جهاد نصره
أصبح التقدم في مسار العصر الراهن مرتبطاً بمفاهيم العلم والعمل والثقافة والتقنية أكثر منه بمفاهيم الثورة و التمرد و الانقلاب..!؟ وتساوقاً مع هذا المقياس، تقدمت أشكال العمل المجتمعي المدني بكل أشكاله على حساب صيغ العمل السابقة من أحزاب ومنظمات وعصابات منظّمة..!؟
لقد بدأ اندماج هذه المفاهيم منذ ما بعد عصر النهضة في أوروبا وصولاً إلى اندماجها الكلي أواخر القرن الماضي وقد تمَّ ذلك في إطار السعي والبحث عن فرص توفير متطلبات الحياة التي تزداد كماً ونوعاً مع تزايد عدد السكان في فضاءات جغرافية لم تعد قابلة للتوسع..! وهكذا فقد توقفت تلك المناظرات التي كانت تدور حول العلم ومقاصده والعمل أشكاله ومضامينه حلاله وحرامه وأشكال التغيير المتوجب وماهيته
لقد تبين انعدام أي جدوى من تلك المماحكات النظرية بعد معايشة التغييرات الكبيرة والحيوية التي أحدثها التقدم العلمي المطرد وبخاصة تكنولوجيا المعلومات في طرائق ووسائل حياة الناس الأمر الذي أوضح بلا أي لبس تلك العلاقة الجدلية الحية بين هذه المفاهيم.
وبهذا الربط المحكم، تحول مفهوم العلم ومآلاته من النظري إلى العياني و الملموس فكل خطوة علمية في عصرنا الراهن باتت تعني إنجازا واكتشافاً وفي الوقت نفسه مزيداً من الوسائل، أو الابتكارات، أو التقنيات بما يعني ذلك من تلبية واسعة لحاجات الإنسان وخلق المزيد منها في الوقت نفسه ، وقد ترتب على هذا التحول الذي طرأ على العلاقة بين مفاهيم العلم والعمل والتغيير والتقدم، استحالة في نجاح عملية التنمية المجتمعية من غير النجاح في استحواذ المؤهلات العلمية ومواكبة ما يستجد علمياً وكان من منعكسات ذلك ضرورة ربط مناهج التعليم بكل مستوياته بالخطط التنموية الاقتصادية و الاجتماعية إذا ما كان هناك إرادة واعية و تطلعٌ جديٌ لتوفير شروط الحد الأدنى التي تتطلبها سعادة الإنسان الدنيوية في مجتمع حر متقدم…!؟
إنه لمن المؤسف والمدهش في آن استمرار نسق التفكير القديم في المجتمعات العربية في زمن الحداثة يتضح ذلك من المحاولات العربية الدائمة لتكيِّيف العلم أو تحييده في أحسن الأحوال وما طرحه أستاذ الحفريات المصري ـ زغلول النجار ـ مؤخراً حول ضرورة تحليل الحجر الأسود الراكن في الكعبة لإثبات وجود الجنة مؤشر دقيق على هذه الحقيقة…!؟ إن العربي المسلم لا يزال ينشد ضمان سعادته في الدنيا الآخرة أكثر ما ينشدها إبان حياته في الدنيا الراهنة ولأنه كذلك أي نصف حي نصف ميت فقد ظلَّ مفهوم العلم عنده ينحصر في ما يدركه عن الله وعن رسله وأنبيائه الصالحين ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الإدراك ضرورة العمل وفق اللوائح الدينية لضمان الاستحواذ على التعويض المناسب في الآخرة وقد تطلب ذلك منه ضغط مفهوم العمل في حدود القيام بالواجبات المترتبة على هذا الإدراك من صلاة وحج وصوم وغير ذلك من مناسك وعبادات وهذه الحقيقة تكمن وراء ظاهرة الإنتاجية المزدهرة على الدوام في حقل الفتاوى والمواعظ وباقي الأنشطة الدينية التي تطلبت على مرِّ الزمن جيشاً من الفقهاء و المشايخ والدعاة من كل صنف…!؟
إنه لمما لا شك فيه أن العلم والعمل على هذا النحو المعرفي الإيماني لا علاقة له بتقدم أي مجتمع ولا بسوِّيته الحضارية فالمقاييس المعاصرة تقوم على اعتبارات محددة بما يقدمه كل مجتمع في ميادين الأبحاث، والمكتشفات، والاختراعات، ومن المنطقي عدم انتظار ذلك من مجتمعات تسود فيها المفاهيم الماضوية..! إن هذه المجتمعات لا تزال قيد المراوحة في دوائر تاريخية مغلقة فهي لم تنهض بعد لتلتحق بمن سبقها وهي لذلك تكتفي باستهلاك ما ينتجه الآخرون الأمر الذي يبقيها في خانة الدول المتخلفة التي تعيش عالة على الذين يغذون السير في مسيرة التقدم بالرغم من أنها عانت ولا تزال من صدمة الحضارة الأمر الذي كان يفترض أن تدفعها إلى محاولة الخروج من السبات المستدام غير أن ما حصل على أرض الواقع حتى أواخر القرن الماضي لم يزد عن التوسع الكمي في عدد المدارس والجامعات من دون الاهتمام بنوعية البرامج التعليمية التي تتطلبها عملية النمو والتقدم..! لقد نتج عن هذا الخلل تفاقم معدلات البطالة في أوساط الشباب والفتيات من خريجي الجامعات وبالتالي تزايد عمليات الهجرة التي يسميها البع
ض: هجرة العقول والأدمغة..!؟ فإضافة إلى عدم توفر العمل لم تتوفر مراكز بحثية علمية تتيح الفرص للمبدعين من أصحاب العقول فاستقطبتهم الجامعات ومراكز الأبحاث في العديد من الدول الغربية لتبقى المجتمعات العربية الإسلامية حتى اليوم مستهلكة لما ينتجه الآخرون وهكذا فإنه ما لم تتوقف هذه المجتمعات عن التغني بالأمجاد الغابرة والانصراف المبرمج لتعزيز دور الجامعات في مسألة البحث العلمي تساوقاً مع التنمية فإنه لا سبيل لنهضتها وستبقى مهمة هذه الجامعات منحصرة في تخريج أجيال متتالية من حملة الشهادات لا أكثر ولا أقل وعلى هذا النحو وعليه فإنه لا يمكن لهذه المجتمعات الادعاء بأنها مشاركة حقيقية في حضارة العصر الراهن التي قرنت بين العلم والعمل والثقافة والتغيير المستمر فالتنافس في عالم اليوم ليس تنافساً بين ما قدمته المجتمعات الإسلامية من علوم في الماضي السحيق وما يقدمه الآخرون اليوم كما يرى الفقهاء وكامل طبقة
الإيديولوجيين الدينيين المندرجين في أحزاب ومنظمات دينية شتى…!؟ لقد بات الجميع يعيشون تحت خيمة حضارية تنافسية واحدة تخسر فيها المجتمعات العربية كل يوم المزيد من طاقات المبدعين العاملين في ميادين العلوم المختلفة والتي لا يمكن توطينها ما لم تستكمل كل مقومات النهوض العلمي، وعلى مثل هذا النهوض وحده تتوقف إمكانية الحديث عن نهضة تنموية لأي مجتمع..!؟ إن الأساس الوحيد الذي يتيح
للمجتمعات العربية انطلاقة حضارية فاعلة، يتوقف على مدى توفير مستلزمات بسط سيادة العلم على جميع قطاعات الحياة ولا تشكِّل هذه السيادة قطيعة مع التراث والتاريخ كما يتراءى للبعض والتجربة اليابانية خير دليل على ذلك لكن، في الوقت نفسه، نحن نرى في هذه التجارب الناجحة تلك البصيرة التي كرسَّت مفهوم جديد في التعاطي مع التراث كثقافة والتاريخ كسياق حيث لم يشكِّل الإخلاص لهما حجر عثرة في طريق الانحياز للعلم أما استمرار هيمنة ثقافة العقل النقلي في المجتمعات العربية الإسلامية وإعادة إنتاج ثقافة الماضي بكل مكوناتها وقيمها كما هو حاصل فهذا يعني تراكم المزيد من الصعوبات والمعيقات والاستحالات…!؟ و من المفارقات الأكثر خطورة التي تعمّ مجتمعات العرب الإسلامية التي تستهلك كل أدوات ومفرزات الحداثة من دون تردد، تبرز مسألة تجريد مخرجات الحداثة وعزلها عن القيم الثقافية والمعرفية المرافقة بهدف إبقاء الأجيال المتتالية رهن ما أنتجته عصور التخلف والاستبداد من ثقافات وقيم الأمر الذي يعني تكريس مناعتها، وتعزيز حصانتها، لتظل عصية على التأثر بمعارف وقيم العصر ويكمن خلف ذلك استمرار تقديس الماضي بما هو عقيدة وإيمان وثقافة وقيم وقد ترسخ هذا التقديس عبر الزمن من خلال عمل دءوب يقوم به عدد هائل من الفقهاء والدعاة والمشايخ الموظفين عند الحكام أوحتى أولئك المعارضين لهم الأمر الذي يجعل من التقدم والتغيير في المجتمعات العربية الإسلامية إشكالية معقدة و شبه مستحيلة…!؟ لقد استثمر الحكام العرب على اختلاف مسمياتهم هذا المعطى الديني المتوارث الذي فيه استغفال لعقول العامة واستثمار لانسياقها الإيماني فعملوا على مصادرة المقدس لحسابهم جاعلين منه حشوة مبطنة في أيديولوجيا التسلط والاستبداد القديم منه والحديث الذي صار ينتج أنبياء برتبة قادة وزعماء استثنائيين.!؟
لهذه الأسباب وكثير غيرها، تبدو مسألة التغيير المتناسق مع سمة العصر واستحقاقاته في غاية الصعوبة فالمسألة ليست محض سياسية.! إنها مسألة نسق تاريخي متواتر وثقافة سائدة موروثة فكل تغيير في مستوى محدد يفترض التغيير في باقي المستويات.. والذي يحدث أنه حين تتوفر إمكانية التغيير في مستوى تبرز مناعة وممانعة في مستوى آخر كما حدث في العراق ولبنان.. ولا يزال يحدث…!؟