هكذا هم يشعرون، دون أن تجرد عليهم الجيوش، ودون التجرؤ العربي على مجرد التهديد بمحاربة دولتهم العبرية، ودون تقطيع أوصالها بسيف المقاطعة الجدي، ورغم حالة الانقسام الفلسطينية المطمئنة جداً لليهود، وتواصل التهدئة في قطاع غزة، والهدوء في الضفة الغربية، ورغم تواصل المفاوضات العبثية التي وفرت للدولة العبرية فرصة تواصل الاستيطان، وبناء الجدار،وتهويد القدس، وتشديد الحصار على غزة، والتمهيد للاستقرار الأمني الذي أسهم في التطور الاقتصادي بحيث ارتفع متوسط دخل الفرد في الدولة العبرية إلى ثلاثين ألف دولار سنوياً، وفق تقرير البنك الدولي لسنة 2008، ـ قياساً إلى 800 دولار دخل الفرد في فلسطين، وقياساً إلى 1600 دولار دخل الفرد في جمهورية مصر ـ فما زال اليهود في الدولة العبرية يشعرون بالاغتراب عن هذه الأرض وفق استطلاع الرأي الذي نظمه مركز بحوث السلام في تل أبيب، والذي أشار إلى أن 71% من اليهود في الدولة العبرية لا يؤمنون بأن دولتهم ستتمكن من الاندماج سياسياً في العقود القريبة المقبلة في الشرق الأوسط، وبيّن الاستطلاع أن 63% يفضلون بوضوح أن يكونوا جزءا من الغرب، علاوة على ذلك بيّن الاستطلاع أنّ 79% من يهود الدولة العبرية قلقون من الوضع الحالي للدولة. إن هذه النسبة العالية من شعور يهود الدولة العبرية بالقلق، وعدم القدرة، أو الرغبة بالاندماج في منطقة الشرق الأوسط لجديرة بالدراسة، وإعادة التفكير لدى الساسة الفلسطينيين في رام الله وهم يصرون على مواصلة المفاوضات مع إسرائيل، وجديرة بالدراسة والتحليل لدى الساسة الفلسطينيين في غزة في حالة تجديد التهدئة مع الدولة العبرية، وجديرة بالدراسة والاستنتاج من كليهما بضرورة وضع حد للانقسام الفلسطيني، فنتائج الاستطلاع تكشف عن نفسية اليهودي الخائف من المستقبل، والهارب من المجهول رغم الحياة المعلومة من الازدهار، والاستقرار النسبي، مع العلم أن اليهودي يتعرض إلى حملات التنظير الفكري، والبناء النفسي، والتهيئة الوجدانية، وأن صلب التعاليم اليهودية تنظر إلى فلسطين على أنها الملاذ الروحي، والاستقرار النفسي لليهود، والراحة الأبدية، ونهاية مطاف رحلة الغربة والضياع في المنافي، والتيه، ومع ذلك لم يصل اليهودي في فلسطين إلى غايته من الهدوء والاستقرار، بل ما زالت غالبية اليهود في فلسطين على سفر. لقد تدارس اليهود تجربة الصليبيين في فلسطين، والأسباب التي أدت إلى تصفيتهم من المنطقة، وجرّت عليهم النهاية المحتومة، وتوصل حكماء اليهود إلى نتيجة مفادها: أن خطأ الصليبيين يكمن في انسلاخهم عن الغرب، واندماجهم بالكامل في حياة الشرق، وهذا مقتلهم. بعد مئات السنين، يشعر 63% من يهود اليوم في فلسطين أنهم جزء من الغرب، ويحمل 61% منهم انطباعاً سلبياً عن الشرق، كما جاء في الاستطلاع، ويقولون: أنها منطقة مجانين، وكان الله في عوننا، فهل معنى ذلك؛ أن عدم اندماج اليهود في الشرق جزء من مخطط ضمان البقاء، والاحتفاظ بتمايز الدولة العبرية عن محيطها؟ أحسب أن القلق الذي يصيب نسبة 79% من يهود الدولة العبرية فيه جواب مغاير لذلك، ولاسيما أن الاستطلاع ذاته قد أشار إلى أن نسبة 32% فقط من فلسطيني 1948 لديهم هذا الانطباع السلبي عن الوطن، رغم ما يلفهم من ظلم، وما أصابهم على يد اليهود من سلب للأرض، ومن هضم للحقوق. ترى، هل من علاقة بين هزيمة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر على يد رجال المقاومة في الجنوب اللبناني، والجنوب الفلسطيني، وبين الحلم اليهودي؟