د. محمد احمد النابلسي
رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية
عندما تبلغ أمة ما هذا المستوى من القوة فإنه من غير المستبعد أن تفقد حكمتها وعدالتها وإتزانها لتصبح خطراً على البشرية فتفقد قوتها. لكنها قد تستعيدها لو هي عادت الى هذه الفضائل.
الرئيس الأميركي جون آدامز 1878
لم يستعر أوباما ههذ الكلمات للرئيس جون آدامز بل استعار كلمات الرئيس السابق ابراهام لينكولن 1861 الذي بعث الامل، ابان فترة حرب الانقسام، بقوله ان “كل شيء على ما يرام”، اعلن اوباما “اني على ثقة ان كل شيء سيكون على ما يرام فعلا بمساعدتكم وبمساعدة وتضحية الاميركيين الذين يطالبون بالتغيير ويستعدون لوضعه موضع التطبيق. فهل يريد أوباما العودة للفضائل أم مجرد إسترداد القوة؟.
الفضائل الأميركية مفقودة منذ أن تورطت أميركا في حروب الدماء عبر قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. ومن يومها لم تعد الفضائل مدرجة في القاموس السياسي الأميركي. وكل ما فعله بوش هو تحويل التهديد بحماقة استخدام القوة الى حماقة إستخدامها الفعلي لغاية التورط الاميركي الحالي في حروب غير ممكنة الربح. بما إستدعى انتخاب أسود خليفة له كبادرة انفتاح أميركي لتسهيل إنقاذ اميركا من حماقات بوش.
إن فهم السياسة الاميركية يقتضي أولاً إدراك كونها سياسة مصالح طويلة الأمد. وعليه فإن طريقها طويل وأثناءه تبدل أصدقاءها ومصطلحاتها وتكتيكاتها. وهنا نتساءل اين ذهبت مصطلحات الدول النامية ومن باتت الدول المارقة الجديدة؟. وما هو مصير مصطلحات “النظام العالمي الجديد” و”العولمة” و”الشرق الأوسط الكبير” ومن بعده “العظيم” ومن ثم “الجديد”… الخ.
هذه الأمثلة كي ندرك ان قيمة المصطلحات والشعارات الاميركية هي قيمة مؤقتة يرمى بعدها المصطلح في سلة المهملات. والمبدأ ينطبق على الكثير من الشعارات التي رفعها بوش في منطقتنا من محاربة الارهاب الى نشر الديمقراطية وعواصفها الإنتخابية.
الآن نستطيع أن نفهم أن هياج بوش في منطقتنا اتخذ مسميات عديدة لكنه لم يكن سوى نسخة جديدة عن مشروع “حلف بغداد” الذي أطلقه الاميركيون اواخر الخمسينيات للسيطرة على المنطقة. وفي لبنان كانت بداية التحضيرات لحلف بغداد بانتخاب برلمان 1957 الذي يشبه الى حد التطابق برلمان 2005 وان كان الأخير لم يؤدي الى تمرد بسبب وجود الجيش الاميركي في المنطقة.
لقد راجع صقور أميركا نقاط الضعف وأسباب فشل “حلف بغداد” وعملوا على تخطيها. لذلك اطلقوا على عملية كلينتون المحدودة بالاغارة على بغداد العام 1998 تسمية “عملية ثعلب الصحراء” في إشارة الى عميلهم في حلف يغداد نوري السعيد الملقب ب “الثعلب” وكأن في العملية إحياء لذكرى بطل مشروعهم الثعلب نوري السعيد. واذا رفض كلينتون الانخراط في مشروع الصقور فان بوش الابن جاء بشرط التزامه بحلف بغداد الجديد. وهو ما أكدته جولة كولن باول أواخر شباط فبراير 2001 على الاصدقاء العرب. وفيها رفض باول الحديث عن الإنتفاضة مؤكداً ان العراق هو سبب جولته ومحورها. وهو ما فعلته رايس في اول مؤتمر لها كمسؤولة للأمن القومي اذ قالت بتأجيل الموضوع الفلسطيني لغاية نضج فيديرالية اردنية اسرائيلية فلسطينية تضم اليها الدول التي ستصبح مهيأة للدخول فيها.
موضوع حلف بغداد الجدديد كان واضحاً اذاً منذ الشهر الاول من ولاية بوش 2001 وانما جرت تعميته بجملة مصطلحات وإدعاءات. وساهمت حوادث كبرى ،يعتقد ان لإدارة بوش صلة بها أقله لجهة تصنعها الجهل، من حوادث سبتمبر لغاية فتح الملف النووي الإيراني مروراً باغتيال الحريري وأحداث أخرى. الا ان كل ذلك يجب ألا يفقدنا التوجه لجهة تركيز المشروع الاميركي على تحقيق نسخة جديدة من حلف بغداد. حيث استبدل نوري السعيد ونورياته بحامد كرزاي وكرزاياته. ودعم المشروع بالخطوات العملية التالية:
تأمين وجود عسكري ضاغط في المنطقة عبر التواجد في العراق وافغانستان بعد الحاقها الى جانب باكستان بالحلف. بدل الاكتفاء بالحكومات المحلية وبانزال المارينز المحدود على شواطيء بيروت.
تعميم تجربة الإنتخابات المبرمجة أميركياً تمهيداً للحلف بعد تجديدها في لبنان ومدها الى العراق وفلسطين وافغانستان وباكستان.
إطلاق حكومات عاجزة على نمط حكومة كرزاي. وهي تموت بمجرد انقطاع الاوكسيجين الاميركي عنها.
تكريس تجمع الأصدقاء تحت عنوان “دول الاعتدال العربي”.
تقديم عدو بديل للعدو الاسرائيلي بنسخ مختلفة. بحيث تسقط اسرائيل من اولويات العداء العربي عن طريق استبدال عدائها بعداء ايران.
تمويل المشروع من قبل الدول الصديقة واكماله بتشريع الفساد عوضاً عن التمويل الاميركي المباشر. حيث لم نرى في أسواقنا أكياس طحين الصداقة الاميركية التي رأيناها في 1958.
إستغلال السيطرة ال
اميركية على المنظمات الأممية وإستصدار القرارات الدولية اللازمة للمشروع.
اميركية على المنظمات الأممية وإستصدار القرارات الدولية اللازمة للمشروع.
إعتماد مبدأ الصدمة والترويع لإستغلال صورة العربي الجبان الإسرائيلية الصنع.
تبني مبدأ الترهيب والترغيب على صعيد الدول والجماعات والأفراد بدءاً من الضربات الجوية الوحشية في حرب العراق. مروراً بصنوف الإذلال الممارسة في السجون العراقية الاميركية. ومنها أبو غريب.
تحضير تهم جاهزة للدول والجماعات الممانعة لحلف بغداد الجديد. بدءاً من تهمة الارهاب وصولاً لتهمة المشاركة في اغتيال الحريري.
تعميق مباديء الحصار الاقتصادي على الدول لغاية الحجز على أموال الأفراد وأسرهم.
إبقاء مجتمعات دول المنطقة في حالة جهوزية التفجير والاستعداد للصدامات الأهلية تحت عناوين الطائفية (اسلام مسيحية) والمذهبية (السنة الشيعة) والسياسية (موالاة معارضة) والعرقية (أقليات متنوعة) والتعصبية (متشددين دينيين ومعتدلين). وذلك بحيث يطال التهديد كل دول المنطقة المرشحة للدخول في حلف بغداد دون إستثناء.
الإنقلاب على الثوابت الاستراتيجية الاميركية المانعة لمثل هذا التورط وتجاهلها. ومنها منع خوض حروب مفتوحة وحروب على نمط العصابات ومنع شن حربين متزامنتين وعدم دفع أثمان استراتيجية وعدم استعمال اسلحة استراتيجية. وأيضاً الإمتناع عن العمليات المخابراتية القذرة. وغيرها من الثوابت والقوانين التي تخطتها ادارة بوش. والتي ستتكشف قريباً عن فضائح مخزية.
ورغم كل هذه التجاوزات والتصحيحات المدخلة على مشروع حلف بغداد الاساسي فقد سقطت النسخة الجديدة للحلف رغم كل هذه التعديلات. وها هي المنطقة تعيش ظروفاً مشابهة لظروف سقوط حلف بغداد بإندحار أميركي يشكل خطورة قصوى على الأصدقاء المحليين المتعاونين لإتمام المشروع. مع ملاحظة ان النسخة الجديدة للحلف ضاعفت أعداد المتورطين بدعمه بصورة خيالية.
الان وبعيداً عن اللهجات الاحتفالية بسقوط حلف بغداد الجديد أو المشروع الاميركي في المنطقة فان علينا متابعة الإستقراء التاريخي وتجنب التوقف عند محطة من محطاته. وهذا الإستقراء يقودنا للتبصر في التالي:
ان الوجود العسكري في العراق حول إسرائيل الى زائدة استراتيجية اميركية محدودة الفائدة. فإاذا ما تم الانسحاب الاميركي من العراق فن اسرائيل ستستعيد دورها الوظيفي وأهميتها الاستراتيجة للولايات المتحدة الاميركية. وهذا التحول برسم الذين صدقوا ان باستطاعة اسرائيل لعب دوب الجار المسالم. كم انه برسم من يقدم العداء لإيران على العداء لإسرائيل. وهو أيضاً برسم ايران كي تبدي مرونة كافية لاغتنام فرصة التغيير القادم من اجل اخراج نفسها من صورة العدو.
علينا عدم تجاهل الانتقام الاميركي من فشل حلف بغداد الاول حيث استعاضت عنه بالتحرك المخابراتي الذي تجلى بالإنفصال بين مصر وسوريا وبسلسلة الانقلابات في المنطقة وبتعميق الجفاء بين الأخوة العرب الأعداء. وهو جفاء لم نتخلص من آثاره بعد.
مهما بلغ حجم الازمة الاقتصادية الاميركية والعالمية فان قدرة الأذى الاميركية متعدد السبل والملامح تبقى حاضرة وعلينا إحتسابها.
كان سلوك ادارة بوش للمنطقة ولمشروعها كافية لإحداث إهتزازات خطيرة في مفهوم المواطنة في دول المنطقة. وكان ذلك تمهيداً لتغيير الخارطة العربية وفق الوثائق الاميركية. أما اليوم فان على دول المنطقة الاهتمام بتصحيح هذه المفاهيم. بما يدعوها لفتح صفحة جديدة بعد محو حزازات المشروع الاميركي من ذاكرتها.
إدراك ضرورات التحصين والعلاج الوقائي لدول المنطقة التي خرج بعضها مفلساً بسبب الإبتزاز الاميركي المستمر. وخرج بعضها الآخر منهكاً بسبب الحصار الاميركي عليه.
ضرورة إطفاء الحروب الأهلية المشتعلة والإحتياط لحروب أخرى جاهزة للإشتعال. وهي فرص سانحة لتصدير أوباما لفوضاه الداخلية الى الخارج.
نحن مدعوون اذاً للتعمق في إستقراء تجاربنا لنصل الى شاطيء النجاة. اذ تقول نظرية الإستقراء بان فشل المشروع الاميركي وقبله كافة المشاريع الاجنبية في المنطقة انما يعود الى عدم مراعاة هذه المشاريع لمصالح الأفرقاء المحليين وبخاصة الاصدقاء. وهكذا ودون التطاول على هامات مقاتلي المشروع الاميركي فاننا لانستطيع الغاء دور الدول الصديقة لأميركا في إفشال مشروعها. وهو أمر يحتاج للتأمل شرط انتباهنا لقول بيريز عن العرب “انهم لا يفوتون فرصة تفويت الفرصة” فهل نفوت الفرصة مرة أخرى؟!.