استفتوا قبل أكثر من خمس سنوات, عما إذا كان الهوس الجنوني للرئيس بوش بإزالة نظام صدام حسين يستحق مقتل أكثر من أربعة آلاف وجرح أكثر من ثلاثين ألف أمريكي وإنفاق عدة تريليونات من الدولارات, علاوة على فقدان أمريكا مصداقيتها ومشروعيتها وهيبتها على المستوى العالمي, فإن الجواب سيكون بالنفي مؤكداً!
ويخالف بريجينسكي بشدة رأي الجمهوريين باعتبار الانسحاب يشكل كارثة, معتبراً أن فك الارتباط الكلي سيجعل العراق أكثر استقرارا على المدى البعيد. وان إنهاء الحرب في العراق هي الخطوة الأولى الضرورية لتهدئة الشرق الأوسط، معترفاً “لقد بدأنا هذه الحرب بتهور ولكن ينبغي أن ننهي تورطنا بتصرف مسئول, يجب أن ننهيها, لان البديل هو المضي في حالة من الشلل الناجم عن سياسة الخوف التي تؤبد الحرب, وتلحق الضرر بأمريكا تاريخيا”.
وهي النصيحة التي قدمها مؤخراً للرئيس المنتخب باراك أوباما: علينا الانسحاب من العراق دون قيد أو شرط، وأن الاتفاقية الأمنية مع بغداد هي بمثابة انتداب جديد لا يليق بالدور الكوني الذي يجب أن تلعبه أميركا عالمياً.
الغريب أن بريجنسكي الأميركي الحريص على أميركا أولاً، ومن ثم على الدور الأميركي في العالم ومن خلال ذلك الدور يبدي حرصاً على الشعب العراقي وعلى مصير الدولة العراقية، ويرى في تلك الاتفاقية صك انتداب جديد لا يليق بأميركا، ومن المؤكد أنه لا يليق بالشعب العراقي الذي يمتد تاريخه آلاف السنين ، موقف بريجنسكي يطرح سؤالاً تلقائياً، مقلقاً وموجعاً في آن وهو عن الجدوى الوطنية والقومية التي تروج لها زمرة المطبلين والمزمرين لتلك الاتفاقية من العراقيين أولاً، ومن العرب والعاربة والمتعوربة التي تحاول شرعنة الانتداب الأميركي الجديد، مرة بحجة الخطر الإيراني، ومرة بحجة مخافة الحرب الأهلية في العراق!!
يبدو أننا نحتاج إلى بريجنسكي مستشاراً حقيقياً للأمن القومي العربي، والعراقي خصوصاً، علّنا ندرك حجم الفاحشة الوطنية والقومية التي نرتكبها بحق أبناءنا وأحفادنا الذين سيسألوننا يوماً عما فعلنا بكرامتهم الوطنية وبنخيل دجلة والفرات وبالتراب الغالي الذي ضم رفات سيدنا أبي حنيفة النعماني ورفات سيد الشهداء الحسين عليه السلام.. سيسألنا أحفادنا عن أصوات السياب والرصافي والبياتي والجواهري الذين مازالوا يملأون الفضاء العراقي شعراً وكرامة وعشقاً لماء الرافدين.. هل نذكر دعاة الاتفاقية الأمنية أن ماء الرافدين قد جرى عبر آلاف السنين عزة ونخوة ولم يطأطئ لغاز أو طاغية أو مستعمر؟!!