لو أسفرت الانتخابات الفيدرالية الأميركية المقبلة عن فوز الديمقراطيين بالرئاسة الأميركية وتغلبهم على الجمهوريين في انتخابات الكونجرس فإن ذلك سوف يعني للكثيرين بداية عصر سياسي أميركي داخلي جديد، هو عصر تمدد ليبرالي واضح
سبب ذلك هو أن الديمقراطيين في أميركا عاشوا أربعة عقود صعبة، فمنذ عام 1968 لم يحكموا البيت الأبيض إلا لثلاث دورات رئاسية فقط (دورة لجيمي كارتر ودورتان لبيل كلينتون) في مقابل سبع دورات رئاسية حكم فيها رؤساء جمهوريون
كما فقد الديمقراطيين تدريجيا أغلبيتهم التاريخية بالكونجرس الأميركي والتي حققوها منذ ثلاثينيات القرن العشرين، حيث خسر الديمقراطيون مقعد الأغلبية بمجلس النواب الأميركي في عام 1994 في انتخابات مشهودة، حتى يقال أن عدد من أعضاء مجلس النواب الديمقراطيين الذين لم يخسروا في انتخابات 94 بادروا بتغيير انتمائهم الحزبي بعد الانتخابات، وذلك لشعورهم بأن الحزب الديمقراطي بات كالسفينة الغارقة والتي يتحتم عليهم مغادرتها قبل فوات الأوان والغرق معها
وفي عام 2002 خسر الديمقراطيون مقعد الأغلبية بمجلس الشيوخ، كما تعرضوا لهزيمة مذلة في عام 2004 حين فاز جورج دبليو بوش بولاية ثانية على حساب المرشح الديمقراطي جون كيري، كما عزز الجمهوريون تقدمهم بمجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين على حد سواء
انتصارات الجمهوريين المستمرة منذ عام 1980 والتي وصلت قمتها في الفترة من 2000-2004 كانت نتاج لما عرف بثورة اليمين، والتي قادها بعض الجمهوريين المحافظين في منتصف الستينيات، حيث رفض هؤلاء ميل الحزب الديمقراطي لحقوق الأقليات والمهاجرين وللانفتاح على العالم الخارجي، ونادوا في المقابل بمواقف محافظة على المستوى الداخلي ومتشددة على ساحة السياسة الخارجية، ووجدوا ضالتهم في قوى اليمين المسيحي المتدينة التي صعدت بقوة داخل المجتمع الأميركي المحافظ نسبيا كردة فعل لانتشار التيارات الليبرالية المتحررة أخلاقيا داخل المجتمع الأميركي في الستينيات
وللأسف مال اليمين المسيحي الأميركي للتشدد وللخوف من الأخر كردة فعل لتطرف اليسار الأميركي في التحرر الأخلاقي، فبدلا من أن يدعو اليمين المسيحي للتسامح تبنى أجندة خائفة من الأخر على المستويين الداخلي والخارجي، لذا مال لتبني مواقف خارجية متشددة ضد الإتحاد السوفيتي وضد من يصورون على أنهم أعداء خارجيين لأميركا
كما مال اليمين المسيحي للتحالف مع أثرياء الحزب الجمهوري بدلا من فقراء الحزب الديمقراطي وأقلياته، كما مالوا للتحالف مع نخب الجنوب والنخب الرافضة لثورة الحقوق والحريات المدنية بدلا من الانفتاح على المستضعفين والأقليات وأجندتهم
وللأسف أعطى تحالف اليمين المسيحي للحزب الجمهوري زخما جماهيريا لا يستحقه بسبب قوتهم التنظيمية وتغلغلهم على المستوى الجماهيري، لذا قادوا ريجان للحكم وقادوا بعده الجمهوريين لانتصارات ساحقة على خصومهم الديمقراطيين كما حدث في أعوام 1994 و2002 و2004
ولكن يبدو أن تحالف قوى اليمين المسيحي مع قوى الرجعية داخل الحزب الجمهوري من أثرياء ونخب الجنوب ومناصري عسكرة السياسة الخارجية الأميركية قد أفرض في تشدده أو رجعيته
حيث شن هؤلاء حرب العراق والتي كشفت عن جهل وظلم عظيمين، ظلم لأهل العراق وجهل بقواعد إدارة الحروب وإدارة الدول الواقعة تحت الاحتلال، كما أفرطوا في الإنفاق الداخلي في الوقت الذي حافظوا فيه على استقطاعات ضريبية ضخمة للأغنياء مما أغرق أميركا في الدين الخارجي وقاد إلى كارثة اقتصادية أميركية ودولية هي الأكبر منذ عقود بسبب جشع الرأسمالية الأميركية تحت أعين بوش وأثرياء الجمهوريين وأيدلوجيتهم المفرطة في العداء لدور الدولة في تقنين الاقتصاد وفي كبح جشع الرأسمالية وفي حماية المستهلك ودافع الضرائب الأميركي الفقير
ومازال الجمهوريون في تطرفهم هذا حتى أن جون ماكين المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية مازال يطالب حتى يومنا هذا بخصخصة نظام التأمين الصحي، كما طالب بوش من قبله بخصخصة نظام الضمان الاجتماعي، مع العلم بأن 45 مليون أميركي ل
ا يمتلكون تأمينا صحيا حتى يومنا هذا وأن عائد نظام الضمان الاجتماعي لا يكفي وحده لضمان حياة كريمة لمتلقيه
ا يمتلكون تأمينا صحيا حتى يومنا هذا وأن عائد نظام الضمان الاجتماعي لا يكفي وحده لضمان حياة كريمة لمتلقيه
كما كشف التطرف الأيدلوجي عن عدم كفاءة غير مسبوقة وعن فساد وفضائح شغلت إدارة بوش وقيادات الجمهوريين وقيادات اليمين المسيحي خلال السنوات الثماني الأخيرة
لذا لقي الجمهوريون هزيمة ثقيلة في انتخابات 2006 النصفية عندما خرج الأميركيون فيما هو أشبه بثورة جماهيرية عارمة ضد بوش والجمهوريين وجدت في حرب العراق عنوانا لحركتها السياسية
عموما ثورة الأميركيين ضد الجمهوريين في 2006 لم تستغل أفضل استغلال من قبل الديمقراطيين، والذين ترددوا كثيرا في أوائل العام الحالي في اختيار مرشحهم للرئاسة الأميركية، حين تردد الديمقراطيون بين السيناتور باراك أوباما والسيناتور هيلاري كلينتون
هيلاري كانت بمثابة مرشحة نخب الحزب وتياره المحافظ المعروف باسم “الليبراليين الجدد” وهو تيار ديمقراطي نشأ في قبل أزمة الديمقراطيين ونتاج لهزائمهم السياسية العديدة خلال العقود الأربعة الأخيرة، وقد عرف الليبراليين الجدد بسياساتهم الداخلية التي تميل للطبقة الوسطى على حساب الطبقات الفقيرة، وبسياساتهم الخارجية القريبة من سياسات المحافظين الجدد والتي دفعت عدد كبير من قادة الليبراليين الجدد مثل هيلاري كلينتون وجوزيف ليبرمان وجون كيري وجون إدواردز إلى دعم قرار حرب العراق في عام 2002
أما أوباما فقد نظر إليه الكثيرون داخل الحزب وبين قياداتهم – وعلى رأسهم آل كيندي – على أنه أمل الحزب في مستقبل أفضل، فهو شاب يعبر عن الجيل الأميركي الجديد، كما أن خطابه مليء بالأمل وبالرغبة في تخطي الفوارق الحزبية والسياسية والثقافية التي مزقت الأميركيين خلال العقود الأربعة الأخيرة
هذا إضافة إلى حديث أوباما عن الحوار مع العالم الخارجي ورفضه للحرب ولتغيير النظم المعارضة بالقوة ولتشدد بوش والجمهوريين وصقور الديمقراطيين والمحافظين الجدد
عموما مال الديمقراطيون لأوباما ولكن هذا لا يعد وحده ضمانه لبداية عهد جديد لليبرالية الأميركية، فمنذ انتصار الديمقراطيين الكبير في عام 2006 لم يشعر كثير من الأميركيين أو من المتابعين عبر العالم بأن الديمقراطيين أحدثوا تغيير كبيرا في السياسات الأميركية داخليا أو خارجيا، فمبادراتهم تجاه حرب العراق ظلت ضعيفة غير معروفة، وكذلك الحال على المستوى الداخلي
وقد ذكر البعض أن الديمقراطيين لم يتمكنوا من التغيير خلال العامين الأخيرين لأن الأغلبية التي فازوا بها داخل مجلس الكونجرس لم تكن كبيرة بشكل كافي لمساعدتهم على تحقيق التغيير المنشود
ولو فاز أوباما بالرئاسة الأميركية وفاز الديمقراطيين بمزيد من مقاعد الأغلبية بمجلس الشيوخ والنواب الأميركيين فسوف يضمن ذلك للديمقراطيين قدرة لا يستهان بها على تطبيق أجندة جديدة وعلى إعادة تعريف الأجندة السياسية الليبرالية داخل أميركا وخارجها من خلال تبني مبادرات سياسية كبرى جديدة ومختلفة
ولكن يبقى خوف دفين من أن يفوز الديمقراطيون ولا يحدث التغيير، ويرى أصحاب هذا الرأي الحذر أن المشاكل التي تعاني منها أميركا وسياستها على المستويين الداخلي والخارجي لم تعد مقصورة على حزب دون أخر، بل باتت تعبيرا عن أزمة في الثقافة السياسة الأميركية وعن قيادات ولدت في أزمة وفي حالة ركود وكساد فكرين وسياسي
خاصة وأن انتخاب أوباما – كثير الحديث عن الأمل والقيم – لا يعد في ذاته وبأي حال من الأحوال ضمانة لتطبيق أجندة تغيير حقيقية، وأن أوباما ككثير من قيادات الديمقراطيين لابد وأن يعود يوما لنقطة الصفر في السياسة الأميركية، تلك النقطة التي تسمى أحيانا بسياسات وسطية باهتة لا هي ديمقراطي أو جمهورية، لا هي يسارية أو يمينية، بل هي سياسات تحافظ على الوضع القائم وتخشى التغيير الحقيقي وتكتفي بالرقص في محيط جماعات المصالح الأميركية