د/إبراهيم أبراش
منذ أن أعلن شارون عام 2004عزمه الخروج من غزة في إطار خطته للانسحاب أحادي الجانب، أنشغل الفلسطينيون بقضية غزة حتى هيمنت على المشهد السياسي الفلسطيني والدولي وغَيَّبت غزة القضية الوطنية بكل مكوناتها الأساسية من لاجئين والقدس وحق العودة وحتى المفاوضات والتسوية أصبحتا موضوعا هامشيا أو مؤجلا لحين الحسم بمصير غزة.منذ عام 2004 تداعت الأحداث وخصوصا بقطاع غزة بشكل دراماتيكي :الانفلات الأمني في القطاع ،تدفق السلاح بشكل غير مسبوق على القطاع ،تواجد وفد أمني مصري بالقطاع دون الضفة الغربية،قبول حركة حماس بالمشاركة بالانتخابات التشريعية بعد طول ممانعة لا تخلو من تبريرات دينية،تفكك وإضعاف الأجهزة الأمنية لصالح الميليشيات والجماعات المسلحة ،تدمير تنظيم حركة فتح أو إعاقة استنهاضه وخصوصا في قطاع غزة ،تعاظم انفلاش وفساد السلطة،الحديث عن الدولة ذات الحدود المؤقتة،انسحاب شارون من قطاع غزة،الانتخابات التشريعية التي أوصلت حماس للسلطة،الاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين حركة حماس وواشنطن وأطراف أوروبية وإسرائيلية بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الوساطة القطرية،إمعان إسرائيل بسياسة الاستيطان بالضفة والتهرب من استحقاقات التسوية التي تؤسَس على وحدة الضفة وغزة والمرجعية الدولية، فرض الحصار على الضفة وغزة خلال حكومة حماس ثم حكومة الوحدة الوطنية،الاقتتال الداخلي،انقلاب حركة حماس في يونيو 2006وفصل غزة عن الضفة،انسحاب الوفد الأمني المصري من القطاع،تواجد حكومتين وسلطتين متعاديتين في الضفة وغزة،انحياز وتواطؤ معلن وخفي لأطراف عربية وإقليمية ودولية لحكومة حماس،تزايد التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية لحكومة سلام فياض وقوات الاحتلال، حصار قطاع غزة ،التهدئة بين حماس وإسرائيل ،ثم الحملات المكثفة المبرمجة والمخططة على أعلى المستويات لرفع الحصار عن قطاع غزة بذريعة الظروف الإنسانية مقابل تراجع الجهود والمحاولات الداخلية والعربية للمصالحة الفلسطينية الفلسطينية.
قد تبدو هذه الأحداث عفوية ولا رابط بينها إلا أن المدقق بالأمور والملم بالسياسة الإسرائيلية والدولية والتي لا تقبل الفراغ السياسي وخصوصا بالنسبة لقضية كالقضية الفلسطينية وبمنطقة كمنطقة الشرق الأوسط الأكثر سخونة وخطورة في العالم ،سيدرك أن الأحداث المشار إليها حلقات مترابطة لتسوية جديدة تتشكل على الأرض .فعلى عكس اتفاقية أوسلو التي سبقتها مفاوضات مكثفة ثم أعلن عنها رسميا ووضعت خطوات ومراحل لتنفيذها وسط ضجيج إعلامي كبير ثم وصلت لطريق مسدود ،هذه التسوية الجديدة بدلا من أن يُعلن عنها بداية ثم تفرض على الأرض -كان من المتوقع أن تجد معارضة فلسطينية قوية- جرت الأمور بالعكس ،حيث تم التفاهم عليها سرا وضمنيا ثم بدأ الاشتغال على تنفيذها بهدوء ودون إعلان رسمي لولادتها لان المشاركين فيها لا يريدون الاعتراف بمشاركتهم بها.
منذ أن بات واضحا أن التسوية المُعلنة المؤسَسَة على اتفاقية أوسلو وقراري 242 و338 وصلت لطريق مسدود حتى بدا الاشتغال على تسوية خفية،تسوية أمر واقع تشارك بها أطراف متعددة بعضها كمشارك فاعل ومؤسس وأخرى من خارج فلسطين تشارك لوجستيا وماليا دون أن تظهر بالصورة وأخرى تعلم بالمخطط وتباركه من بعيد وبصمت وأطراف تعلم بالمخطط ولا توافق عليه ولكنها لا تقدر على وقفه أو مواجهته بالعلن،كل هؤلاء مشاركون بتسوية الأمر الواقع التي نشهد آخر فصولها اليوم من خلال استعداد حركة حماس للإعلان عن قيام دولة غزة،هذا الإعلان الذي ينتظر تنصيب رئيس من حماس في يناير وفتح معبر رفح ولو جزئيا،وفي هذا السياق فإن التهدئة وخرقها المتكرر الذي يعطي ذريعة لمواصلة الحصار هي محاولات لممارسة ضغوط على مصر أو منحها ذرائع لفتح معبر رفح أو تشجيع أطراف دولية على فتح خط بحري بين القطاع والعالم الخارجي،مما سيؤدي لقطع العلاقة كليا ما بين القطاع وإسرائيل وبالتالي بالضفة الغربية .
الحصار الذي يتعرض له أهلنا بالقطاع، أهل غزة الذين احتضنوا المشروع الوطني عبر التاريخ وحملوا أسم فلسطين وحافظوا عليه ودفعوا ثمنا باهظا للحفاظ على الهوية الوطنية وشعلة الثورة، حصار ظالم وغير أخلاقي تتحمل مسؤوليته كل الأطراف المشاركة بتسوية الأمر الواقع غير المعلنة تسوية فصل غزة عن الضفة وتصفية المشروع الوطني الفلسطيني.بطبيعة الحال إسرائيل هي المُخطِط الأول لأنها المستفيد الأول ولا داع لتكرار الحديث عنها لأنها عدو والعدو سيمارس كل ما هو مُدمِر لخصمه،ولكن الأطراف التي نقصد هي التي يفترض أنها صاحبة القضية الوطنية أو متبنية لها بحكم الانتماء القومي أو الديني ، هذه الأطراف الفاشلة والعاجزة أسقطت فشلها وعجزها على أهل غزة ، فشل منظمة التحرير و سلطتها وحكومتها في التقدم على مسار مشروع التسوية الذي راهنت عليه طويلا،وفشل حركة حماس ومعها كل الإسلام السياسي في العالم في تطبيق مشروعها المقاوم وشعاراتها الكبيرة حول التغيير والإصلاح ،وفشل العرب في فرض
مشروعهم للسلام .
مشروعهم للسلام .
كل الذين يتباكون اليوم على أهل غزة سواء كانت حركة حماس أو السلطة في الضفة أو مراكز الإخوان المسلمين والإسلام السياسي في الخارج أو دول عربية وأجنبية،كلهم يدركون أن مشكلة غزة ليست إنسانية بل سياسية وإستراتيجية ،وأن الأمر لا يتعلق فقط برفع الحصار المالي والغذائي بل بتحديد مصير غزة ووضعيتها القانونية وشرعية السلطة القائمة بها،ما يجري هو مخاض مؤلم وقاس لتنفيذ المرحلة الثانية لخطة شارون للانسحاب من القطاع،مخاض ولادة دولة غزة أو الإمارة التي ستشكل قاعدة لمشروع سياسي إسلامي يحل محل المشروع الوطني الفلسطيني الذي وصل لطريق مسدود أو أوصلوه لذلك،الأمر ليس كسر حصار لأسباب إنسانية بل تحديد الوضعية القانونية لقطاع غزة ورسم الحدود والعلاقات الدولية ما بين قطاع غزة ككيان سياسي منفصل عن كيان منظمة التحرير وسلطة الحكم الذاتي من جهة والعالم الخارجي من جهة أخرى،ومصر تعلم حقيقة الأمر وكذا الأنظمة العربية ولذلك فإن مصر والدول العربية تماطل وتتهرب من الإقدام على خطوات جادة للمصالحة لأنها تعلم أن القوى الدافعة باتجاه التسوية الجديدة أو تسوية الأمر الواقع أقوى من الحوافز والدوافع الأخلاقية والوطنية والقومية للمصالحة الفلسطينية ،بل يمكن القول بأن محاولات مصر الأخيرة للمصالحة لم تكن جادة وهي أقرب لرفع العتب وتهدئة الجماهير المصرية الضاغطة باتجاه المصالحة ورفع الحصار بحسن نية،ومصر والدول العربية أيضا مترددة في الإقدام على المصالحة وكسر الحصار المفروض على القطاع لأنها تدرك انه فات الأوان على المصالحة على قواعد ومرجعيات متوافق عليها للمشروع الوطني،وتدرك أيضا أن فتح الحدود والاعتراف بحكومة الأمر الواقع في القطاع معناه المشاركة في فصل غزة عن الضفة و إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني وبالتالي إعادة النظر بملف التسوية ومشروع السلام العربي والصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية،هذه الأطراف تعرف المخطط وليست بعيدة عنه ولكنها لا تريد أن تبدو كمشاركة فيه .
قد تبدو هذه المقاربة تشاؤمية وتشكك وتتهم الجميع وتؤسَس على افتراضات لا حجج دامغة عليها ،ومع أننا لا نعتبر التشاؤم ونهج التآمر أمورا بعيدة عن السياسة بل هي جوهر السياسة الواقعية فليس هدفنا نشر روح التشاؤم أو التشكيك بوطنية احد بل معرفة الأمور على حقيقتها والتحرر من خطاب الايدولوجيا والشعارات والمراهنات على الأوهام ،إن كان الحوار والمصالحة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل يونيو 2006 وعلى أرضية وحدة السلطة والنظام السياسي باتا أمرا صعب المنال لان إسرائيل لن تقبل بمصالحة على غير شروطها ومحاور إقليمية أصبحت قادرة أيضا على فرض شروط على قوى فلسطينية ،فهذا لا يعني أن حبل الحوار والمصالحة انتهي، فالفلسطينيون بحاجة للحوار والمصالحة حتى لو استمرت حالة الفصل القائمة بين عزة والضفة لوقت من الزمن ،إن فشلت المصالحة والتفاهم على الحكومة والسلطة والنظام السياسي فالفلسطينيون بحاجة لاستمرار الحوار والمصالحة للحفاظ على القضية الوطنية والشعب والهوية ومواجهة تحديات المستقبل،فلسطين اكبر من الحكومة والسلطة ومن فتح وحماس وبقية الفصائل،وإن كانت أطراف عربية وإقليمية متواطئة على المشروع الوطني ومشروع السلام الفلسطيني فلا يعني هذا أنها مفرطة بالضرورة بالقضية الفلسطينية ومتواطئة مع العدو ،فقد تندرج سياستها في إطار سياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولو في إطار مشروع للإسلام السياسي المعتدل والمقبول أمريكيا، وقد تكتشف هذه الأطراف مع الوقت أنها أخطأت في مواقفها لأن الإدارة الأمريكية الديمقراطية تريد توظيف مقولة الإسلام المعتدل لمواجهة ما تعتبره الإرهاب الإسلامي وليس تأسيس علاقة إستراتيجية معه .
هذا التشخيص للحالة وهذه التداعيات الدراماتيكية ما كانت لتكون لو كانت إسرائيل جادة بالسلام ولو حقق مشروع السلام والتسوية الذي تتبناه السلطة إنجازا على الأرض.في ظل غياب المصالحة الوطنية قد تتغير أو تتعثر المعادلة – تسوية الأمر الواقع –نسبيا في حالتين :الأولى فيما لو غيرت حركت حماس مواقفها من التسوية والاتفاق الموقعة والاعتراف بإسرائيل ولكن وحتى في هذه الحالة لا نعتقد أن إسرائيل مستعدة لتنفيذ الاتفاقات الموقعة والسماح بقيام دولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.أما الحالة الثانية: أن يتم التوصل لتسوية ما بين الرئيس أبو مازن واولمرت في اللحظة الأخيرة ولكن هذا الاتفاق لن يجد قبولا من حركة حماس وربما من فصائل أخرى وبالتالي يحتاج تنفيذه لتدخل قوات عربية أو دولية أو تدخل إسرائيلي وهذا يعني تعميق الانقسام الفلسطيني الداخلي.وعلى كل حال فهذان الاحتمالان بعيدان عن التحقق. أما بالنسبة للانتخابات فلا نعتقد أنها ستحل المشكلة في ظل استمرار حركة حماس على مواقفها وفي ظل وجود المواقف المتناقضة حول المرجعيات والثوابت الوطنية:السلام والتسوية والمقاومة والدولة ومفهوم المشروع الوطني ،وقد كتبنا أكثر من مرة بان الانتخابات ليست دائما آلية مناسبة لحل التناقضات الداخلية فالتفاهم والتراضي قد يكونا أجدى،ونخشى إن تمت الدعوة للانتخابات دون تفاهم أن يؤدي الأمر لمزيد من الانقسام وتكريس القطيعة.
بدائل كل هذه الخيارات المأزومة هو المصالحة الوطنية الجادة على قاعدة اعتراف طرفي المعادل
ة – فتح وحماس- أن كل منهما فشل في خياراته،فتح والسلطة فشلت في التقدم على مسار السلام وبات واضحا أن المفاوضات مع إسرائيل منحت وتمنح إسرائيل شرعية مواصلة الاستيطان والتهرب مما عليها من استحقاقات كدولة احتلال ،وحركة حماس فشلت في تقديم بدائل وطنية وفي إخراج النظام السياسي الفلسطيني من عثرته، فتوظيفها للدين ولشعارات المقاومة وممارستها للمقاومة خارج إستراتيجية وطنية ،كل ذلك أوصل حركة حماس لطريق مسدود ولن يخرجها من عثرتها المراهنة عالم إسلامي وإسلام سياسي مأزوم، وحتى السماح لها بإقامة إمارة أو دولة غزة لن يكون سماحا برخصة مفتوحة بل لحين لن يطول يسمح لإسرائيل باستكمال مخططاتها الاستيطانية في الضفة وتكريس حالة الفصل بين غزة والضفة، ثم ستخلق إسرائيل وربما أطراف أخرى فتنة في القطاع ستجعل منه ساحة لحرب أهلية مفتوحة.
ة – فتح وحماس- أن كل منهما فشل في خياراته،فتح والسلطة فشلت في التقدم على مسار السلام وبات واضحا أن المفاوضات مع إسرائيل منحت وتمنح إسرائيل شرعية مواصلة الاستيطان والتهرب مما عليها من استحقاقات كدولة احتلال ،وحركة حماس فشلت في تقديم بدائل وطنية وفي إخراج النظام السياسي الفلسطيني من عثرته، فتوظيفها للدين ولشعارات المقاومة وممارستها للمقاومة خارج إستراتيجية وطنية ،كل ذلك أوصل حركة حماس لطريق مسدود ولن يخرجها من عثرتها المراهنة عالم إسلامي وإسلام سياسي مأزوم، وحتى السماح لها بإقامة إمارة أو دولة غزة لن يكون سماحا برخصة مفتوحة بل لحين لن يطول يسمح لإسرائيل باستكمال مخططاتها الاستيطانية في الضفة وتكريس حالة الفصل بين غزة والضفة، ثم ستخلق إسرائيل وربما أطراف أخرى فتنة في القطاع ستجعل منه ساحة لحرب أهلية مفتوحة.
27/11/2008