تحتل قاعدة تابعة للجيش العراقي محاطة بأسوار خرسانية وأبراج مراقبة معظم الميدان الشاسع الذي يتجمع فيه أنصار الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر بالالاف أيام الجمعة لاداء الصلاة. وربما للمرة الاولى منذ ظهور الصدر على الساحة السياسية عبر قيادته انتفاضتين ضد القوات الاميركية عام 2004 أصبح من الممكن الآن تخيل مستقبل للعراق يلعب فيه دورا سياسيا محدودا.
وفي أي يوم من أيام الاسبوع يكون الميدان الواقع في حي مدينة الصدر ببغداد خاويا. ويحدق جندي عراقي من نقطة مجاورة لعربة مصفحة تقف أسفل أبراج المدافع بالقاعدة الجديدة بالجهة المقابلة لمقر حركة الزعيم الشاب.
داخل المبنى الذي كانوا ذات يوم يمارسون من خلاله نفوذا منقطع النظير على سكان الحي البالغ عددهم مليونا نسمة يشكو أنصار الصدر من القوات الحكومية التي وصلت قبل ستة أشهر.
ويتحسر ابو عمار السعدي الزعيم العشائري الذي يشغل أفراد من أسرته مواقع بارزة في الحركة قائلا “كذبوا علينا.”
ومضى يقول “الحكومة قالت (نريد الدخول لاعتقال بعض المطلوبين فحسب) لا لاقامة قواعد. وبعد أن جاءوا بنوا قواعد بمدينة الصدر.”
وبعد ستة أشهر من طرد القوات الاميركية والعراقية مقاتلي ميليشيا جيش المهدي الموالية للصدر والتي كانت مرهوبة الجانب ذات يوم من شوارع مدينة الصدر وجنوب العراق أصبحت حركة الزعيم الشاب محاصرة.
ولم يظهر الصدر نفسه علنا منذ شهور ويعتقد على نطاق واسع أنه رحل الى ايران.
وفي العام الماضي سحب أعضاء الحكومة المنتمين الى حركته من الائتلاف الحاكم. وفي العام الحالي سرح أعضاء جيش المهدي التابع له بأعداد كبيرة. ويعني هذان التطوران معا أنه لا يتمتع الان بنصيب من النفوذ السياسي القومي ولا النفوذ في الشوارع ربما.
ومع توقيع اتفاق في الاسبوع الماضي يطالب القوات الاميركية بالانسحاب في غضون ثلاثة أعوام تزعم الحكومة الان أنها حققت الهدف السياسي الذي طالما دافع عنه الصدر بدونه.
ويقول ريدار فيسر وهو مؤرخ نرويجي وخبير في شؤون الطوائف الشيعية بجنوب العراق “من المؤكد أن هناك مساحة أقل” في السياسة العراقية للصدر. وأضاف “يبدو أن الصدر يسعى جاهدا للحفاظ على السيطرة على حركته في الوقت الحالي.”
ولا يزال الصدر يتمتع باحترام مشوب بالعاطفة خاصة بين أفراد العشائر الشيعية الجنوبية من الفقراء النازحين الذين تكتظ بهم مدينة الصدر التي تختنق من القمامة حيث تحمل الحوائط كتابات تندد “بالاحتلال” الاميركي وتعد بالنصر لجيش المهدي.
ويحمل عدد لا يحصى من الملصقات صورا للزعيم الشاب بلحيته السوداء ونظرة متجهمة الى جانب والده بلحيته البيضاء وعمه بلحيته الرمادية وكلاهما من ايات الله وقد أصبحا شهيدين مبجلين حين قتلا في عهد الرئيس السابق صدام حسين.
وترفرف أعلام سوداء في كل مكان احياء لذكرى وفاة والده التي حلت مؤخرا وهو دليل على الاخلاص لاسم عائلته.
والعزلة والاقصاء الاجتماعي اللذان غذيا
صعود الصدر السريع من السهل رؤيتهما في حي مدينة الصدر الذي هو حي اكثر منه مدينة منفصلة ظهر على مشارف العاصمة ليسكنه أفراد العشائر الريفيون النازحون من الجنوب الشيعي.
صعود الصدر السريع من السهل رؤيتهما في حي مدينة الصدر الذي هو حي اكثر منه مدينة منفصلة ظهر على مشارف العاصمة ليسكنه أفراد العشائر الريفيون النازحون من الجنوب الشيعي.
ولا توجد أي صلة بين مدينة الصدر والحياة المدينية التي تعيشها الطبقة المتوسطة والتي تطورت الى جوارها في بغداد وتستمتع بطفرة نفطية. وتبدو جذورها الريفية واضحة في الوشوم القبلية على وجوه النساء المسنات. وترعى الاغنام في أكوام من القمامة المتعفنة التي تملا أزقتها.
ويبدو الفقر واضحا. في “سوق مريدي” المزدحم يبيع التجار أثاثا مكسرا وأكواما من الكابلات الكهربائية العشوائية وقطع غيار لاجهزة التلفزيون وماكينات حلاقة من التي تستعمل لمرة واحدة غير مغلفة. وتتكدس الاسر في شقق بمبان منخفضة الارتفاع. وتمتلئ المدارس بمياه الصرف الصحي.
واستغل محمد باقر الصدر عم مقتدى ووالده محمد صادق الصدر مشاعر العزلة لجمع أعداد هائلة من الاتباع بوصفهما متحدثين باسم المضطهدين. واحتشد أنصارهما حول مقتدى بعد أن أطاحت القوات الاميركية بصدام عام 2003.
وحظيت مشاعره المناهضة للولايات المتحدة بشعبية بين الفقراء من الشيعة الذين كانوا يشعرون بالاستياء من الاثرياء الذين كانوا يعيشون في المنفى وتولوا مناصب ذات نفوذ في الحكومة التي دعمتها الولايات المتحدة وما زال يستقطب الجموع.
وخرج الالاف من أنصاره الاسبوع الماضي في مسيرة احتجاجا على الاتفاق الخاص بالقوات الاميركية وأحرقوا دمية للرئيس الاميركي جورج بوش في الميدان نفسه الذي أسقطت فيه القوات الاميركية تمثال صدام ذات يوم.
لكن جهوده لتحويل شعبيته الى نفوذ سياسي تقليدي كانت ملتبسة. فبعد تنقله بين العصيان المسلح والسياسة السلمية تحالف الصدر عام 2005 مع أحزاب شيعية اكثر رسوخا مما ساعد على ضمان فوز الائتلاف الذي جاء برئيس الوزراء نوري المالكي.
وكافأ المالكي التيار الصدري بعدة مقاعد في الحكومة وبدا الصدر متجها نحو التيار السياسي السائد.
لكنه في العام الماضي سحب أنصاره من الحكومة التي اتهمها بالاخفاق في تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الاميركية. وبلغت مواجهته مع المالكي ذروتها في مارس اذار هذا العام حين أصدر رئيس الوزراء أوامره للقوات بطرد أنصار الصدر من شوارع البصرة بجنوب العراق.
وحاصرت القوات الاميركية والعراقية مدينة الصدر لاسابيع. وشنت طائرات هليكوبتر أميركية من طراز اباتشي هجمات صاروخية يومية على مقاتلي جيش المهدي الذين كانوا يقصفون مجمع المنطقة الخضراء بالصواريخ.
وفي الليل كانت مكبرات الصوت تدوي بنداءات جيش المهدي للمعركة.
وانتهى القتال في مايو/ايار بهدنة تسمح للقوات الحكومية بالانتقال الى مدينة الصدر فيما لم تدخل القوات الاميركية الا لقطاعها الجنوبي. وبعد ذلك بأشهر أعلن الصدر أن جيش المهدي سيجري تسريحه لتحل محله مؤسسة خيرية تعليمية لم يعرف عنها الكثير حتى الان.
ويقول الجيش الاميركي ان المعركة التي دارت بين شهري مارس ومايو تعتبر انتصارا.
وصرح الكولونيل جون هورت قائد القوات الاميركية بمدينة الصدر للصحفيين هذا الشهر قائلا “تقييمي في الوقت الحالي ل
هذا الجزء من التمرد هو أنه وقع في فوضى عارمة.”
هذا الجزء من التمرد هو أنه وقع في فوضى عارمة.”
ويقدر أن نصف القادة فروا و800 من نحو 2000 مقاتل لاقوا حتفهم أو أصيبوا بجروح خطيرة. اما العائدون فيجدون وجوههم على لوحات اعلانية ضخمة تعرض مكافآت لمن يلقي القبض عليهم علقتها القوات الاميركية عند مداخل مدينة الصدر.
ويقول مسؤولون عسكريون انهم حرموا أنصار الصدر من مصدر الدخل الرئيسي بمدينة الصدر عبر اقامة أسوار حول سوق جميلة الشاسع الذي كان المقاتلون يغتصبون منه الاموال.
وفي القطاع الجنوبي المحاط بالاسوار قامت القوات العراقية والاميركية بالتنظيف وأصبحت الشوارع أقل قذارة من أماكن أخرى.
ويعاني أنصار الصدر الان من عزلة سياسية حيث استبعدت المجموعة الكبيرة الوحيدة بالبرلمان من كل من مجلس الوزراء ومجلس الامن القومي وهو كيان يضطلع باتخاذ قرارات أنشأه المالكي.
وقال ابو زهرة وهو مستشار اعلامي من التيار الصدري خلال جولة بأنحاء مدينة الصدر “نحن صنعنا المالكي.استخدموا أصواتنا من أجل أحزابهم لكنهم لم يعطونا شيئا.. هذا الخطأ لن يتكرر.”
ولم يشكل أنصار الصدر حزبا سياسيا قوميا رسميا مما لا يمنحهم بنية تحتية للمنافسة في انتخابات المحافظات المقرر اجراؤها في 31 يناير كانون الثاني. ومن المتوقع أن يخوض المرشحون من التيار الصدري الانتخابات كمستقلين او أعضاء في أحزاب صغيرة.
في الوقت نفسه بدأ المالكي في الترويج لحزبه حزب الدعوة الذي أسسه عم الصدر في السبعينات بوصفه الوريث الشرعي للمبادئ الشيعية الشعبية للصدريين. وفي ظل تمتعه بالسيطرة على الميزانية المركزية يستطيع المالكي أن يقدم وعودا لا يستطيع أنصار الصدر مضارعتها.
وقال فيسر “من الواضح أن المالكي يحاول الاستفادة من قاعدة الدعم للصدر من خلال تحدثه لغة القومية العراقية.”
وبتوقيع الاتفاق الذي يحدد موعدا لرحيل القوات الاميركية يكون المالكي قد تبنى القضية التي يدافع عنها الصدر. ويعارض أنصار الصدر الاتفاق لكن المالكي يسخر منهم على اعتبار أنهم لا يقدمون بديلا.
وبالنسبة للمواطنين العاديين قد لا تعنيهم تفاصيل الاتفاق بدرجة كبيرة مقارنة بالاوضاع الامنية والوظائف. ويقول سجاد وهو فتى في الثانية عشرة من عمره كان يلهو مع أصدقائه في الميدان الخاوي امام مكتب الصدر ان مدينة الصدر باتت اكثر هدوءا منذ جاءت القوات الحكومية.
وقال “اذا حدثت أي مشكلة يمكن أن يتدخل الجنود بين الناس ويوقفوا الشجار. لا نريد الا الامن. نريد للاوضاع أن تعود لما كانت عليه قبل عام 2003.”