من الواضح أن الأميركيين حريصون على استعادة الروح المثالية، التي كان كثير من المراقبين يعتقدون بأنها قد انتهت في حقبة الستينات من القرن الماضي، لكن أمر تغيير العالم، ما عاد حكرا على أمريكا وحدها، ولا أظن أن بمقدورها اليوم أن تضيف شيئا إلى العالم.
من سيقود التغيير في أمريكا؟ بقايا ومخلفات السياسات الخاطئة والطائشة للرئيس الجمهوري بوش، أم الجيش الذي تحول إلى آلة حرب مدمرة وقاتلة، أم مراكز الدراسات، التي فقدت ـ إلى حد ما ـ التأثير على صانعي القرار، واستعصى عليها فهم ما يجري ويتفاعل في المنطقة العربية، فمرة تراهن على تغيير السياسات الأمريكية تجاه ما يسمى بـ”منطقة الشرق الأوسط”، وتارة تروج لإستراتيجية إعادة صوغ شخصية المسلم وعقله، ومناهج التفكير والتعليم، واللعب على انقسامات وتناقضات الخريطة الإسلامية وهكذا..أم الرئيس ـ أيا كان ـ الخاضع لتوجهات ثقافية، وربما إلهامات دينية ـ كما في حالة الرئيس الحالي بوش ـ وكذا انحيازات اجتماعية وسياسية في أي بلد يُقحم فيه إدارته، أم العقول المنصفة في الجامعات والمراكز البحثية، المحاصرة، ومحدودة التأثير للأسف، أم أوباما، الذي يعد بالتغيير وسحر أعين جمهور أمريكي كبير بجاذبيته، وربما خطف عقولهم بقدراته ااخطابية ولغز التغيير الذي نطق به وحمله معه في كل مكان زاره؟ لكن أمر التغيير أكبر من مجرد سحر الأعين وخطف العقول، ولا يتحمله رئيس، مهما أبدع في تسويق صورته وتجميل عقله، خاصة في بلد تحكمه التوجهات الإستراتيجية وتسكنه طموحات الهيمنة.
وقد يقول قائل: ربما تستطيع أمريكا أن “تهذب صورتها” في العالم، لكنها لا تملك أن تخضعه لإرادتها، وقد يكون هذا (أي التهذيب) ممكنا، لكنه متوقف على قدرة الحد من اتساع نطاق عدم الثقة في أميركا على مستوى العالم، وما سيسفر عنه “الانقسام الثقافي” في الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن كلاَ من طرفي الصراع يحاول اكتساب أكبر قدر من الشرعية والنفوذ والتأثير.
وهذا الاستقطاب الحاد في أميركا هو بصدد التحول إلى حرب ثقافية وأيديولوجية حقيقية، يشجع عليها اليمين المسيحي، الذي يتزايد تأثيره في الحياة السياسية الأميركية، ويدفع باتجاه المزيد من الدعم الأميركي لإسرائيل، رغم أن بعض المراقبين يرى أن اليمين المسيحي الأميركي كسب معارك عدة، لكنه خسر الحرب في نهاية المطاف. والسبب الرئيس لهذا الاستقطاب، هو النفوذ المتعاظم للمتطرفين بين أعضاء الحزبين الأميركيين المسيطرين على الحياة السياسية الأميركية تاريخيا.
وقد كان باتريك بوكانان، المحافظ والمستشار السابق للرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، جريئا وصريحا، عندما كشف في العام 1992م، أن “الرهان في الصراع بين بيل كلينتون وجورج بوش الأب في الانتخابات الرئاسية، يتعدّى كثيرا مجرّد التغيير في القيادة السياسية للبلاد، فالرهان ليس من يحصل على ماذا، وإنما هو من نحن، والرهان هو ما نعتقده وما نرمز له كأميركيين، ذلك أن هناك حربا دينية في هذه البلاد، إنها حرب ثقافية حاسمة..إنها حرب من أجل روح أميركا”.
ويرى بعض المحللين الأمريكيين أن انتصار الرئيس بوش في عهدتين رئاسيتين، هو انتصار مؤقت لتيار في الثقافة السياسية الأميركية، كان نفوذه هامشيا في أفضل الأحوال خلال القسم الأكبر من القرن العشرين. ويجد هذا التيار جذوره الراسخة في قيم وعادات الجنوب الأميركي وفي بعض المناطق الغربية. وهؤلاء ينظرون بكثير من الريبة إلى “صعود الحداثة المنحلة لأهل الشمال والشرق، التي تتغذى من قرن ونصف قرن من الازدراء حيال أهل الجنوب”.
هناك صراع من أجل تحديد هوية أميركا، يؤثر على مستقبلها وتطلعاتها وطموحاتها. وذهب بعض المعلقين إلى حد القول: “إن الولايات المتحدة منقسمة إلى “أمتين”، تتمايزان على أساس المنظومة الأخلاقية والثقافة أكثر مما هو على أساس الطبقة أو العرق أو الأصل الإثني”. وما لم تحسم وضعها الثقافي الداخلي وهويتها، فإن “زمن التيه” سيطاردها في كل مكان، ويعصف بقوتها، ويضعف قدرتها على تغيير العالم مجددا.
والمطلوب ليس تغيير العالم، وإنما تغيير أمريكا (فهي أعجز من أن تغير نفسها)، لتظهر في صورة أقل عدوانية وأقل تحيزا، فضلا عن تغيير العالم، الذي أشعلته حروبا وعداوات وفوضى، هذا المطلوب من أوباما إذا كان يملك إرادة تغيير متحررة من الإكراهات والتحيزات. وقد تخونني العجلة، لأجازف بالقول، لن ينتظر التاريخ أمريكا أوباما أو غيره، ومركز القوة في تبدل وتداول، فالولايات المتحدة في أفول، ولا يفيدنا ـ الآن ـ الجدل في أمر سقوطها أو بقائها، الأهم هو أن القوة والصعود والتأثير في تحول، وملامحه بادية والتغيير قادم..