لماذا يحب العالم أوباما لهذه الدرجة؟ الإجابة باختصار هي لأنه أشعرهم بأنه مثلهم إنسان يعاني منقسم على نفسه مليء بالصراعات الداخلية والجراح النفسية العميقة التي لا تندمل ولكنها جعلته إنسان أفضل، بمعنى أخر شعر العالم منذ فترة بأن جراح وآلام أوباما العميقة والعديدة قد تذكره يوما بمعاناة الآخرين إذا صار رئيسا للولايات المتحدة الأميركية
فقد ولد أوباما لأب مهاجر كيني تركه وهو ابن العامين، وفضل هجره وهجر والدته صغيرة السن لكي يحصل على منحة دراسية في جامعة مرموقة، وكان في متناول حسين أوباما أن يصطحب باراك ووالدته معه إذا رضي بالدراسة في جامعة أصغر، ولكن طموح الأب المهاجر حرم أوباما إلى الأبد من أن ينشأ في حضن والده، وهو أول وأعمق جرح عاني منه أوباما
وهكذا نشأ أوباما في حضن أمه يفتقد الأمان، وسرعان ما تزوجت والدته بزوج إندونيسي اصطحبها – وباراك في السادسة من عمره – إلى إندونيسيا، ليتعرض أوباما من جديد لصدمة الغربة وترك الأهل والأصحاب والمألوف في سن صغيرة، وفي اندونيسيا تعرف أوباما على عالم جديد، حيث درس بمدارس مسلمة مختلطة وأخرى كاثوليكية، وتردد على المساجد ويقال أنه حضر صلاة الجمعة ودروس في الدراسات الإسلامية وتعلم القرآن
ويقال أيضا أن خبرة أوباما في اندونيسيا فتحت مداركه في سن صغيرة على اتساع العالم وتعدده وتنوع أعراقه وشعوبه، وأنها جعلت من أوباما طفلا أميركا حساس واسع المدارك مقارنة بنظرائه من الأطفال الأميركيين الذين تربوا وترعرعوا منغلقين على أنفسهم في مدن أميركا وقراها
ولكن القدر لم يمهل أوباما كثيرا، فسرعان ما انفصلت والدة أوباما عن زوجها الإندونيسي وأرسلت أوباما وهو في العاشرة من عمره إلى أميركا ليعيش في كنف والديها، وبهذا فقد أوباما حنان الأم والأب معا وهو ابن العاشرة
وتشير مصادر عديدة إلى أن جدي أوباما سعيا إلى تعويضه عما فقده من حنان واستقرار إذا أرسلاه لأفضل المدارس المحيلة وقاما على رعايته، ولكن جراح أوباما لم تندمل
فقد ظل أوباما يبحث لنفسه عن جذور وهوية وأصل، فرحيل الأب ترك أوباما معلقا في الهواء بلا هوية فيما عدا بشرته السمراء والتي أشعرته بأن الأميركيين من حوله ينظرون إليه نظرة مختلفة لم يفهمها أوباما حتى صار مراهقا يدرك ما يدور من حوله من صراعات بشرية غير مبررة، ويقول أوباما في مذكراته أن جدته كانت تخشى أحيانا السير في شوارع يملأها الشباب السود، وأنه أحس بخوفها هذا وتألم له وأخفاه في نفسه
أما أصدقاء أوباما السود فقد ضاعوا واحدا بعض الأخر بسبب العنصرية وسخطهم عليها حيث توجه بعضهم إلى العنف والثورة والغضب، أما أوباما فقد توجه للمخدرات والتي وقع ضحيتها لفترة
وزاد من عذابات أوباما خلال سنوات المراهقة إدراكه لجذوره الأفريقية البسيطة، فقد تصور أوباما في طفولته أنه ابن أمير أفريقي ثري كبير ومهاب، ولكن لما شب عود أوباما وتوسعت مداركه طلب من معلمة المكتبة أن تبحث له عن معلومات عن جذوره وعن قريته وقبيلته في كينيا، ويقول في مذكراته أنه عندما اكتشف حقيقة جذوره البسيطة وأنه لا ينحدر من أصول عريقة – كما ظل يحلم – ترك الكتاب مفتوحا في المكتبة وانطلق مسرعا بعدما تحطم أحد أهم أحلامه أو الأساطير التي عاش عليها لسنوات خلال طفولته
وبهذا كان أوباما على مشرفة الانهيار، فهو إنسان بلا هوية وبلا جذور، كما أنه تربي كأبيض وسط أسرة بيضاء ولكن بشرته سمراء ومحاط بمجتمع يدرك معنى العنصرية ويعاني منها، هذا إضافة إلى أبيه المفقود وأحلامه التي تبددت كالسراب
ولكن وسط الأزمة ولد أوباما الجديد، حيث أدرك أوباما الشاب الذكي العنيد أن لجوءه للمخدرات أو العنف أو الضياع لن يشفع له ولن يغني عنه شيئا، لذا قرر في المقابل أن يلزم نفسه بنظام حياتي قاسي وأن يلجأ للنجاح ليواجه به الفشل وأحلامه الضائعة وهويته المفقودة
لذا تحول أوباما المعذب إلى أوباما المبتسم المتفائل الإيجابي الذي نراه حاليا على شاشات التلف
از حاليا، تحول أوباما من مشروع إنسان فاشل أسير التناقضات الداخلية والمخدرات لإنسان حساس يريد مساعدة الآخرين
از حاليا، تحول أوباما من مشروع إنسان فاشل أسير التناقضات الداخلية والمخدرات لإنسان حساس يريد مساعدة الآخرين
ويقول بعض النقاد الذين قرءوا وحللوا مذكرات أوباما “أحلام من أبي” والتي نشرها بعد تخرجه من جامعة هارفارد في منتصف التسعينات، أنها كشفت عن إنسان مرهف الحس حريص على الشعور بما يعانيه الآخرين من مشاعر متناقضة بشكل مفصل دقيق، إنسان مر بتجارب مختلفة في عمر صغير عمقت مشاعره وأرهفت حسه وجعلته كالرادار الحساس القادر على فهم الآخرين وإظهار تعاطفه معهم بشكل سريع
ترك أوباما جزر هاواي حيث سنوات النشأة إلى كاليفورنيا ثم نيويورك حيث أكمل دراسته الجامعة، وبعد تخرجه عمل في بعض الوظائف الجيدة المؤقتة والتي تركها سريعا لأنه كان مشغولا بالبحث عن شيء أهم من الوظيفة
ووجد أوباما ضالته في شيكاغو حيث أعلن عن وظيفة شاغرة لمساعدة المجتمع المحلي الأسود هناك حيث تعيش تكتلات بشرية ضخمة للأفارقة الأميركيين تعاني من مشاكل داخلية – بين السود وبعضهم البعض – وخارجية – بين السود ومجتمعهم الأميركي الأكبر – عديدة
ويقول أصحاب الوظيفة أن أوباما عندما اتصل بهم تخوفوا من اسمه الغريب ومن مؤهلاته العلمية العالية التي تؤهله لوظيفة أرقى وأكثر ربحا، ولكنهم عندما تقابلوا معه وجدوا فيه الشخصية التي يبحثون عنها، وجدوا فيه إنسان يدفعه البحث عن هويته إلى الذوبان في الناس بحثا عن إجابات صعبة للأسئلة التي تدور في ذهنه
وفي شيكاغو ولد أوباما من جديدة حيث أعاد بناء هويته حتى أنه اعتنق المسيحية رغبة منه في التقرب من الكنائس والقيادات الأفريقية المسيحية هناك، كما اختلط بالفقراء وقضاياهم وتعلم عنهم وعن معاناتهم
وبعد أن عثر أوباما عن هويته أدرك بعد ثلاث سنوات قضاها في شيكاغو أنه لن يتمكن من مساعدة الآخرين بشكل حقيقي إلا إذا امتلك قدر كبير من القوة، وساعتها قرر أوباما ترك شيكاغو موطنه الجديد والتحق بأكبر جامعات أميركيا (هارفارد) ليدرس القانون تخصص قادة أميركا ورؤساءها، ولسان حاله يقول أنه عائد لشيكاغو، ولكن كإنسان جديد إنسان يدرك من هو ويدرك معاناة الآخرين وقادر على مساعدتهم
وهنا بدأت صفحة جديدة في حياة أوباما هي صفحة بحثه عن الرئاسة الأميركية، وللحديث بقية