أعفى الملك عبد الله الأمير مشعل بن سعود امير منطقة نجران من منصبه أميرا على منطقة تقطنها الأقلية الاسماعيلية في جنوب غرب السعودية، وقد هيمنت الدولة السعودية على هذه المنطقة عام 1934 على خلفية معاهدة مع اليمن وظلت تعاني من الفقر والتهميش رغم مشاريع التنمية التي طالت مناطق اخرى من المملكة، مما ادى الى نزوح الكثير من أهلها الى المدن الكبرى بحثاً عن العمل والخدمات حيث كون هؤلاء مراكز استيطان على هامش العاصمة الرياض وغيرها.
وبالمقابل استقبلت منطقة نجران موجات هجرة موجهة تهدف الى تغيير ديموغرافية المدينة وتمييع هويتها المحلية. استطاعت الدولة من خلال الاستيلاء على الأراضي أن تميع الوجود الاسماعيلي فيها وتحوله الى أقلية وكلها استراتيجيات معروفة تتمرس بها الدولة المركزية وتطبقها على أطرافها البعيدة، وبعد ذلك تقوم السلطة بتولية أمير عليها يأتيها من خارج حدودها ولا تربطه بها أي علاقة اجتماعية او تاريخية، حيث تظل امارة المناطق الادارية في السعودية غنيمة توزعها الدولة على أفراد اسرتها وتنشرهم في مناطق متعددة اما لتحكم سيطرتها على هذه المناطق او لتوزع المناصب على شريحة كبيرة من الأمراء الكبار والصغار. وكلما كانت المنطقة ذات أهمية دينية أو سياسية أو اقتصادية كلما تولى عليها أمير من الحلقة القريبة جداً من مركز الحكم وينطبق هذا على امارة الرياض والمنطقة الشرقية الغنية بالنفط ومكة المكرمة، أما المناطق النائية والبعيدة ذات الثقل الخفيف فهي من نصيب امراء من الدرجة الثانية أو الثالثة.
وهذا هو حال منطقة نجران التي كان نصيب امارتها من حظ أحد ابناء الملك الراحل سعود بن عبد العزيز والذي أعفي من منصبه بناء على رغبة شخصية حسب الرواية الرسمية السعودية. ومن المعروف ان ابناء الملك سعود لا يتولون مناصب حساسة رفيعة في الدولة ولا امارات مناطق ذات أهمية كبيرة، لذا فمن السهل جداً الاطاحة باحدهم واستبداله بآخر خاصة وان كان هذا يخدم مصلحة الدولة العليا والتي هي اليوم جادة في تلميع صورتها محلياً وعالمياً والباسها لباس الاصلاح والشفافية والاستجابة للمطالب الشعبية.
شهدت منطقة نجران حراكاً سياسياً منذ عام 2000 وتمرداً على السلطة المطلقة التي اتبعها أمير المنطقة وحدثت مواجهات متعددة بين الامارة وأهل نجران تم على خلفيتها احتجاز اكثر من 400 شخص من سكانها. وتناقلت وسائل الاعلام والمنظمات الحقوقية العالمية اخبار التنكيل والتهميش الذي تتعرض له الاقلية الاسماعيلية واستطاعت هذه الأقلية ان توصل صوتها الى العالم الخارجي تماما كما استطاعت الاقلية الشيعية في المنطقة الشرقية منذ أكثر من عقدين أن تتحرك مطالبة بحقوقها. وبعد مصادمات مع السلطة وأجهزة الدولة الأمنية اضطرت الدولة ان تغير اسلوبها عام 1993 وتفتح باب الحوار مع رموز الحركة السياسية الشيعية.
وقد وصل هذا الحراك الآن الى الأقلية الاسماعيلية التي استطاعت ان تفرض قرار اعفاء أمير المنطقة على السلطة السياسية، ويبدو ان السعودية لا تتجاوب مع الحراك السلمي والعمل السياسي المفتوح ولا تغير من سياستها تجاه المجموعات الرافضة للتهميش والظلم الا بعد مصادمات عنيفة وهي بذلك تحدد أطر العمل السياسي والحراك الاجتماعي. فهي اليوم تقر بأن العنف وحده والمواجهة والمصادمة مع أجهزة الدولة هي أساليب مشروعة تؤدي بالنهاية الى تنازل الدولة وتراجعها عن ممارساتها القمعية المعروفة والمؤصلة من قبل الأقليات نفسها والمنظمات المعنية بحقوقها. سلوك النظام السعودي مع قضية الاسماعيليين يعطي صورة واضحة وصريحة ان هذا النظام لا يستجيب لأي مطالب وحقوق سوى عن طريق العنف والمصادمة التي تنهك المواطنين والناشطين وتؤدي الى القتل والتهجير وتعميق الشعور بالغبن والمعاناة. ولعل للأكثرية الساكنة ان تتعلم دروساً من حراك الأقليات في السعودية اذ ان الأكثرية حتى هذه اللحظة لا تزال تتعامل بالاسلوب الحضاري عن طريق البيانات وجمع التوقيعات ومؤخراً الاضراب عن الطعام، تماما كما حصل عندما اعلنت مجموعة من الاصلاحيين والناشطين تحديد موعد للاضراب عن الطعام تضامناً مع مساجين الرأي وخاصة الدكتور متروك الفالح الذي لا يزال محتجزاً دون محاكمة او تهمة صريحة، عسى ان يعلم هؤلاء ان النظام السعودي لا يتجاوب مع العنف الموجه الى الجسد كالاضراب عن الطعام ولا يرضخ الا للحراك الواضح والصريح تماماً كما حصل مع الأقلية الاسماعيلية وقبلها الشيعة. الاضراب عن الطعام هو عنف واضح يوجهه المغبون إلى جسده ولا ينفع الاّ في دول حضارية تعتمد على شرعية واضحة وصريحة، أما الدول القمعية التي توجه العنف إلى المواطنين عن طريق المراقبة والحجر على الحريات والقمع التعسفي فإنها لا تفهم إلا لغة المواجهة والمصادمة التي تعريها امام المجتمع الدولي وتفقدها شرعيتها داخلياً وخارجياً. فمهما صام الناشطون وطال صيامهم لن تستجيب الدولة لمطالبهم وتفرج عن الأعداد المتزايدة في سجونها، وطالما بقيت الأكثرية صامتة مستسل
مة للأمر الواقع لن تطيح الدولة بأمير مسؤول مسؤولية مباشرة عن احتجاز المئات من الناشطين وأصحاب الرأي المختلف، خاصة وان كان هذا الأمير قد تحول إلى دولة داخل دولة على عكس نظيره الصغير المعفى من منصب إمارة نجران. ولن تقوم الدولة بإعفاء طيف آخر من الأمراء المسؤولين عن تبذير أموال وموارد النفط على صفقات عسكرية تكدس الحديد والآلات القمعية وأجهزة المراقبة والتجسس في مجتمع نجحت الدولة في تفكيكه وشرذمته وتهميشه، أو آخر يستغل ثروته للتلاعب بأسواق أسهم بحيث يجرد الكثير من المساهمين من مدخراتهم ورزقهم. تستغل الدولة بعض الحالات النادرة التي تفضح ممارسات أمراء المناطق الهامشية لتكرس دورها كحام للمجتمع ولكنها تقف عاجزة عن تطبيق العدالة والحد من تجاوزات المئات من المسؤولين في مناطق مهمة، وعجزها هذا دليل واضح على اسلوب الانتقائية الذي تستعمله تجاه القضايا المهمة والملحة حيث تتقلص قدرتها في التعامل مع هذه القضايا كلما اقتربت الدولة من رموزها الأقوياء المتسلطين على العباد والموارد. يبقى هؤلاء يتمتعون بحصانة ثابتة فهم وحدهم فوق القانون بل هم تحولوا إلى صانعين للقانون يطبقونه على من يختارون دون محاسبة أو شفافية.
مة للأمر الواقع لن تطيح الدولة بأمير مسؤول مسؤولية مباشرة عن احتجاز المئات من الناشطين وأصحاب الرأي المختلف، خاصة وان كان هذا الأمير قد تحول إلى دولة داخل دولة على عكس نظيره الصغير المعفى من منصب إمارة نجران. ولن تقوم الدولة بإعفاء طيف آخر من الأمراء المسؤولين عن تبذير أموال وموارد النفط على صفقات عسكرية تكدس الحديد والآلات القمعية وأجهزة المراقبة والتجسس في مجتمع نجحت الدولة في تفكيكه وشرذمته وتهميشه، أو آخر يستغل ثروته للتلاعب بأسواق أسهم بحيث يجرد الكثير من المساهمين من مدخراتهم ورزقهم. تستغل الدولة بعض الحالات النادرة التي تفضح ممارسات أمراء المناطق الهامشية لتكرس دورها كحام للمجتمع ولكنها تقف عاجزة عن تطبيق العدالة والحد من تجاوزات المئات من المسؤولين في مناطق مهمة، وعجزها هذا دليل واضح على اسلوب الانتقائية الذي تستعمله تجاه القضايا المهمة والملحة حيث تتقلص قدرتها في التعامل مع هذه القضايا كلما اقتربت الدولة من رموزها الأقوياء المتسلطين على العباد والموارد. يبقى هؤلاء يتمتعون بحصانة ثابتة فهم وحدهم فوق القانون بل هم تحولوا إلى صانعين للقانون يطبقونه على من يختارون دون محاسبة أو شفافية.
أصبحت قضية امارة نجران مثالاً حياً قد تتعلم منه الأكثرية أبجديات العمل السياسي في دولة لا تزال منغمسة في غطرستها تسجن من تشاء وتحاكم من تشاء ولن ينفع الاضراب عن الطعام ولن ينجح في اطلاق سراح المساجين السياسيين وإعادتهم إلى ذويهم بعد غياب طويل. ورغم أن هذا الاضراب له دلالات رمزية الاّ أنه اسلوب تتجاهله الدولة والمجتمع الدولي ولن تستجيب له الاّ إذا كانت تستطيع ان تستغله إعلامياً لتلميع صورة بعض المسؤولين الكبار، ولكن ليس من المعقول أن تتحول قضية المعتقلين إلى قضية مرهونة بإرادة الدولة ومتطلباتها الاعلامية التي تتغير بتغير المناخ العام.
قضية المعتقلين السياسيين هي قضية انسانية بالدرجة الأولى وليست قضية تستغل سياسياً لأهداف خفية وتخضع لمنطق المكارم وأهواء المسؤولين الكبار. ولكن مع الأسف نجد الأكثرية مشرذمة غير قادرة على تجميع شملها والاستمرار في مشروعها الاصلاحي، ولا تزال قدرتها على مواجهة القمع محدودة ومقيدة يفضل بعض رموزها تأجيل المواجهة خوفاً من فقدان وظيفة أو منع من السفر أو الاعتقال التعسفي، وهكذا يصبح هؤلاء عرضة للإقتناص حيث تتفرد الدولة بهم واحداً واحداً وهي تعلم أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأجدى في القضاء على الحراك السياسي بالاضافة إلى اسلوب شراء الضمائر وتغذية النزعة الفردية وتأجيج المنافسة بين مجموعات تظل رهينة الدولة وإرادتها.
قضية استبداد أمراء المناطق ستظل عالقة رغم إقالة أمير منطقة نجران وستفتح الباب على مصراعيه أمام محاولات ضغط أخرى في مناطق أخرى طالما ظلت هذه المناصب حكراً على حلقة واسعة من الأمراء يعيثون فيها فساداً دون محاسبة أو رقيب. وان لم تحل اليوم فإنها ستكون بداية لنهاية التفرد السعودي وهيمنة المركز على مجتمعات محلية ضاقت من هذا التفرد والتسلط الآتي من المركز والذي لا يأبه بهموم المجموعات البشرية المحلية، بل يعتبرها ملكية فردية وجائزة أو هبة تمنحها الدولة لأعضائها والمقربين منها وتعزل عن طريقها المواطن من حق تقرير مصيره في منطقته. وعسى أن تتعلم الأكثرية الساكنة من حراك الأقلية دروساً في فنون انتزاع الحقوق.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية