عائده محمد نادر
داعب الوسن جفنيها وهي تنظر إلى عقارب الساعة معلنة الرابعة والنصف فجرا .. قفزت من فراشها وكأن عقارب الساعة لسعتها .. أجالت نظرها بأرجاء منزلها الجميل وهي تتفقده وقلبها يحدثها بأن القادم صعب وقاسي .. تذكرت أنها لم تحتضن ولديها قبل أن تأوي الى فراشها لفرط توفز أعصابها من الآتي وتوترها .
قبل أن تبدء تباشير الصباح دكت الصواريخ مناطق كثيرة من بغداد وهي تتساقط عليها كحمم بركانية ملتهبة, بعد أن دوت صفارات الإنذار معلنة إنتهاء السلم وبدء (( ساعة الصفر2003)) . فتحت شباك غرفتها المطل على ضفاف دجلة المهموم وأصابعها الرقيقة تنقر على الزجاج المنهك من كثرة الإهتزاز ..أبهرها منظر النهر وهو ينساب غير عابيء بما يجري فأحست بأمواجه المهتزة تهز مشاعرها ووجدانها وبغداد تعلن الحداد على نفسها ومخالب الصواريخ تقطع أوصالها . إهتز البيت مرارا وتكرارا مع كل صاروخ ينزل على أرضها التي تربت عليها وهي صغيرة غضة بعد.. داهمتها أصوات ضحكاتها وأقرانها ممزقة ذاكرتها وبسذاجة وضعت يديها على أذنيها كي لاتسمع تساؤلها..(( ربما ماتوا الآن..؟ )) إنقبض قلبها وهي ترى النيران تشتعل بمبان قريبة من بيتها ..فبكت .. أحرقت أجفانها جمرات الدمع المنهمر من مقلتيها مستحضرة الماضي ودفئه وحلاوة الأيام حتى المؤلمة منها .
تذكرت حين طبع زوجها على جبينها ذات يوم مرح قبلة سريعة وهو يحثها كي تعجل وتنهي إرتداء ملابسها ليأخذها والصغار بنزهة مسائية على ضفاف دجله .. أصر أن ينزل إلى جرف النهر ليبلل رجليه وضحكات الصغار تملأ المكان ضجيجا لذيذا وعيناها ترقبانه بإبتسامة هادئة وهو ينحدر الى الضفة حين انزلقت قدمه فانقلب على ظهره و ضحكاته المجلجلة جعلت صغاره يضحكون معه..غاص بالوحل فاستحال الى كائن طيني يثير منظره الضحك والسخرية والتندر وبالكاد إستطاع الخروج بعد أن أصبحت الأرض الطينية زلقة جدا. فجلس على الحشائش وهو يمسح يديه ووجهه ..أعجب منظره صغاره فغمسوا أصابعهم الصغيرة الرقيقة بالطين ممرغين أنفه به غارقين بضحك طفولي بريء .
أجفلت من ذكرياتها مع دوي إنفجار صاروخ آخر فاستغرقت بتخيل أنات المصابين المرتعبة ويدا طفليها المرتعشتين خوفا تمسكان بذيل ثوبها فاحتضنتهما وهي تقول بصوت متهدج خائف :
– لاتجزعا ولداي …دقائق معدودات وينتهي الأمر .. ثقا بيّ .
كان الخوف يأكلها فيما النيران تتلمظ بأكل المباني المحترقة وعيناها الواسعتان تفترشان الأرجاء لتسع طوق الأفق المحمر لتحتويه .
أرعبها منظر الحرائق وهي تلتهم بغداد وزمجر صوت بداخلها يحثها على الخروج من البيت لتنجو بولديها فهي لم تعد تقوى على البقاء بانتظار الموت .. أحست ببرد شديد يسري بأصابع يديها وشباكها مازال مواربا يتلمس الدفء من نيران بغداد المستعرة واحتراقاتها .. نظرت الى صغيريها وهما يجلسان بزاوية الغرفة ملتحفين بدثار سميك كما أوصتهما ليحميا جسديهما من شظايا الزجاج الذي قد يتناثر بفعل القذائف التي بدأت بالتساقط منذ أعلان ساعة الصفر. تذكرت أباهما الذي غادر ملتحقا بوحدته العسكرية منذ خمس وعشرين يوما ولم يعد حتى اللحظة. غزاها الحنين اليه .. لصدره وهي تدفن رأسها بين حناياه ..لهمساته وهي تلسع الأنثى الكامنة فيها والمتلهفة اليه.. ليديه وهما تحتضنانها .
بعينيها الذابلتين كانت تتابع إنبلاج الصباح متسمعة صوت سيارات الإسعاف يشق أذنيها بزعيقه المخيف عازفا ..سمفونية الموت .. تلبسها الحزن وهي ترى الدخان المتصاعد من المباني الجميلة التي كانت تعمر بها الحبيبة فسرت بجسدها قشعريرة شديدة بينما تراخت عيناها المفعمتان بالخوف وكأنها بكت الدهر كله .. تمنت لو أن الباب يفتح الآن ويدخل زوجها منه لتحتضنه و تبكي على صدره فتستريح ولو قليلا .. عادت الصواريخ لتدك المدللة دكا عنيفا ومع كل إرتجاجة حائط كانت أوصالها ترتجف معلنة عن خوفها العارم فهرعت واندست بين ولديها وأغمضت عينيها .. أحست بدفء حميم إجتاح كيانها وبيد تحتضنها وأنفاس إشتاقت روحها لملاقاتها وصوت حنون يهمس بأذنيها بكل حب مازال يؤسرها .
– حبيبتي لقد عدت فلاتخافي .
شهقت بحرقة وهي تكتشف وهمها بمجيئه الذي عاشته ملهوفة لتحتضنه بكل لوعة ساعات الرعب المحرقة التي بدأت مع بداية ساعة الصفر وحتى دوي إنفجار, آخر لم تسمعه