قراءة: محمد محمد السنباطي
عندما لمحت عنوان “دق الطبول” فوق غلاف رواية جديدة لمحمد البساطي، كان ذلك منذ عامين، وكنت في زيارة لدار الهلال، ومُدَاهَماً بالساعة التي تجري عقاربها تستحثني على العودة إلى محطة مصر لألحق بالقطار. قلت أشتريها في فرصة أخرى، وهذا ما سألوم نفسي عليه وأنا راكب متململ . و كان عليَّ أن أتخيل ما وراء العنوان، وما إذا كان كاتبنا الكبير قد غير مسارح عملياته وأخذنا إلى مجاهل أفريقيا ليطلعنا على أسرار حرب دارت رحاها بين قبيلتين قويتين هناك.
وأمس كنت في الإسكندرية فوجدت الرواية أمامي في شارع النبي دانيال. اشتريتها وأنا أمني النفس برحلة في المجاهيل، ومعارك طاحنة بين قبائل تدق فيها الطبول للتحفيز، ثم تدق مرة أخرى للرقص والغناء.
وإذ عدت إلى مدينتي الصغيرة، وفي هدوء البيت ودفئه، والمطر يضرب النافذة خفيفاً في بدايات الموسم، فتحت الرواية ماراً بالمدخل الملغز:
“هو بعيد، ويزداد ابتعادا كلما كبر. أكتفي بمشاهدته عن بعد. ربما كان اقترابي لا يريحه”.
أخذت أقرأ ولم أجد شيئا مما توقعت.اللهم إلا شيئا واحدا وهو تألق البساطي النجم؛ فالرواية ممتعة، شائقة، شدتني شدا، ورفرفت بي إلى عالم كأنه أسطوري ينتمي إلى ألف ليلة وليلة.
في هذا الجو الساحر يتحاضن الواقع مع الخيال، والسفلي مع العلوي، والمسكوت عنه مع المعلن الذائع، والمجهول الغامض مع المعروف للجميع الفاقع وضوحا. كل هذا بينما لغة الصائغ العبقري تقدم للقارئ الأسانس المركز، بل وكأنه البائع الواعي يغطي بضاعته بغلالات نصف شفافة، جذابة موحية، تجعل عيون المارة تنخطف، وأفئدتهم تهوي إلى حيث الجمال والمتعة.
نحن في الرواية في إمارة عربية ذهب فريقها ليشارك في المونديال، ومن وراء الفريق خلت الإمارة من أصحابها. شدوا الرحال وراء اللاعبين ليرفعوا من معنوياتهم، وما عاد على مسرح الرواية سوى الأغراب، عربا كانوا أم هنودا أم باكستانيين أم من شرق آسيا. ويتساءل السارد، وهو هنا سائق خصوصي، مصري، عندما رأى أن “الأمور كلها الآن في يد المستخدمين، لو أنهم أعلنوا استيلاءهم على الإمارة، وأغلقوا المطار والموانئ، وأذاعوا خطابا ملتهبا يطالب دول العالم بالاعتراف بالنظام الجديد مستندين إلى أن كل ما تم بناؤه في الإمارة كان بجهدهم وعرقهم، وربما حصلوا على اعتراف بعض الدول” !
ولكي يعطي مصداقية لتساؤله هذا فإنه يتبعه بما يشبهه ولو من بعيد، وهو استيلاء ولي عهد على سدة الحكم بمجرد سفر والده الحاكم لإجراء فحوصات بالخارج، وهذا الخلط للخيال بالحقيقة يكسب المصداقية ويقرب من الواقع، ويقول لك ما معناه: والله أنا باتكلم جد مش هزار.
وما حادث تسرب البترول من أحد أنابيب التصدير إلى أوروبا، وقيام الأغراب بما أملاه عليهم ضميرهم رغم غياب أصحاب الإمارة إلا دليلا على أنهم يشعرون بالمسئولية الأخلاقية والارتباط العضوي مع هذه المنشآت التي شيدوها بالعرق والمعاناة.
لكننا نعود إلى القصة التي تعرض إلى ما يمكن أن يسمى بحياة السادة وحياة الخدم. السادة في ثرائهم الفاحش، ونزواتهم لا يملأ رؤوسهم شيء ذو أهمية. هذا أبو عامر الذي يسافر إلى “باريس لراحته ومتعته، لا يجري فيها أي صفقات ولا يتحدث في عمل، له شقة في الشانزليزيه، أسبوعان هناك غير الأيام الطارئة. يستأجر سيارة بسائقها باليوم(…) يرتاد الملاهي الليلية وأماكن الرقص والتعري(…) يتغير حال أبو عامر تماما في باريس. يصبح غندورا(…) له صديقة تأتي لتقيم في الشقة، فتاة في العشرين تلبس الجيب القصيرة وبلوزة بحمالتين تكشف عن كتفها وجانب من صدرها(…) المرة الأخيرة التي رأيتها كانت أمضت ما يقرب من ثلاث سنوات مع أبو عامر.
بدت أكثر شحوبا وصفرة خفيفة زحفت على خديها(…)وحلت أخرى مكانها، تشبهها كثيرا كما كانت قبل الأعوام الثلاثة”.
بدت أكثر شحوبا وصفرة خفيفة زحفت على خديها(…)وحلت أخرى مكانها، تشبهها كثيرا كما كانت قبل الأعوام الثلاثة”.
على النقيض من هذا المشهد نطالع المستخدم الفلبيني، وكان يعمل سائقا لدى أسرة، “وكان أيضا حديث المجيء. أسبوعان كل ما قضاه بالإمارة، يفتح باب السيارة-كما سمعت- محدقا إلى ساقي السيدة وهي ترفعهما إلى الداخل، اكتفوا بإنهاء عقده، وكان يبكي حاملا حقيبته إلى المطار. ويقول لمن رافقه: بعد كل ما أنفقته للمجيء. لو أنهم فقط يخبرونني بالسبب.”
مشهدان آخران متقابلان:
الأول للسيدة خديجة، والتي ما تزال تجتر ذكريات طفولتها عندما كانت تلعب مع ولدين اثنين وتحبهما معاً.”أمها ضبطتهما وواحد من الولدين في الحجرة المغلقة راقدين وكل منهما في حضن الآخر(…) الولد الذي ضربته أمها ابتلع سما يومها أو أقراص دواء. وأسعفوه. “… تقول جليستها المصرية زاهية: “حكت لي أسرارا وأسرارا”. زاهية هذه تحممها مرتين في اليوم. مرة في الصباح والأخرى قبل النوم. تدعك جسدها بالبودرة، وتبخ الفراش بعطر الياسمين مرتين أيضا. السيدة بدينة غاية البدانة. تقوم المصرية لتعدلها على ظهرها في الفراش أو تعيدها على جنبها حسب الطلب. تستدعيها بالجرس في الليل لتدخلها الحمام. الجرس معلق بقائمة السرير يفزعها رنينه. تنتفض قاعدة.”ويكون عليَّ أن أسرع إليها. لا تستطيع أن تمسك نفسها”.
هذه السيدة لم تنجب، وما العمل وكل أحلام هؤلاء الناس أوامر واجبة التنفيذ؟!
هنا تتفتق الحيلة عن مؤامرة!. أرسلتها سيدتها إلى محل (كل النساء) واختارت ست قمصان نوم إيطالي وما يلزمها من ملابس تحتية. “قالت: البسي القميص الوردي وما تحته بلون أسود”
كانت تهيئ المرأة ليراها زوج السيدة في صورة جنسية عندما تدخل عليه مكتبه بالهيئة التي رسمتها لها.
تحكي : “وقفت وهو وقف. مد يده كأنما يزيح شيئا عن شعري، ووجدتها على خدي. حاولت. تملصت. دفعته. رجوته، وهو لا يفلتني. قاومته على قد ما قدرت. وكان اللي كان (…) خرجت من عنده وحالي حال. ما أذكره أنني جمعت في يدي الروب وما خلعته من ملابسي، وكنت حريصة عليها.. أخشى أن يقع منها شيء.. ضممتها لصدري”
وبعد يومين أو ثلاثة……
ها هي السيدة تأمرها أن تأخذ حمامها قبل النوم. العطور. علبة عليها اسم فلورنسا.”خذيها. عمرها عندي تسعة أعوام. سيأتي الليلة إلى حجرتك”
وظل يأتي إلى حجرتها…وحدث الحمل..
وكان هو المرجو ليأتي الوريث!. جاء الطفل ياسر ليصبح الرجل أبا ياسر وتصبح خديجة أم ياسر، والطفل أمام عيني أمه الحقيقية، تكتفي بمشاهدته عن بعد!
تلك المشاهد يقابلها ما كان من أمر الباكستانية التي اضطرت إلى إخفاء زواجها لتتمكن من العمل في الإمارة، وزوجها أيضا ترك بلاده وجاء متكتما أيضا! وجاءت الفرصة للتلاقي في غيبة سكان الإمارة الأصليين، لكنه ظل غائبا وهو حاضر. ذهب إليه زملاء امرأته وأحضروه إليها لكنه”لم يأت بقميص النوم. ورفض أن يلبس جلبابا من عند أبو عامر. وريشيم، زوجته، جاءت تشتكي وتبكي وتقول إنها لا تعرف ماذا تفعل. يقول إنه كان يريد أن يراها ورآها.”
الزملاء يحثونه على أن يتحرك لكنه ظل مشلولا لا حراك فيه.
***
في الأعراف الشعبية السائدة يرمز الانتصاب إلى الرجولة والبسالة والإقدام، بينما يرمز الخصاء والعنة إلى مقابل ذلك ، والذي أورده البساطي في الرواية لعجيب. السائق المصري الذي يعمل في الإمارة منذ سنوات لم ينزل لأولاده سوى مرة واحدة قرر بعدها أن البعد عن عش الزوجية غنيمة. يقول: “أخشى لقاء زوجتي. تجد نفسك مكتملا فوق السطح وخائبا في الحجرة”. وها هي زاهية -الجليسة المصرية- في غياب سيدتها تدعوه فهما من بلد واحد، ومَن غيره يحس بما تعاني؟- ها هي تهيئ له الجو حيث الستارة مسدلة على باب الشرفة، والسرير الواسع.
يقول: “ارتكزت زاهية بركبتها على حافة الفراش، ومالت فوقه لتعدل وضع المخدات. أرمق الجسد المنحني يتماوج خفيفا، واستدارة ردفيها، والساق البضة العارية، وأجدني ساكنا، تنهض من انحناءتها، الروب مفتوح، والحزام تدلى طرفاه على الجانبين، القميص الوردي يزهو في ضوء الغرفة، بلا ملابس تحتية، بطنها، سرتها، وحلمتا ثدييها، وأجد عينيها تنتظران عودة عيني، أزوغ ببصري عنها”.
ليلة بعد ليلة وصاحبنا عندها ، هي تحكي وهو يسمع، لكنه لا يكسر الحاجز الهش، ولا يلبي لها رغبتها.
المصري مصاب بالعنة مع زوجته، ومع من تدعوه إلى أحضانها لا يلبي، والباكستاني هو الآخر لا يستطيع حتى أن يلمس زوجته التي تذوب شوقا إليه رغم أن الدار أمان ولا خوف ولا تهديد…
الغريب في ذلك الجو الذي كأنما حلت عليه اللعنة هو ذلك الإفريقي الذي أخذ البساطي عنه عنوان الرواية!
أجل! هو ذلك القادم من حيث “غابات. ووحوش تقفز. وقردة على الأشجار. ودق الطبول يتصاعد بم. بم.”
هذا هو الإفريقي: “رائحة عرقه نفاذة رغم مروحة السقف التي فوق رأسه. بشرة وجهه جافة، وشفتاه ناشفتان، وأثر جرح قديم بطول الأصبع بجانب رقبته”.. يجمعون له النقود في طبق قبل أن يقوم بما سيدهشهم.
نقرأ: “نهض واقفا وأقبل العامل، جذب المقعد والمنضدة للخلف، فرد الأفريقي طوله، أخذ نفسا عميقا، سار خطوتين وتراجع خطوة، رمى بصره فوق الجميع، فتح ساقيه قليلا. فرقع بأصبعين على بعد ياردة من حجره وأطلق من فمه صوتا رفيعا ربما كان صفيرا. أغمض عينيه ووقف ساكنا وكأنما ينأى عما حوله. لحظة وأخرى وسرت رعشة . تكاد لا ترى الجلباب عند حجره، انحنيت محدقا. الآخرون أيضا، صوت الأنفاس حولي، تماوج الجلباب وكأن شيئا يتحرك في رقاده، أخذ الجلباب ينتفخ حتى استقر فيما يشبه خيمة، رمقها الأفريقي ثم رفع رأسه محتويا الجميع بنظرة، شمر جلبابه وأنزل سرواله، دار حول نفسه في بطء. عضوه ضخم، نقره بطرف أصبعه، اهتز ثم استقر في وضعه الشامخ، جاء عامل المقهى بكوب صبه في الجردل، أشار له الأفريقي أن يعيد الكرة، صب العامل كوبا آخر، وناول الجردل للأفريقي الذي علقه بعضوه ودار حول نفسه، قام بدورتين، ثم وقف ساكنا، ومال رأسه جانبا كأنما يرهف سمعه لشيء ما، بعدها ناول الجردل للعامل ولبس سرواله، قفز واحد من الزبائن وجاءه بالمقعد، استرخى مادا ساقيه ويداه فوق حجره، وأغمض عينيه”.
وتحدث من رأوا ذلك عن اللعنة التي حلت بهم جميعا ونجا منها الأفريقي!. جربوا كل شيء دون جدوى!
فهل ما ظنوه كان صوابا؟ وهل نجا الأفريقي بالفعل من اللعنة؟
أعتقد أنه قد أصابه ما أصاب غيره ولكن بصورة مغايرة!؛ فهذا العضو الذي يحمل الدلو ويظل منتصبا، ويوضع بالدلو كوبا ماء ومازال على حاله- هذا الانتصاب لا يحدث إلا ليجمع الأفريقي المال في الطبق، ثم بعد ذلك يميل رأ
س الرجل جانبا ويدهمه الإعياء. إنه انتصاب يشبه الاستمناء. إن هذا العضو صار “للعرض فقط”!، بلا رغبة ولا أي مشاعر مصاحبة، ولا شيء سوى حركة ميكانيكية ”وكأنك تضغط زرا”
س الرجل جانبا ويدهمه الإعياء. إنه انتصاب يشبه الاستمناء. إن هذا العضو صار “للعرض فقط”!، بلا رغبة ولا أي مشاعر مصاحبة، ولا شيء سوى حركة ميكانيكية ”وكأنك تضغط زرا”
فأين هو النجاء من الوباء؟!
يا لضياع الرجال!. إن كل هؤلاء المساكين قد انكسر بداخلهم شيء، وضمرت حريتهم فتدمرت ذواتهم…
هناك من امتلكوا (بفتح التاء واللام) وخسروا الكثير، ومع ذلك يصفقون ويصفق لهم…
وهناك من امتلكوا (بضم التاء وكسر اللام) وخسروا الكثير ومع ذلك يصفقون ولا أحد يصفق لهم وهم تائهون..
وما زال محمد البساطي مندفعا في دروب الإبداع..