محمد عبد المجيد
ستة وعشرون عاما مرّت منذ أن تلقت سفارة مصر في أوسلو فتوى دار الافتاء التي أصدرها الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، رحمه الله، ومعه عشرة من العلماء بجواز صوم مسلمي النرويج في المواعيد المتقاربة من العالم الاسلامي.
وبعد الفتوى بثلاث سنوات كان لي حديث مطول مع فضيلته عندما أصبح شيخاً للأزهر الشريف، وكان ذلك على هامش المؤتمر العالمي للمساجد بمكة المكرمة، وأكد لي خلال اللقاء تمسكه، رحمه الله، بالفتوى.
هل رأيت مسلما ينتظر على أحرّ من الجمر موعد غروب الشمس ليلقي بنفسه على مائدة طعام زيّنها له خياله طوال ساعات الصوم الطويلة؟
وفي الشمال النرويجي يطول النهار هذا العام فلا يتمكن إلا القلة النادرة من صوم شهر رمضان المبارك.
العام القادم يطول النهار، وبعد ثلاثة أعوام يأتي شهر البركة في منتصف الصيف، أي على المسلم أن يؤجل العمل إن كان يعمل في المساء، وأن يترنح من التعب والارهاق فتيان وفتيات المسلمين الذين تعلّموا لتوّهِم أهمية الصوم في سن الثانية عشرة، فإذا هو عذاب شهر كامل، لا يستطيع طفل مازال جسده في طور النمو أن ينتظر حتى يتم الصيام إلى الليل فهو لم ير خيطا أبيضَ يتبين من خيط أسود من الفجر. وماذا عن العمل، والمدرسة، وساعات النوم، ونشاطات التلاميذ بعد الفترة الدراسية التي لا يمكن الاستمرار فيها قبل أن يغادرنا رمضان الكريم في زيارته السنوية؟ العقل والنقل يتصارعان، والمسلم يظن أن الأوامر الالهية تتعلق بالكسوف والخسوف والشمس والقمر والضوء حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يريد أن يفهم أنها مواقيت في عصرها حتى يكتشف المسلمون مواقيت جديدة تحددها عقارب الساعات والدقائق والثواني!
لأول مرة منذ ربع قرن تبدأ الشكوى بصوت مرتفع، فهناك جيل ثالث من المسلمين يعرفون أنهم نرويجيون، وأن عليهم تفسير الصوم لأقرانهم، وأنهم على مسافة زمنية ومكانية طويلة من علماء الاسلام.
هل قُدّرَ لك وشاهدت أسرة مسلمة ينظر أفرادها إلى ساعة الحائط في كل دقيقة، ويتضور أطفالها الصغار جوعا وهم الذين بدأوا الصوم صغارا ، وربة البيت تترنح من الارهاق وهي تُعدّ طعام الافطار قبل منتصف الليل بساعتين؟
يتندر أهل البلد هنا علينا، ويتعجبون من شهر تتراجع فيه انتاجية المسلم إلى الربع، وتتوقف الحياة تماما قبيل الافطار بساعتين أو ثلاث!
وعندما يهل علينا شهر رمضان المبارك في منتصف الشتاء، ويصبح الصوم كأنه سويعات قليلة بين وجبتين، وفي الشمال تختفي الشمس، ولست بحاجة إلى أن تتم الصيام حتى الليل، فنهارك ليل أيضا!
في العام القادم سيحمل هَمّ شهر الصيام كثيرون قبل موعده بوقت طويل، والعقل يتراجع أمام النقل، والاسلام الحنيف يطلب منا أن نفكر، ونتدبر، ونقيس أمورنا وفقا لزمننا، وأن نفهم المعاني السامية للعبادة.
لكن المسلم الذي يتناول افطاره في مواعيد متقاربة من العالم الاسلامي يقرع ضميره ويؤنبه وهو يفطر والشـمس ساطعة إن جــاء شهر رمضان في منتصف الصيف، ويفطر والظلام يخيم إن حضر شهر البركة في منتصف الشتاء.
حيرة، وتردد، ومشاحنات مع النفس، ومصالحة مع العقل ما تكاد تستكين إلى السلم حتى يباغتها النقل مرة أخرى فلا تعرف أيّ إسلام يريدون؟
تزمت مخيف يلوح بالدين كأنه أمر بالاعتقال أو التعذيب حتى أن أحد الشيوخ هنا قال في فتوى بأن المسلم الذي يضبط منبه الساعة على موعد الذهاب إلى العمل، وليس على موعد صلاة الفجر سيلقي به الله في جهنم إن مات وهو نائم في فترة ما بين صلاة الفجر والذهاب إلى العمل!
كيف إذن ستقنع هؤلاء بأن الخيط الأبيض والخيط الأسود والليل كان لزمن لم يعرف دقات الساعات السويسرية، وأن الله العلي القدير العزيز الرحيم لا ينتظر من العبد سجودا وركوعا ودعاء وفقا للنظام الشمسي أو القمري.
المسلمون في النرويج في حيرة شديدة وأنا أزعم أنه لن تمر عشر سنوات أو أكثر بقليل حتى ينفصل الجيل القادم تماما عن الاسلام إن لم يسارع عقلاء الأمة بفتح باب الاجتهاد، وبالتوقف عن اهانة العقل والرأي والفكر والنقاش والجدال بالتي هي أحسن.
قضيتنا ليست في اقناع المسلم المغترب بالايمان، ولكن في جعله يحب شعائر هذا الدين الذي ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، في دينه، إلا اختار أيسرهما، ولا يزال البحث جاريا عن عقلاء الأمة!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج