د/إبراهيم ابراش
لا حديث في الشارع الفلسطيني اليوم إلا الحوار والمصالحة.الاحتلال،القدس ،اللاجئون ،التسوية ،المقاومة، أمور أصبحت في الدرجة الثانية من الاهتمام ومجرد عناوين فرعية في نشرات الأخبار، إن ذكرت أصلا، أو تُدرج ضمن سياق الحديث عن الحوار والمصالحة، بمعنى أنها أمور معلقة ومؤجلة لما ستسفر عنه حوارات القاهرة،وللأسف فإن العقل والخطاب السياسي الفلسطيني أصبح منشغلا بالخلافات الداخلية على حساب الانشغال بالعدو الوطني المشترك الاحتلال وتداعياته،حتى بتنا نشعر بالتردد بل بالخجل من الكتابة أو الحديث عن الخلافات الداخلية فيما إسرائيل تواصل الاستيطان وتهويد القدس وإذلال الشعب سواء في غزة أو بالضفة والقدس وحتى بالنسبة لفلسطينيي الداخل.
السؤال الذي يتردد على لسان كل فلسطيني اليوم وفي قطاع غزة أكثر من الضفة:هل ينجح الحوار أم يفشل؟ أو هل أنت متفائل أم متشائم ؟وللأسف فإن الحالة النفسية السائدة هي أقرب للتشاؤم منها للتفاؤل،ويمكن تفهم هذه الحالة التشاؤمية انطلاقا من فشل حوارات عديدة سابقة ومن خلال استمرار التحريض و التصريحات الاستفزازية في وسائل إعلام طرفي المعادلة دون ممارسات ملموسة على الأرض تهيئ ظروف حوار ناجح ،أيضا من خلال غموض ردود الفصائل على الورقة المصرية للمصالحة وهي ردود في غالبيتها تقول نعم ولكن..إلا أن اخطر ما يواجه المصالحة على أساس وحدة المشروع الوطني ووحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني هو تفشي قناعة أو تفكير عند نخبة سياسية يتزايد عددها باستمرار تنظر لما جرى ليس كشر مطلق ولكن كتسوية مؤقتة حتى وإن كانت من تخطيط العدو وتخدم مصالحه، فمن باب (رب ضارة نافعة) يرى هؤلاء أن حالة الفصل الراهنة قد تكون حلا مؤقتا للخلافات السياسية ولتعثر التسوية ومأزق المقاومة،بمعنى أن الفصل قد يخفف من الصراع الداخلي أو يخلق حالة من فك الاشتباك ويملأ الفراغ الناتج عن تراجع الاهتمام السياسي الدولي بالقضية الفلسطينية إلى حين حدوث متغيرات إقليمية ودولية تدعم المشروع الوطني وتغير من موازين القوى،وهذا التفكير أو التوجه تدعمه قيادات سياسية عند طرفي الصراع وكلِّ لأهدافه الخاصة وهو توجه تدعمه بطريقة خفية أنظمة عربية وإقليمية.
ومع ذلك وبعد كل ما جرى ويجرى للفلسطينيين وصيرورة القضية الفلسطينية برمتها في مهب الريح،وبعد اتضاح المأزق الذي تعيشه التسوية المعلنة ومن يراهن عليها والمأزق الذي يعيشه القائلون بالمقاومة المسلحة كخيار وحيد ،وبعد أن بات واضحا أن حكومة بالضفة لا تستطيع القيام بتمثيل المشروع الوطني ولا القيام بأعبائه ما دامت ولايتها مقتصرة على الضفة الغربية، وان حكومة بغزة لا تملك مشروعا وطنيا ولا تستطيع أن تنجز المشروع الوطني حتى وإن ادعت أن لها مشروعا وطنيا،وبعد أن أصبح كل يوم يمر إلا و يزيد من مأسسة الانفصال داخليا وخارجيا، بعد كل هذا تصبح المصالحة ضرورة وطنية وضرورة سياسية لكل القوى السياسية التي تدعى تمثيل الشعب الفلسطيني أو تسعى له، حيث لا مشروع وطني إن لم يكن مشروع كل الشعب وعلى كل الأرض،ذلك أنه من الوهم الاعتقاد أن قطاع غزة يمكنه أن يشكل ويحتوي المشروع الوطني وكذا الأمر بالنسبة للضفة الغربية .
وعليه فإن سؤال المصالحة اليوم يجب ألا يكون هل تنجح المصالحة أم لا ؟بل كيف نُنجِح المصالحة؟ إن من يريد أن يبحث عن مؤشرات أو موجبات الفشل لن تعوزه الأدلة التي تعزز تخوفاته وهي أدلة كثيرة وملموسة ،ولكن في نفس الوقت فإن من يريد نجاح المصالحة ويشعر بأن مصير الشعب والقضية مرتبط بنجاحها سيجد أيضا من الأدلة والمعززات ما يجعل المصالحة ممكنة بل وضرورة وطنية.إن المراهنة على نجاح المصالحة يجب أن لا تؤسس على الايدولوجيا التي تغلف خطاب كل طرف أو المصالح والعلاقات الخارجية التي تحد من حريته في اتخاذ القرار بل من الأصالة الوطنية الفلسطينية القابعة تحت قشرة الأيديولوجيات وركام المصالح الآنية،لو قشطنا القشرة الخارجية -الأيديولوجيا -عن خطاب كل سياسي أو مواطن فلسطيني لوجدنا تحتها وجه الفلسطيني الأصيل أبن النكبة والمعاناة وابن البلد الذي تشَرَب حب فلسطين وعَشِق اسمها وجبالها وسهولها ومخيماتها وزيتونها وبحرها، الايدولوجيا والمصالح أمور عابرة ومؤقتة ولكن الانتماء للوطن هو الشيء الأصيل .المراهنة على الولايات المتحدة وعشقِها من طرف البعض لن يغير من السياسة الأمريكية المتحيزة تجاه إسرائيل ولن يجعل أمريكا نصيرا لهؤلاء في تحقيق رؤيتهم للمشروع الوطني حتى ضمن الاتفاقات التي رعتها أمريكا نفسها،كما أنها مراهنة لن تجعل هؤلاء أصدقاء لأمريكا لأنه لا صداقات دائمة عند الأمريكيين وهي أيضا مراهنة لن تجعل أمريكا وطنا لأبنائهم بديلا عن فلسطين،والمراهنة على الايدولوجيا الإسلامية ومن يمثلها خارجيا لن يجعل من دولة الخلافة المنشودة بديلا عن الوطن الفلسطيني ولن يجعل من هؤلاء المراهنين وأبنائهم مواطنين في دولة الخلافة المزعومة أو مواطنين في أي دولة إسلامية ولن تقبل أي دولة من دول الممانعة التي تدعم الإسلاميين الفلسطينيين أن تمنح هؤلاء وأولادهم مجرد إقامة على أراضيها،فلا بديل عن فلس
طين إلا فلسطين ولا كرامة للفلسطيني إلا بوطنه.
طين إلا فلسطين ولا كرامة للفلسطيني إلا بوطنه.
حتى تنجح المصالحة يحتاج الأمر للمصارحة حيث أن المكابرة لا تؤسس لمصالحة حقيقية،ونقصد بالمصارحة النقيض للمكابرة، التخلي عن أوهام الشرعية التي يدعيها كل طرف:أوهام شرعية الانطلاقة الأولى أو الشرعية التاريخية فالتاريخ لا يمنح شرعية سياسية دائمة،وأوهام الشرعية الدينية فالدين لا يمنح شرعية سياسية وهو لم يمنحها لأحد بعد الرسول محمد، وأوهام شرعية الانتخابات حيث الانتخابات التي تمنح الشرعية السياسية هي الانتخابات الدورية وهي بمثابة تفويض مؤقت مشروط بنجاح الفائز بالتقدم نحو إنجاز المشروع الوطني وليس تقسيمه أو التخلي عنه ،أيضا هي الانتخابات التي تقوم على المشاركة السياسية والاعتراف بالآخر والاعتراف بمرجعيات النظام السياسي وقانونه الأساسي.المصارحة تعني الاعتراف بالمقابل بأن الجميع أخطا بحق الشعب والقضية الوطنية،ربما لم تكن أخطاء مقصودة ومخططة بل نتيجة اجتهادات خاطئة ولكن حتى في هذه الحالة فالمسؤولية لا تسقط لان الشعب والقضية ليسا حقل تجارب.ونعتقد أن الاعتراف بالخطأ أو النقد الذاتي لن يقلل من قيمة أو هيبة احد وخصوصا أن غالبية الشعب تعترف وتقبل بواقع أن حركتي فتح وحماس هما عماد النظام السياسي ولا بديل عنهما لقيادة الشغب في هذه المرحلة الحرجة،حتى وإن تَطَلَب النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ تقديم تنازلات ،فهذه التنازلات لن تذهب لصالح الطرف الثاني بل لمصلحة الوطن ومن يتنازل للمصلحة الوطنية لا يخسر شيئا بل سيكسب احترام الشعب.
لكل ما تقدم يجب أن ينجح الحوار ويؤدي لمصالحة وطنية ليس كنصوص على ورق ولكن كممارسة على الأرض تتجسد بعودة وحدة النظام السياسي والسلطة..إن الحوارات الجارية اليوم بين القوى السياسية الفلسطينية تختلف عن كل الحوارات السابقة ونتائج الفشل ستكون أكثر وبالا من فشل الحوارات السابقة، ذلك أن الحوار يجري اليوم بين فريقين كل منهم يسيطر على ارض- في ظل الاحتلال- وله سلطة وحكومة وعلاقات خارجية تدعم وجوده وتشرعن هذا الوجود،وهناك أوضاع انفصالية تُكرَس كل يوم بمعنى أن فشل جولة الحوار هذه لا يعني انتظار جولة جديدة بفرص أفضل بل تكريس القطيعة بشكل نهائي.ويجب أن لا نغيب الدور الإسرائيلي ،فحيث أن إسرائيل هيأت المسرح لحدوث الفصل والقطيعة فهي معنية باستمرارها ،وهنا يجب التحذير من مخططات إسرائيلية تهدف لإفشال المصالحة كتكثيف الاستيطان والاعتداءات على المواطنين والمقاومين بالضفة أو التهديد بإفشال التهدية القائمة بغزة إن تقدمت المصالحة الوطنية،وهناك وسيلة أخرى بدأت إسرائيل باللجوء لها وهي رفع الحصار عن القطاع بطرق ملتوية كما جرى مع شرعنة الأنفاق بين غزة ومصر والسكوت عنها،فمعبر رفح مفتوح لغالبية أنواع السلع ولكنه انتقل من فوق الأرض لتحتها، وكذا سماح إسرائيل بدخول السفن عن طريق البحر وقد تسمح إسرائيل بدخول مزيد من السفن خلال الأيام القادمة حتى بات البعض يتحدث عن فتح خط بحري دائم مع الخارج دون أن يدري – وربما يدري – خطورة ذلك في ظل استمرار الفصل بين غزة والضفة،وإسرائيل بهذه الخطوات لا تنصاع لمطالب دولية أو لاعتبارات إنسانية بل تهدف لفك علاقتها بقطاع غزة وتقوية التوجهات الانفصالية ،وهذا موضوع خطير يجب الانتباه له جيدا بحيث يجب تحديد الخط الفاصل بين رفع الحصار لاعتبارات إنسانية ورفع الحصار بهدف تعزيز الانفصال وقطع الطريق على المصالحة الوطنية،فخلف الشعارات الإنسانية لحملات رفع الحصار قد تكمن نوايا خبيثة عند البعض مع كامل التقدير والاحترام للشخصيات الأجنبية والعربية ذوي النوايا الحسنة المشاركة بحملة رقع الحصار.