بقلم: محمد العشري*
– 1 –
.. أدامت النظر..
فأذابت كل الثلوج التي تراكمت فيَّ..
جاءت في عطر تشعب في رئتيَّ..
لمست وتراً مصمتـًا..
تشربتُ من سحر عينيها..
صرت للقادمين أغنية تزقزق بالكلمات..
*
انطلق قلبي متعلقـًا بقلبها،كطائرين تعانقا خارج جسدينا، اللذين تركناهما محبوسين بالتقاليد والأعراف في بروازين ثلجيين، اشتعلت نار الحياة في عيوننا فانصهر الإطاران، انطلقنا تجاه بعضنا، تغرقنا دهشتنا، ونحن نكتشف الرجل والأنثى خلف الجماد الذي لفني بين ذراعيه زمنـًا طويلاً.
ولأنها مغرمة بالتفاصيل الدقيقة صرنا نتلمس بكارات الاكتشافات الأولى بعفوية وترقب: النظرة.. البسمة.. اللمسة.. القبلة.. أحاديث الهاتف.. انتظار المواعيد.
نترك جسدينا لخيالنا، نمتزج إلى أقصى نشوة، نستسلم لمخدر الآهات، ننام، صوتها متهاديـًا يملأ أذنيَّ، تخبرني أنني الوحيد القادر على تفجير مشاعرها وتحريرها.
في صباح اليوم التالي نشرت الجريدة القصة وكانت مرهفة الصدق، بعدها رآني الأصدقاء شعلة من التوهج، مجرداً من هدوئي، رأيتها تتحسس نفسها بين الأسطر والمواقف، محاولة أن تنطبق على جسم الكتابة، فتجد بعض الزوائد التي لا تناسبها، فتلقي بالجريدة وتقول بعصبية:
لا.. هذه ليست أنا.
وبعد أن هدأت، دنت من أذني، همست إليَّ وقد حانت نشرة أخبار الثقافية معلنة أسماء المدعوين والشاعرات اللاتي سوف يأتين في غضون أيام من أقطار مختلفة، لمحتني عندما أصخت السمع، توقفت عند كل اسم من أسمائهن، وعيناها مصرتان على أن أتكلم، تساءلتْ في حدة:
من منهن؟
– 2 –
.. بيني وبين عينيها..
مسافة من الخجل ونظارتها..
بمجرد أن طارت إليَّ تلفتت كعصفور عاشق..
فانقلبتُ شجرة..
تخيرت أعلى غصن وحطت..
بنت عشـًا في عينيَّ..
*
“أنا شخص شديد السرية حيال النساء اللاتي مررن بي..”
حاولت مراراً أن أقنعها بذلك بشكل راق، لكنها، ككل النساء، امتطت عنادها، زاغت مني بين وجوه الرجال، وهي تستحلب غضبي من قناعي المستكين، وجدتني للمرة الأولى أحاول أن أحصرها في أضيق نطاق ممكن، تملصت من حصاري، معلنة أنني ككل الرجال شديد الأنانية.
أدرت وجهي حين قذفت نرجسيتي بطلقات لسانها، انكمش توهجي على نعومة مشاعري التي نزفت لمجرد تصرف خشن، عابر، يمر بنا.
حين انزويت عنها أبطأت سفسطتها متعللة بأن الخلل الذي يعطب غددها في هذه الأيام يؤلمها بشدة، لدرجة أنها قبل أن تأتي تشاجرت مع كل من قابلها بدون سبب يذكر.
تركتها والفتور يندس بين كفينا، ونحن نتصافح على أول طريق خلافاتنا، الذي لم يظهر منذ تعارفنا.
في مساء تلك الليلة مر الفجر ولم تتصل بي، دحرجت رأسي فوق الوسادة، ودمع خفيف حاول أن يغلبني، انزعجت بشدة، غضبت على آلهة الوفاق، وأنا أجرب أن أتخلص من قلقي بين صفحات كتاب – الأساطير الإغريقية والرومانية – أسأل نفسي بصوت عالٍ:
هل محادثة صديقة لها في الهاتف قادرة على أن تنسيها موعدنا هكذا؟!
قذفت ما أقرأه بعيداً، انتفضت، مقرراً أن أبتعد عنها لفترة، أخلو فيها إلى نفسي، حتى أبرأ..
فربما نكتشف أننا كنا أحسن حالاً في براويز الثلج..
ربما نتوهج من جديد، بعيداً عن الآخرين..
ملت على الكتاب، سويت صفحاته متذكراً أنني استعرته، نظرت إلى السقف فبدا وجهها باسمـًا، ينظر إليَّ من بعيد.
– 3 –
.. حين استباحت قلوب العصافير..
تمرد قلبي..
أيقن أن هواها إنكسار..
فأصبح يغدو دون التفات..
دون إنتظار..
*
أحصت على مسامعي أسماء الرجال، الذين وقفوا أمام براءتها، وجهها الطفولي، محولين جذبها، كل على طريقته، يحاول أن يختبر رجولته، قدرته على نصب الشباك، وهي تضحك كلما صفعت أحدهم بالتملص والإهمال، وأحيانـًا بالصوت المرتفع إذا ما اقترب أحدهم بسذاجة، بدت متحفزة لكل من يبادر بالدخول إلى الدائرة المحرمة على الجميع.
جلست غير مهتم بما أراه حولي، لم نكن قد تلاقينا من قبل، متحاشيـًا أن تسقط عيني عليها، بعد عدة مرات أرسلت نظراتها وعيناها تبثان تساؤلاً متكرراً كلما رأتني: “لماذا أنت بعيد؟!”.
مع كل تصادف لالتقاء عيوننا تكشف لي عن مفاتيحها التي وجدتها مختلفة عن كل النساء، فأدرك قرن استشعاري تلك الأخرى التي تخبئها بداخلها..
التصقت روحانا للوهلة الأولى، فرحان باكتشافي الذي بدا مميزاً لنا، فتعارفنا عبر مداخل رأسينا ومناقشاتنا المستمرة.
حلقت منتشية كأن العالم كله لها، حين أصبحت في بؤرة اهتمامي، اطمأنت إلى نبتها النابت في صدري، انتشلت نفسها من بين ذراعيَّ، منـزعجة من استكانتها، سالت كالزئبق، رفرفت بجناحيها، طنت عاليـًا ومن خلفها ذكور النحل يتهاوون في شركها الذي نصبته حولي، ولم أنتبه له، معتقداً أنني قد فهمتها جيداً.. عندما رأيتهم حولي فتحت جفوني بشدة، ابتعدت بمقدار ألف ميل، معلنـًا أني لست واحداً في زفة رجالها.
أصرت أن نلتقي فهززت رأسي، وأنا أضمر في نفسي تمسكي بالانفلات من دائرتها الكاذبة حتى لا نصطدم بعنف.
– 4 –
.. كان للفراق وقع البرق عليها..
تقصفت أوراق جموحها..
اصطكت بعواصف الآخرين..
التفت على نفسها..
كحلزون ينخر في الأرض..
جذبتني في ولـهِ تحتمي..
****
انتظرتني حتى مالت الشمس عن ناصية الطريق، زرعتني سرابـًا بوجه الإسفلت ولم أذهب إليها، هاجمتها العتمة بسيل من الوساوس، مرت دوائر الوقت حولها وأضواء النيون تفتح عيونـًا ترصدها، وهي ممعنة في الكآبة، تكثر من لعل.. لعل.. لعل الموعد غداً.
تمشي في الطريق الذي يحمل رائحتنا معـًا، تصطدم بالأشجار المتساقطة من قبضة الليل، تنتزع الوريقات المتدليات من الأفرع القريبة من رأسها، تُسقطها أمام قدميها، تزاحمها أبواق السيارات، تُدخل عنوة في رئتيها رائحة الدخان المشبع بالبرد، تطوي قدميها الرصيف، ملقية عباءة حيرتها على كتفيها، تعود إلى فراشها.. تتذكرني وهي تتدفأ بالليمون وأقراص الأسبرين.
عدت إلى الوراء في ذاكرتي، أربكتني الاهتزازات التي عربدت بين ضلوعي، تذكرت عينيها عندما حدقت فيَّ المرة الأولى، حدثتني حديث السكون، أرسلت طيفها في شجون الليل، نسجت خيوطـًا ترامت إلى استنتاجات المحيطين بنا وهي تنشر وتردد أفكاري .
صارحتني سراً عن انتظارها لضوء بعيد، يأتيها في أوقات صفوها وينفلت بنا عن محيط عالمها، الذي يكبلها بالتزامات تنتزع منها ريشها كلما حاولت أن تطير مخلفة وراءها ما يلجمها.
تلقفت يدي سماعة الهاتف، مستعيراً مشاغباتها، طريقتها في الرد، أبتسم إلى تلقيها الرزين، أرتقي معها سلم الوفاق، أزوغ منها قليلاً محاولاً بث حرارتي حتى أذيب الجمود الذي أحاطت نفسها به.
*
* روائي وكاتب مصري