تشهد بغداد في الايام القليلة المقبلة حدثا تاريخيا، حيث سيقرر البرلمان العراقي موقفه من ما يعرف بالاتفاقية الامنية مع الولايات المتحدة، التي تنص على انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية العام المقبل، بينما يغادر كل جنود الاحتلال الأمريكي البالغ عددهم 150 ألفاً بنهاية عام 2011، وهو حدث لا يقل اهمية عن ذكرى 20 مارس 2003، اليوم الذي بدأ فيه الغزو الامريكي للعراق.
وقد اثارت المفاوضات بين واشنطن وبغداد حول الاتفاقية جدلا حادا في الاوساط السياسية والشعبية العراقية خلال الاسابيع الماضية، وتفاوتت الاراء بين من اصدر فتاوي تحرم التوقيع عليها وتخرجه من دائرة الاسلام الى دائرة الكفر. وبين من يرى رفضها خيانة وطنية وخروجا من الملة.
وبين هذان الموقفان الحادان كان موقفا ثالثا عبر عنه مجموعة من المثقفات والمثقفين العراقيين جمعتني بهم دعوة عشاء بأحد فنادق العاصمة الاردنية عمان، على هامش فعاليات مهرجان المسرح الأردنيالخامس عشر والدورة العربية السابعة للمهرجان في المركز الثقافي الملكي في منتصف الشهر الجاري. حيث ركزت المجموعة على عدم جواز الخضوع لوجهة النظر المتطرفة من أي اتجاه كانت، وان تبادل عبارات التخوين والاستعانة بالفتاوي الدينية لتعزيز وجهة نظر التطرف امر لا يمكن قبوله.
فمن هي الجهات صاحبة المصلحة في قبول الاتفاقية ومن هي القوى التي ترى فيها جريمة وكفرا وخيانة؟ وفي محاولة لتوضيح الرؤية دار الحوار بين مجموعة المثقفين والمثقفات، استحضروا خلاله الفتاوي الدينية الرافضة التي صدرت بخصوص الاتفاقية وكان اشدها واكثرها حدة تلك التي صدرت عن المراجع الدينية التابعة لايران.، وتلك التابعة للمراجع السنية ومن اهمها فتى هيئة علماء المسلمين.
واتفقت اراء المثقفين والمثقفات على القول”نحن في واقع لا يوجد فيه الا خياران .. فاما الخيار الامريكي، او الخيار الايراني، لانه للاسف الشديد فان اصحاب الخيار الوطني في حالة من الضعف والعزلة، نتيجة سيطرة التيارات الدينية على ساحة العمل السياسي، دون انكار ان بعض هذه التيارات لديها مواقف وطنية لكنها غالبا لأسباب طائفية أو مذهبية، وبالتالي يصبح الخيارالمتاح هو : هل نقبل باتفاقية مذلة ومهينة، يتم من خلالها بناء الجيش الوطني، وتعزيز قواعد الديمقراطية، وتثبيث اركان بناء الدولة الحديثة؟، ام نرفض الاتفاقية فنوفر فرصة تاريخية لتحقيق الحلم الامبر اطوري الفارسي بالسيطرة على العراق تمهيدا لمد هيمنتها على المنطقة كلها؟”.
فايران وهي اشد المعارضين للاتفاقية ترى فيها مسمار نعش في مشروعها الاستعماري، وجاءت فتاوي المراجع المؤيدة لها مثل المرجع كاظم الحسيني الحائري بفتواه التي تقول “ان الاتفاقية الأمنية جائرة يحرم توقيعها والعمل بنصها, وإن الحوزة العلمية لن تعترف بشرعيتها ولن تكون ملزمة لأحد”.
واستغرب بعض الحضور كيف تلتقي المراجع الدينية المتناقضة والتي تكفر بعضها بعضا، والتي ادت الخلافات بينها الى سقوط مليون قتيل من الابرياء في شوارع ومساجد وحسينيات ومدارس وجامعات واسواق بغداد خلال السنوات الخمس الماضية عبر عمليات الارهاب الدموي التي شنها اتباع الطائفتين من المتطرفين الارهابيين.
ففي الوقت الذي تحرم ايران واتباعها من المراجع الشيعية التوقيع على الاتفاقية كذلك تحرم المراجع السنية الموافقة عليها وبعبارات متقاربة الى حد ما، حيث اصدرت هيئة علماء المسلمين فتوى نصت على “ان الاتفاقية الأمنية محرمة شرعا وباطلة عقدا ولا تلزم أبناء العراق بشيء وكل من يوافق أو يوقع عليها آثم وخائن لله ورسوله والمسلمين من أبناء الشعب العراقي وغيرهم”.
وكلا الموقفين يعكس اهدافا سياسية ، يستخدم الدين وسيلة لتحقيقها في استغلال بشع للعاطفة الدينية للشعب العراقي ، ورواج الولاء الطائفي، والخضوع الشعبوي المستسلم لقدره واقداره للمراجع الدينية.
فاذا كانت اهداف المراجع الايرانية واضحة وجلية وملموسة في اتساع النفوذ في محافظات الجنوب، ويأخذ طابعا دينيا واقتصاديا واجتماعيا، حتى أصبحت العملة الايرانية “التومان” عملة محلية في النجف وكربلاء والبصرة، فان الموقف الرافض للمرجعية السنية واتباعها ناتج عن الشعور بالغبن والعزلة التي وجدوا انفسهم فيها في عراق ما بعد النظام الديكتاتوري، حين انتزعت منهم الطائفة الشيعية المواقع السيادية في مؤسسات الحكم.
ولذلك فان مواقفها الحادة لا تخرج عن كونها نوعا من المساومة مع المحتل الامريكي لانتزاع بعض المواقع في مؤسسات الحكم.
وذهب بعض السادة المثقفين مدى ابعد في وصف الحالة الراهنة الناتجة عن الافصاح عن بنود الاتفاقية الأمنية، فقالوا ان التهويل من نتائج قبول الاتفاقية من قبل الكثير من المخلصين والوطنيين العراقيين، اما انه ينطلق في الغالب من العداء المتأصل للولايات المتحدة من ناحية ، أو من عدم ادراك الخطر الايراني من ناحية ثانية.
والواقع انه كما يبدو ان الاتفاقية في الوقت الراهن تعتبر افضل الممكنات، وهي الخطوة الأنسب لاستعادة السيادة الوطنية رغم الملاحظات العديدة، كما ان المبالغة من نتائج رفضها وتصويرها كانها تلقي بالعراق بالهواء ليهوي محطما الجميع، يفوت على العراقيين تحسين شروط الاتفاقية والغاء بعض البنود المجحفة.
لكن احدى المثقفات قالت ان البعض رفض الاتفاقية مسبقا حتى دون ان يقرأها او أنه قرأها ولم يتأمل في نصوصها ليعرف ما هو في مصلحة العراق وما هو ضده. مشيرة الى ان الكثير من مواقف الرفض تبدو في الظاهر وطنية، ولكن جوهرها يصب في خدمة المصالح الايرانية، او ذات امتداد بعثي له علاقة بالنظام السابق.
ودللت على ذلك بقولها ان بعض من كانوا ينادون بجدولة الانسحاب وتحديد تاريخ محدد لخروج قوات الاحتلال، وهذا ما نصت عليه الاتفاقية بعد ثلاث سنوات، يرفضها الان ويحرمها ويكفرمن يؤيدها، وكل ذلك بدافع ايجاد موقع لها في السلطة، واعادة الاعتبار لها ومشاركتها بمحاصصة اقتسام السلطة.
وتداول الحضور بعضا من الاحداث والحوادث المتعلقة ببعض من اعلنوا معارضتهم للاتفاقية، فذكروا ما قاموا به من حوارات مع الجهات الامريكية سواء من خلال السفيركروكر في بغداد، او من خلال زياراتهم السرية والعلنية الى واشنطن، او من خلال الوسطاء، سعيا وراء شمولهم بحصة من الكعكة العراقية، ولذلك فان الامريكان لا يقيموا وزنا كبيرا لتلك المعارضات، ولا يضيرهم تلك الاصوات العالية التي توجه الشتائم لامريكا وللرئيس الامريكي، فكلهم من اتباع العم سام، سواء من هم جزءا من النظام، او خارجه، وان الذي يحدد مواقفهم مع او ضد الاتفاقية هو مصالحهم ومصالح احزابهم وطوائفهم.
ان الموقف السياسي السليم هو الذي يقدر المصلحة الوطنية على اساس فن الممكن، وليس على اساس المستحيل او الوهم او الاماني العليا، لكن للاسف هناك عدد من القوى السياسية العراقية لا تفهم ما يعنيه التكتيك السياسي ولا تعير اهتماما لميزان القوى، ولا تقدر بدقة نوع المخاطر واوزانها.
لذلك فان الموقف العقلاني يجب ان يؤيد الاتفاقية الأمنية حتى وان كانت مجحفة، لان بقاء قوات الاحتلال الامريكي ثلاث سنوات افضل مليون مرة من بديلها وهو الاحتلال الايراني لمدة ثلاثين سنة .
وتوقع المثقفون والمثقفات موافقة البرلمان على الاتفاقية، لانه على حد قولهم ان الاكراد يؤيدون الاتفاقية بقوة ، كما ان القائمة العراقية “السنية” تفهم ان رفضها يصب في مصلحة ايران، وان من يحرمها انما يدعم الموقف الايراني، بالاضافة الى نقطة هامة جدا وهي ان المرجع السيستاني هوالأكثر قبولا والاوسع تقليدا في العراق أحال الأمر إلى مجلس النواب، كما قال رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي دافع عن الاتفاقية قائلاً إنها تحافظ على السيادة العراقية.، مؤكدا انها لا تحتوي على بنود سرية وإنه لن تكون هناك قواعد أمريكية دائمة في العراق ولا هجمات عبر الحدود على الدول المجاورة. كما ان مجلس الوزراء وافق عليها.
واجمع الحضور على انه مهما كانت مسميات “الإتفاقية الأمنية”او” اتفاقية سحب القوات ” او إتفاقية “إنتدابية” أو” إحتلال مقنن” فانها ستؤدى في النهاية إلى إنهاء الإحتلال , وخروج العراق من البند السابع. اما باقي الامور المتعلقة باعادة بناء الدولة والنهوض بالوطن اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا فهو من مسؤولية الشعب العراقي وقواه الوطنية المستقلة عن الارتباط بأي اجندات خارجية.
ابراهيم علاء الدين