د. فايز أبو شمالة
كل متابع بدقة وموضوعية لأحوال قطاع غزة، لم يفاجأ بقرار الحكومة الإسرائيلية؛ عدم اتخاذ خطوات عسكرية دراماتيكية ضد غزة، وإنهاء التهدئة مع المقاومة الفلسطينية، وكل منغمس عن قرب في واقع غزة كان يمكنه توقع مثل هذا القرار الذي جاء من أعلى قيادة سياسية، وأمنية للدولة العبرية، عقدت اجتماعا استثنائياً دون مراعاة حرمة السبت اليهودي، لدراسة الرد على تساقط القذائف وسط مدينة إسرائيلية هامة مثل “عسقلان” وأوقعت فيها إصابات، وألزمت سكانها بالنزول إلى الملاجئ.
لقد تداخلت السياسة مع الأمن في قرار عدم الرد الإسرائيلي على صواريخ غزة التي أهانت عملياً قدرة الردع العسكرية لدولة قامت على القوة، فمن الناحية السياسية تجد إسرائيل نفسها في وضع مريح جداً وهي تعمق الفصل بين غزة والضفة الغربية، وتوسع الهوة بين مصلحة الشعب الفلسطيني الذي تمزقت بين قيادتين متناحرتين، تتباعد بينهما المسافة التنظيمية، والفكرية، والسياسية، والنفسية، بالإضافة إلى الواقع الجغرافي القائم، هذا القطع السياسي يخدم الدولة العبرية، ويريح مشروعها الهادف إلى عزل غزة نهائياً، وإلقائها في بحر الحصار، والاستفراد بالضفة الغربية استيطاناً للأرض، وتهجيراً للإنسان، وفرض الشروط اليهودية على المكان الأكثر حساسية، وأهمية لمستقبل الدولة العبرية، وبالتالي فأي عمل عسكري دراماتيكي على غزة ستكون له انعكاساته الميدانية في الضفة الغربية، وسيرتد بوحدة حال فلسطينية تجتمع على المقاومة، بوصلة الشعب الفلسطيني التي ينتصر لمن يفرش بدمه الساحات، وهذا ما ثبت بالتجربة العملية، ومن يلق نظرة على التاريخ الفلسطيني الحديث يكتشف أن عدة تنظيمات فلسطينية كانت تصول تجول قبل عشرات السنين، وكانت لها الغلبة، قد هجرها أعضاؤها، وتركتها الجماهير بعد أن ألقت البندقية، ولم يبق منها غير الاسم التاريخي، والعلامة التجارية.
أما من الناحية الأمنية، فإن الخيارات الإسرائيلية المحدودة في الرد على صواريخ غزة كانت ماثلة أمام متخذ القرار الإسرائيلي، رغم تصريحات القادة العسكريين الإعلامية المغايرة، ورغم تصريح “حاييم رامون” نائب رئيس الوزراء، بأن التهدئة قد انتهت، إلا أن جميعهم يفهم أن ليس أمامهم غير القصف الجوي لعدد من شباب المقاومة، أو مقرات الأمن الفلسطيني في غزة، أو تصفية عدد من قيادات حماس البارزة، أو والاجتياح المحدود لبعض المناطق، وكل هذا سبق ومارسته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بكل عنف لسنوات، ولم يجد نفعاً، ولم يوقف الصواريخ، ولم يضعف إرادة المقاومة، ولم يهز ثقة الشعب بقيادته المقاومة، ذلك ما تدركه قيادة الدولة العبرية التي لم يبق أمامها غير الاجتياح الكامل، وإعادة احتلال غزة، وهذا عصب حياة القضية الفلسطينية التي ستشرق بوجهها الجديد، حيث لن يتحقق لإسرائيل أي نصر خاطف في غضون في شهر، أو سنة، فزمن الانتصار الخاطف قد ولى، وقد أعدت غزة العدة ليوم اللقاء، وحضرت شبابها لحرب شوارع أطول مدى، وأصعب، وأعنف مما يظن سجانها، ومن يعش ليل غزة المحاصر يدرك أن المواجهة مع إسرائيل فيها حياة، وفيها تحريك للركود الذي يلف المنطقة، وانفراج للعقل الفلسطيني الذي تلهى بموضوع الخلاف، وتم حرفه عن هدفه، وإغراقه في لجة هذا وذاك.
إن التصعيد العسكري بين المقاومة الفلسطينية والدولة العبرية لهو حصن حماس المنيع، فمن يقترب منه يكون قد دخل في عش الدبابير الذي سيدمي أنفه باللسعات، ويهشم هيبته باللكمات، ويكون قد فتح لحماس نافذة سياسية مشرعة على العالم، ولاسيما أن مزاج الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية قد التقى على فشل المفاوضات السياسية، التي وظفتها إسرائيل لصالح أطماعها، والتغطية على عدوانها، فصارت المفاوضات خطراً على القضية الفلسطينية، وشراً يجب التخلص منه.
على ضوء ما سبق فإن الرد الإسرائيلي على صواريخ المقاومة، ومهما بلغت شدتها، لن يتعدى بعض الغارات الجوية، والبحرية التي تعودت عليها غزة، مع مواصلة الحصار المجرم، والعقاب الجماعي الذي أوجع غزة، وتحكم في أنفاسها، وهذا ما يلقي على التنظيمات الفلسطينية المقاومة ثقل تصعيد هجماتها على الدولة العبرية، وعدم الاكتفاء بتهدئة لا تفك الحصار عن غزة، تهدئة أطلقت يد الدولة العبرية لتصفية المقاومة في الضفة الغربية، تهدئة تفسح المجال للتطبيع العربي مع الدولة العبرية دون استحقاق، تهدئة أفسحت المجال للدولة العبرية لإخماد جمر المقاومة باليد الفلسطينية كما هو حاصل اليوم في الضفة الغربية، أو باليد العربية كما يأمل الرئيس محمود عباس ـ غير مقتنع بأي شكل من أشكال
المقاومة ـ حيث كان وراء عقد اجتماع وزراء خارجية الدولة العربية في القاهرة في26 من الشهر الجاري، لمناقشة بند المصالحة الفلسطينية، وتحميل مسئولية، وما سيلحق ذلك من إجراءات.
المقاومة ـ حيث كان وراء عقد اجتماع وزراء خارجية الدولة العربية في القاهرة في26 من الشهر الجاري، لمناقشة بند المصالحة الفلسطينية، وتحميل مسئولية، وما سيلحق ذلك من إجراءات.
رغم ما تحمله المقاومة الفلسطينية من أضرار مادية قد تلحق الجميع، ورغم جسامة التضحيات التي سترافقها، فإنها ستحرج كل أعداء المقاومة، وستقصم ظهر المفاوضات العبثية، وستعيد للقضية الفلسطينية بهاءها، وحضورها المعنوي في الوجدان العربي، وهي الخط الفاصل بين نهج المقاومة، ونهج المفاوضة، وستنفض الغبار عن الملف الفلسطيني المهمل في الأدراج الدولية، وهي الرد على تهويد القدس، والمقاومة هي الرد العملي على عشرات القرارات التي أصدرها “أهود براك” وزير الأمن الإسرائيلي للتوسع الاستيطاني، والبناء في الضفة الغربية الذي احتجت عليه السلطة الفلسطينية بالكلام.
خيول غزة تحمحم للمواجهة، وتمضغ اللجام، قد تترهل عضلاتها، وتتوه في الزحام، إن أبعد اللقاء، وطالت المسافة، أو سيطر الإحجام.