جهاد نصره
يعبِّر الكثيرون وبخاصة الذين يقيمون خارج المجتمعات الإسلامية عن احتفائهم، و قناعتهم الكلية، بالجهود التي يبذلها بعض المفكرين الإسلاميين لتقديم آراء إسلامية متجددة يحاولون الإيحاء من خلالها بأن هذه الآراء والتفاسير خاصتهم هي أصل الخطاب الإسلامي وصحيحه..!؟ لكن، حقيقة ما آل إليه الأمر تفي بأن هذه الآراء لم تزد عن كونها مثِّلت فهماً خاصاً يختلف فيه أصحابه عن بعض التفسير الموروث الذي تتبناه أغلبية المسلمين وفقهائهم ويدلل على هذا الأمر محدودية انتشارها وقبولها حتى في أوساط الجيل الإسلامي النخبوي الشاب..!؟ وهذا يعني أيضاً أن مسألة إصلاح الخطاب الإسلامي وتجديده إشكالية معقدَّة تشترط مقاربتها توفر جملة من الظروف الموضوعية المتجددة التي يتعثر مخاضها حتى الآن لأن شرطها الأوحد هو: الحرية…!؟ ومما لا شك فيه أن تلك الجهود المبذولة والتي يدفع أصحابها أحياناً أثماناً باهظة من جرائها تكشف عن خطورة المعيقات التي تواجه محاولات إعمال العقل النقدي حتى ولو كان جزئياً كما في حالة المفكر ـ البنا ـ بالرغم من أن مثل هذه المقاربات الجزئية لا تصل إلى ما يصبو إليه أصحابها مع أنهم يشيدون منظومتهم الفقهية على نفس الأساسات الدينية الإيمانية وليس بالتناقض معها …!؟
إن قضية تجديد الخطاب الإسلامي وتقديمه بصورة متناغمة مع العصر شهدت محاولات جدية متعددة وقد يكون المفكر ـ نصر حامد أبو زيد ـ من أكثر المشتغلين عليها لكن ظلَّت تلك المحاولات متهافتة ( بالمعنى النقدي ) حتى الآن و ذلك يعود إلى أن النص المقدس وبخاصة القرآن مكتملٌ في ذاته ولذاته وترجمة ذلك أنه من غير المقبول في كل الأحوال المساس به تحت أية ذريعة بما فيها ذريعة الزمان والمكان وهذا ما لا يريده المجددون الإصلاحيون الذين نعنيهم على كل حال..! وهكذا فإن من سار على هذا الدرب سرعان ما اصطدم بكمائن المقدس المنصوبة على الطريق كما يحصل دائماً مع المفكر الإسلامي الإصلاحي ـ جمال البنا ـ الذي تميّز بجرأة تقديم بعض التفاسير والآراء المغايرة للسائد الموروث في محاولة يائسة منه لإثبات أن الإسلام هو شيء آخر مختلف عن السائد وهو يتماشى مع العصر واستحقاقاته.!؟ يقول ـ البنا ـ في إحدى مقالاته التي تناول فيها قضية الحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية التي تتعارض مع شرعة حقوق الإنسان وكافة المواثيق الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان: ( في الشريعة الإسلامية آثام تعد ( من كبائر الإثم والفواحش كالزنا، والخمر…الخ، وسنَّ لها الإسلام حدوداً ولكن هذين الإثمين مغلقين أي لا يمارسان علناً وبالتالي لا يمكن إقامة الشهادة على وقوعهما )..! و ينقل بضعة أحاديث وحكايات ليدلل على حالات التساهل التي جرت أيام الخلفاء الراشدين في التعامل مع مرتكبي هذين الإثمين.! ويبالغ في الادعاء حيث يقول: ( إن الإسلام يكره العقوبة، وأن هذا الكره وصل بالقاضي لأن يلقن المتهم الإنكار فيقول مثلاً « أسرقت.. قيل لا»؟، فيقول لا، فيتركه (فقه السنة للشيخ سيد سابق).. ويقول: لم يكن الرسول سعيداً بتوقيع عقوبة قطع يد سارق وعندما شاهد توقيع هذا الحد قيل إن وجهه تغير كأنما ذر عليه الرماد (مسند الإمام أحمد). وحاول ـ البنا ـ البناء على هذه الأحاديث لتعزيز مشرو
عية ما يقوله عن عدم تعارض الإسلام مع المواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان..! لكن، كيف يمكن أن يفلح ـ البنا ـ في مسعاه وهو يعتمد ذات المصادر الفقهية التي يعتمدها المعارضون وهم الأغلبية والتي يجدون فيها أيضاً ما يناقض آراءه جملةً وتفصيلاً.!؟ أي في الوقت الذي يرمي فيه ـ البنا ـ حجره سيكون هناك عشرة آلاف وتسعمائة وخمسة من خطباء الجمعة يشرحون صدور مريديهم بالأحاديث التي تؤكد عكس ما أورده وهم سيردون عليه وعلى غيره بعشرات الأحاديث المضادة المتناثرة في أمهات المراجع الفقهية ومنها على سبيل المثالي: قال ـ محمد ـ ص: ( اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ومن لم يجتنبها فقد عصى الله ورسوله ) رواه الطبراني وهو حديث صحيح ومدعوم بالآية القرآنية: (( ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) وعن مدمني الخمر (( إذ يشرب عبد من عبيدي جرعة من الخمر إلا سقيته مثلها من حميم جهنم ) و (( لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا )) و لا تجالسوا شراب الخمر ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم وإن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوداً وجهه مدلعاً لسانه على صدره )) بالرغم من وجود الخمر في الجنة بدلالة الحديث: (( من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة )) ورد في الصحيحين. فكيف يمكن أن يجري إصلاح ذات البين بين المصلحين وأولئك المتمسكين بكل ماء جاء في النصوص المقدسة حول مسألة بسيطة وغير مهمة كهذه.!؟ ويحاول البنا دعم رأيه برواية الحادثة: عن ـ عقبة بن عامر ـ أنه كان له جيران يعاقرون الخمر، فجاءه غلامه فأخبره بأنه سيدعو الشرطة فقال عقبة: لا تفعل عظهم وهددهم قال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داعٍ لهم الشرطة ليأخذوهم فقال عقبة: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله يقول:( من ستر عورة فكأنما استحيا موءودة في قبرها ) ولكن سيرد عليه جحافل الفقهاء برواية أحاديث صحيحة مثل: عن عبد الله بن عمرو أن ـ محمد ـ ص قال: ( إن الخمر أكبر الكبائر ) رواه الطبراني والحاكم.. و روى مسلم عن جابر أن الرسول قال: ( سيسقي الله شارب الخمر ( عرقاً ) من نوع خاص اسمه طينة الخبال ولما سئل عن هذا المشروب قال: إنه ( عرق ) خاص بأهل النار..! وهذا يعني أن الشارب مهدد بأشد العقوبات بغض النظر عن انكشاف أمره..! روى الإمام أحمد في مسنده أن الرسول قال: ( مدمن الخمر كعابد وثن ) و عن ابن عمر: ( ثلاثة قد حرَّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث ) وهكذا فإن مقاربة موضوع التساهل والسماحة عند ـ البنا ـ من خلال رواية حادثة منعزلة تظل مقاربة شكلية يناقضها النص المقدس نفسه قرآناً وفقهاً…!؟ ثم إن العقوبة لم تقتصر على الشارب الذي يهون أمره إذا شرب متخفياً فقد روى أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح من حديث ابن عباس وابن حيان في صحيحه والحاكم أن الرسول قال: ( لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل
ثمنها )…!؟
الحد الثاني الذي تكلم عنه المفكر الإسلامي الإصلاحي ـ جمال البنا ـ هو حد الزنا.! وكان قد اعتبر أن هذين الإثمين ـ الخمر والزنا ـ لهما صفة تميزهما عن الآثام الأخرى تلك الصفة هي أن الخطيئة ( مغلقة ) بمعنى أنهما لا يمارسان علناً بل في أماكن مغلقة ولهذا فإنه يرى بأنهما جريمتان ميتتان ولا يمكن إثبات ارتكابهما وبالتالي فإن الحد المنصوص عليه شرعاً لا يصح في كل الأوقات والحالات وهكذا فإن الحد وكأنه لم يكن ولا يجب التوقف عنده.!؟ لكن، لو كان ما يقوله ( البنا ) صائباً فلماذا إذن كل تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حول هاذين الإثمين المغلقين اللذين لا يمكن إثبات وقوعهما لأنهما ( مغلقين ) ويتمان بعيداً عن العيون كما يقول.! وإذا كان ورود كل تلك النواهي والعقوبات من أجل الترهيب فقط فإنه كان يكفي ورود أية واحدةً أو حديث نبوي واحد..!قال الله تعالى: (( ولا تقربوا الزِّنا إنَّه كان فاحشةً وساء سبيلاً )) وقال تعالى: (( الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين )) هذا إذا كانا عازبين فإن كانا متزوجين فإنهما يرجمان بالحجارة إلى أن يموتا.! وقال تعالى: (( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر و لا يقتلون النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ولا يزنون… ))ومن الأحاديث النبوية:قال رسول الله: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) وقال: ( ما من ذنب بعد الشرك بالله أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في فرج لا يحل له ). إن مجرَّد النظر إلى المرأة بإعجاب يعتبر زنا قال الرسول: ( زنا العين النظر…. ) دخل ـ ابن أم مكتوم ـ وهو أعمى يوماً إلى مجلس الرسول وعنده عائشة وحفصة فقال محمد: احتجبا منه فقالتا: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال محمد: أفعميا وان أنتما ألستما تبصرانه.؟ ).وقال الرسول: ( من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه ) رواه الحاكم. .إن المقاربة النقدية الجزئية التي نراها عند ـ البنا ـ كما عند عدد من المفكرين المشابهين الآخرين لن تؤدي في أغلب الظن إلى إصلاح الخطاب الإسلامي لأنها نتاج ـ عقل نصف نقلي نصف نقدي ـ لكنها تظلّ مساهمة مجهدة في إعادة إنتاج ثقافة فقهية يميزها منظور اختزالي انتقائي كالبحث والتنقيب في أكوام من الأحاديث للخروج بحديث أو اثنين يدعمان الهدف المنشود كما فعل ـ البنا ـ في حالتنا الموصوفة أعلاه لإظهار مدى صعوبة إثبات واقعة الزنا ومعاقرة الخمر وبالتالي تحييد إشكالية العقوبات والحدود التي أقرها الدين الإسلامي وتحرمها اليوم المواثيق الدولية…!؟ يبقى أن نشير إلى أننا وصفنا مقاربة هؤلاء المفكرين المحترمين بالنقدية الجزئية بهدف تمييزها عن المقاربات النقدية الكاملة التي تصدى لها بعض المفكرين من أمثال ـ خليل عبد الكريم ـ وسيد القمني ـ ونبيل فياض ـ وغيرهم…!؟