****
تبسم لأم العيال كديك قد أتم عمله، فنفش ريشه وقد انتصب عرفه .. كان يمسك بفانوس قديم أنزله من سدة المطبخ ، بعد أن أزال عنه لفائف من أكياس النايلون المغبرة .. أمطرته بنظرات الدهشة قبل أن تمضى إلى غرفتها، لم يكترث لها .. في السوق حفيت أقدامه سائلا عن كيروسين أبيض للفانوس .. في كل مرة كان يسمع رنات ضحكاتهم المتهكمة من خلف ظهره.. قبل أن يدخل بيته مكدرا سمعها للجارة تقول وهى تضرب كفيها: لا جاز ولا غاز ولا كهرباء.. دخل بقدمه الشمال على غير عادته ؟.. كانت لا تزال أم العيال على دهشتها منه ولا تزال ابتسامتها المستهجنة.. زارتهم العتمة بهواجسها.. تعثرت قدماه بمجسم للأقصى وضع في ركن الغرفة.. وخز أم العيال مستدركا.. الآن فقط قدرت حجم مصيبتنا.. فانفجرت ضحكاتها الهستيرية.!!
****
استنفذ الناس غاز الطبخ من بيوتهم .. وأغلقت معظم المخابز أبوابها في حصار لم يسبق له مثيل .. هرعوا إلى بواب ير الجاز القديمة ..كانت الزوجة الشابة بعمر الثلاثين تحاول جاهدة تشعله فلم تفلح محاولاتها ..التجأت إلى جارتها الحاجة أم توفيق في السبعين من عمرها .. وجدتها تخبز لأحفادها على قطعة صاج من المعدن .. وقد أوقدت من أسفلها نار من كراتين جلبها الصغار من أمام المحلات ومن زوايا الأسواق بعد عراك بالأيادي وشتائم من ألسنه قد نفذ صبرها…فجلست الزوجة الشابة لتعلمها الحاجة خبرات نصف قرن مضى ..كانت قد دأبت على صناعته ما قبل النكبة وما بعد النكسة.. بعد انتهائها طلبتها الشابة إلى مطبخها لتشعل لها ببور الجاز.. والذي استبدلت الكيروسين المفقود بمازوت معالج بملح الطعام .. شكرتها لام توفيق التي غادرت مزهوة ،على أنها ما تزال محل احترام وتقدير لخبراتها التي لا يعلمها سوى جيلها.. فأحست بقيمتها فبدت كامرأة في الخمسين من عمرها.. أوصلتها إلى الباب احتراما لها …في طريق عودتها أدارت الشابة مفتاح الراديو تترقب أخبار فرحة لم تصل بعد إلى مسامع الفقراء والمحتسبين أمرهم إلى الله.. فكانت إذاعة الشرق الأوسط تصدح بأغنية لعبد الوهاب يكرر فيها: ” يا ببور قلى رابح على فين ” .. ابتسمت وراحت تقارن ما بين ببور القطار لعبد الوهاب .. وببور الطبخ الهادر من القرن الماضي.. كطائرة نفاثة تثير الرعب في قلبها تذكرها بالمآسي عقب كل صرير هادر لها كان يصعق السماء.. جاءتها رغبة مفاجأة جامحة لقهقهات عفوية صاخبة .. فوضت يدها على فاها تحول دون انطلاق ضحكاتها بشكل هستيري..!!
إلى اللقاء.