لماذا أنشر عن مصر مقالات حديثة وأخرى قديمة في نفس الوقت؟
لأن المشهد منذ تولي الرئيس حسني مبارك الحكم وحدة واحدة، أينما تنظر إليه وكيفما تراه تشاهد أطرافه ككارثة أحاطت بالوطن الطيب لاغتياله أو تدميره أو انهاء الحقبة المصرية تماما.
إنها مقالات بالدم والدموع، لكنها رسالة حب لمصر ولشعبها، وتأكيد أن القلم باقٍ بإذن الله يوجع الطغاة حتى لو لم ينصت إلينا أبناء شعبنا.
أوسلو في مايو 2003
سيدي الرئيس حسني مبارك,
أكاد أسمع على مبعدة آلاف الأميال نبضات قلبك, على رغم الاسكواش, تزداد, وتسرع في دقاتها وكأنها في سباق مع الزمن, فقائمة المطلوبين لسيد البيت الأبيض سرية, ولا يعرفها إلا قلة نادرة حتى لو تحسس حراس الثورة الايرانية وحكام الاقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة وجنود الشيخ حسن نصر الله رؤوسهم بحكم أنها على رأس القائمة, فمن يستطيع أن يتنبأ بما في أذهان أسياد مصانع الأسلحة وأشباح الكونجرس واللوبي اليهودي وعمالقة وول ستريت؟
هل خشيت حقا بعد أن سقطت وتحطمت تماثيل وصور القائد المهيب في بغداد, وبعدما تم دفن أحلام العائلة في استمرار حكم الجمهورية السجن, ووراثة عرش عاصمة الرشيد, عُديّا أو قُصِيّا, أن يخفت ويبهت ويموت حلم الشاب الطموح جمال مبارك في أن يصبح سيد المصريين كلهم؟
هل شعرت لأول مرة أن كرسي الحكم ليس ثابتا, وأن الجماهير التي تخرج ملايينها تبايعك بالروح والدم هي نفس الجماهير التي ستدير لك ظهرها عندما تأمن هي عواقب الغضب الشعبي, أو يحركها حدث ما في الاتجاه المضاد والمناهض لحكمك؟
ماذا يقول لك مستشاروك الآن؟ وبأي حديث يهمسون في أذنيك؟ وما هي نصائحهم لاستمرار الحكم عقدا آخر أو اثنين أو حتى قرنا لجيلين من أجيال تحمل اسم مبارك؟
لعلك تحتاج الآن لنصيحة ستعرف لاحقا أنها أغلى وأصدق من كل نصائح مستشاريك ومعاونيك وخدمك وحشمك وأصدقائك وكل من يدعي بك وصلا وحبا وغراما, أو تأييدا وولاء ومبايعة! نصيحتي لك, سيدي الرئيس, أن تختفي عن الأنظار, أو تهرب إلى ليبيا, أو تطلب اللجوء السياسي في اليمن, أو تشتري منزلا على شاطيء اللاذقية أو فيلا أنيقة ملحقا بها حمام سباحة في أحد الأحياء الراقية بالدار البيضاء!
موقفك ضعيف, سيدي الرئيس, وأحسب أنه أوهن من بيت العنكبوت, ولو طلب منك أسياد العالم الجدد أن تغير الدستور أو تدعو إلى انتخابات حرة نزيهة يتنافس فيها مصريون آخرون لا يحملون اسم مبارك, أو تقدم تقريرا مفصلا عن ثروات أسرتك وولديك وحاشيتك بدءا من يوسف والي ومرورا بكمال الشاذلي وليس انتهاء بأصدقائك من رجال الأعمال فلن يزور عينيك غفلة من نعاس قبل أن تلقي نظرة أخيرة على القصر الجمهوري بعابدين, وعلى ملكك وعبيدك ومبايعيك ومطيعيك
دعني أصارحك بحقيقة لو استعطفت كل المقربين منك وأصدقائك وأحبابك لما تجرأ أي منهم أن يهمس بها إليك ولو على استحياء أو بصوت غير مسموع
الحقيقة أنك أقل زعيم مصري شعبية منذ عصر النهضة, بل لو تناهى إلى سمعك ما يقوله عنك أبناء شعبك لما بقيت يوما أو بعض يوم في قصرك المعمور بالخيرات والأمن ورجالك المطيعين.
سيدي الرئيس,
ماذا فعلتَ بهذا البلد الطيب العربي الكبير مهد الحضارات ومنبعها؟
في عقدين أو يزيد قليلا دمرت ما لم تستطع كل القوى المعادية لمصر أن تفعله في أرض الكنانة ولم تفهم أو تعرف أو تستوعب أن مصر أكبر منك, فذهب بك الظن إلى أنك أنت الأكبر, وإن لم تأتك طواعية فسترسل من جندك ورجالك وأمنك من يأتيك بها كراهية!
تعاملتَ مع أهلها بكبرياء شديد كأنك لست من جنس هؤلاء المصريين, واخترت منطق السيادة والعبودية في التعامل مع أطيب شعوب الأرض قاطبة, فحكمت لأثنين وعشرين عاما بقانون الطواريء الذي لا تقبله الشعوب المتحضرة لأكثر من عدة أسابيع, وتركت للمتزلفين والجبناء تبرير الاستمرار في ضرب ظهر بهية, ودلف القانون الكريه إلى أٍروقة مجلس الشعب, ثم جلس على أكتاف أعضائه تحت قبة البرلمان ليخرج من ألسنتهم إفكا وزورا وبهتانا, ويتم تجديده تماما كما يجدد ضابط الشرطة الفلقة المعلقة أمامه ظنا منه أنه يذيق مواطنك المسكين نوعا جديدا من العذاب في سلخانة خدمة الشعب.
كانت مصر أكبر منك فتركت اللصوص يقتصون منها, وينهبون خيراتها, ويسرقون مصارفها, ويستولون على أرضها الطاهرة, ويبتلعون في جوفهم مئات الملايين من المساعدات وتحويلات المصريين في الخارج والهبات وعائدات قناة السويس والبترول والسياحة وغيرها.
كنت تعلم أسماءهم, وتأتيك ملفاتهم فتزيحها جانبا, وتراهم واحدا إثر الآخر يخرجون من مطار القاهرة الدولي بأموال شعبك ورعاياك, فتغض الطرف, وتصمت صمتا طويلا, فأنت لا تريد لمصر أن تكون أكبر منك أو من أسرتك.
كنت ولا تزال مولعا باختيار الأكثر سوءا, واستمرار الاحتفاظ بكل من حامت حولهم الشبهات, بل وصل بك الأمر إلى اعطاء الأوامر بمد فترة خدمة كل من يحقق فشلا, أو تتجمع خيوط الشبهات حوله لتنفجر قضايا موثقة تنشرها الصحافة على الملأ.
يدهشني أن يظن أحد أن هناك فارقا كبيرا بين لصوص بغداد والموصل وكركوك والبصرة, وبين اللصوص في عهدك الذين لم يكونوا في حماية القوات الأمريكية والبريطانية, ولم تفجر لصوصيتهم فوضى عارمة وانفلات أمني ومشاعر انتقام من حكم تسلطي وحشي, لكنهم يرتدون أفخر الثياب, ويفتح لكل منهم باب سيارة فارهة سائق مهندم, ويستقبله على باب البنك السيد المدير أو نائبه, ويقدم مشروعا وهميا في غياب تام للدولة ومؤسساتها وإدارتها, ولا يمر وقت طويل حتى تكون عدة مئات من الملايين في حساب صاحبنا الذي يعلم مسبقا, وبناء على سوابق وشهود ووقائع وخبرات أن نهب خيرات الوطن في عهدك الميمون أيسر وأكثر سهولة من حصول عامل مسكين على منحة سنوية لا تكفي بضع ساعات من الدروس الخصوصية لأحد أبنائه.
سيدي الرئيس,
ماذا فعلت بمصرنا ووطننا وحبنا الكبير التي كانت هادئة ومسالمة يحرسها نيلها, ويربت على كتفها أبناؤها كلما خرجت من محنة أو هزيمة أو نصف انتصار أو نكسة أو فشل في مشروع أو خطة خمسية؟
أنت الوحيد الذي تمكن من تغيير معالم الوطن فبدا كأنه انتقام من مصر وشعبها وأرضها, ولم تكتف بكوارث لا حصر لها في أكثر من عقدين, بل إنك في مشهد مأساوي حزين, وتكبر سيادي في مواجهة رعاياك, واحتقار شديد البأس لأبناء أرض الكنانة, تقرر بعد اعداد وتهيئة وخطط محكمة وتفريغ السلطة من أي كبير أو طامح استمرار حكم مصر في صورة ابنك جمال, وازدراء كل المطالب الشعبية والشرعية والقانونية والدستورية والانسانية والدولية التي ترى حق الشعب في تقرير مصيره ونظام حكمه واختيار حاكمه وفقا لمساواة كل المصريين وأحقية أي منهم في ترشيح نفسه ومنافستك في مناخ من الحرية والديمقراطية والأمانة والوطنية
هل أنت خائف من رسالة تهديدية قد تأتيك على حين غرة يطالبك فيها اسياد العالم الجدد بالافراج عن آلاف المعتقلين الأبرياء, وباعطاء سلطة لرئيس الوزراء, وبكشف حسابات كل رجالك وأسرتك وولديك, وبتقديم كشف آخر لعشرات المليارات التي دخلت خزينة الدولة في العقدين المنصرمين وخرجت منها في مشروعات فاشلة, أو إلى حسابات اللصوص, أو في جوف حيتان الفساد, أو في مسكنات اقتصادية وتموينية لتهدئة أبناء انتفاضة يناير عام 77 حتى لا يتكرر المشهد في عهدك؟
دعني, سيدي الرئيس, أكون أكثر صراحة في مخاطبتك رغم معرفتي سلفا بأن نهجك في الابتعاد عما يصدع الرأس أثبت نجاحا فائقا, وأن السياج الأمني والرقابي الذي يحيط بك ويحميك ويبعدك عن شعبك لا يسمح لهمسة معارضة أو مخالفة أو غير ودية أن تخترق جدران القصر الجمهوري بعابدين, أو تمر سهوا على حُراسك وحُماتك ورجال أمنك ومستشاريك.
هل تعرف أن أحلام المصريين كلهم, تقريبا, قد تم اختصارها واختزالها وتضييق طموحاتها في حلم واحد يجمع شعبك من النهر إلى البحر, وهو رحيلك وانتهاء نظام حكمك, واختفاء كل الوجوه الموميائية التي التصقت بكرسي العرش في وجودك, وساهمت عمدا ومع سبق اصرار وترصد في محاولات اغتيال الوطن, وتناسوا, وتناسيت معهم, أن مصر العظيمة أكبر منكم جميعا, وأنها ستقوم, وتنهض, وتزيل عن جسدها الطاهر ما علق به من آثام, وستستمتع بخيراتها وخبرات أبنائها , وستطرد من ارضها وتاريخها كل من حاول تخريبها وتدميرها.
حلم مصري جميل وشفاف يحمل في طياته أحزان الأرض كلها, ويجمع كل أبناء وادي النيل الخالد, ويهفو ليوم تشرق فيه شمس دافئة وساطعة تنعشه نسمات خفيفة, يفتح فيه المصري عينيه الواسعتين فلا يراك, ولا يشاهد أثرا لوريثك أو شقيقه, ولا يعثر على أي من الذين لازموك, وأحاطوا بك, وبسطوا لك الحماية كما قمت أنت بحمايتهم, ليجد أمامه زعيما مصريا مطهرا بطمي النيل, وموجوعا حتى النخاع بآلام وأوجاع وعذابات أم الدنيا, فيخفف عنها, ويضمد جراحها, ويطارد سارقيها, ويأخذ بيدها إلى العالم الجديد, ويحارب الفقر والجهل والمرض والأمية, ويساوي نفسه بالمصريين كلهم, ويأمر باعادة كتابة دستور خلاق ومتحضر ومتمدن وعادل, ويمارس الديمقراطية الحقيقية التي ترى المصريين كلهم سواسية, وينهي عصر المتزلفين والمنافقين, ويمنح الصحافة حرية بناء الوطن معه, ولا يعين وزيرا أو محافظا أو مسؤولا كبيرا في أي منصب قبل أن يأتيه ملف المسؤول من المخابرات ومباحث أمن الدولة ومباحث الأموال نظيفا تماما من كل شبهة مالية أو اتصالات مشبوهة أو أمراض نفسية أو جرائم أو جنح أو سقطات أخلاقية.
ولا يتوقف الحلم المصري الجميل عند تلك المطالب لكنه يتسلل إلى كل بيت, ويمر على كل أرض صحراوية وزراعية, ويتوقف كثيرا عند الادارة العلمية السليمة والمتصلة بأحدث تكنولوجيا العصر في الكمبيوتر والكفاءات البشرية لينهل منها لمستقبل الوطن الجريح والمنهك والمتعب من طول فترة حكمك.
وحلم المصري في رحيلك أو هربك أو اختفائك أو حتى محاكمتك لا يعني أن دموع المصريين توقفت تماما, فعهدك شهد آلافا من انتهاكات حقوق المواطنين الانسانية, وتحت سمعك وبصرك وبرضاك ولذتك وشماتتك, فتح ضباط الشرطة سلخانات الشعب, وتم التعذيب, والتعليق من الأرجل, والصدمات الكهربية في مواضع العفة من أجساد رعاياك, والاعتداء الجنسي, وصب الكيروسين على الأجساد الضعيفة ثم اشعال النار بها, وتَمّت محاكمة أقل من واحد بالمئة من مجرمي وزبانية التعذيب. وتستطيع منظمات حقوق الانسان المصرية والعربية والدولية أن تمدك بقائمة طويلة بطول فترة حكمك إنْ أنكرت للحظة واحدة أن كرامة المصري في عهدك أقل أهمية من كرامة أي حيوان أليف في أوروبا, لكن الكارثة أنك تعلم أننا نعلم أنك تعلم!
قد يبدو لك أنك تمكنت من قتل الحلم المصري في زعيم يخلفك, وليس من صلبك أو من تلاميذك ومريديك, وأن جمال مبارك الذي فرضته علينا وعلى أجيال أخرى قادمة هو الخيار الوحيد فأنت تحتقر وتزدري شعبك كله, وتراه بملايينه السبعين لا يستطيع أن يقدم لبلده الطاهر أفضل من ابنك, وأن العبيد يسمعون ويطيعون سيد القصر, لكنك مخطيء, سيدي الرئيس, فقد رأيت بنفسك كيف تهاوى تمثال صدام حسين بعد أن كان أحد ولديه على مرمى حجر من حكم عاصمة العباسيين, ومع سقوط بغداد كما تسقط ثمرة ناضجة من شجرة عجوز في يد أو فم جائع, تم توجيه النداء فورا إلى عاصمة الأمويين بتغيير الدستور, واحترام حقوق الانسان, وممارسة الديمقراطية على هوى سيد البيت الأبيض وإلا فإن عصا رامسفيلد المطرزة بقسوة تشيني والمختبئة خلف لباقة باول والملطفة ببارفان كونداليزا رايس كفيلة بفتح أبواب سجن تدمر وتسريح آلاف المعتقلين منه, والبحث عن عدة آلاف من جثث قامت سرايا الدفاع بدفنها قريبا من السجن الشهير, وتسليط اسرائيل على دمشق .
كتبت لك من قبل مقالا تحت عنوان ( لا تصدقهم يا سيادة الرئيس!) أحدثك فيه عن مستشاريك ومعاونيك ووزرائك ورؤساء تحرير الصحف القومية الكبرى, لكنك, كعهدنا بك, لا تسمع إلا لصوت نفسك, ولا يصل إلى أذنيك صراخ موجوع, أو عذابات معتقل بريء, أو مطالب أرامل, أو استغاثات مواطنين, أو اقتراحات ادارية واقتصادية وأمنية وعلمية وأكاديمية وثقافية.
أعود إلى الحلم المصري الجميل والوردي والمتفائل برحيلك أو هربك, فأجده قد تمكن من الوجدان الشعبي كله, ولكنك لا تأبه ولا تكترث اعتمادا منك على استمرار البيات الطويل لرعاياك, والمهدئات التي يبتلعها رغم أنفه من أباطيل اعلامك, والضمير الميت أو القاسي لمثقفي مصر ومفكريها من الذين تطعمهم موائدك العامرة, وتستضيفهم طائرة الرئاسة, وتزداد حساباتهم في البنوك بفضل امتيازات القرب منك, أو التزلف إليك, أو طاعتك, أو تبرير استبدادك.
سيدي الرئيس حسني مبارك,
لا استطيع أن اتخيل لبرهة واحدة المشهد المصري الحزين والمتهاوى والمدمر عندما ترحل أو تهرب, بإذن الله تعالى, وتبدأ الحقائق في الانكشاف على رعيتك رويدا .. رويدا, ويتنفس المصريون الصعداء, ويظهر كَمُّ الزيف والخداع والتدليس والافك الذي مارسته أجهزتك لتحدث المصريين عن المن والسلوى, وعن معجزات قد تحققت وأخرى في الطريق!
ليس لدي تفسير واحد للكراهية التي تحملها أنت لشعبك ووطنك ورعاياك حتى أنك مكنت اللصوص والحيتان الجدد في تفريغ الوطن من خيراته, ثم لم تكتف بهذا, بل أصررت على احتقار أبناء هذا البلد المعطاء العظيم باحتكارك السلطة لك دون رقيب أو محاسب, وكلما ظننت أن الموت مؤجل لولاية أخرى قمت بالتجديد لنفسك, واستفتيت المصريين, وكنت أنت القاضي والحَكَم والخصم والجلاد, فنجحت في استفتاءات لولايات أربع, فالنتائج معروفة سلفا, ولم يتوجه إلى صناديق الاستفتاء أكثر من ربع عدد المصريين, ولكن رجالك قادرون على وضع أي نتيجة تراها مناسبة.
استطيع أن أحصي لك مئات الأسباب أو آلافها للتأكيد ولاثبات كراهيتك لشعبك ولمصر كلها, وأنك كنت تسعى فقط للذة السلطة وشهوتها, ثم استمرارها في أجيالك من بعدك, ولذا رفضت تعيين نائب لك, ومسحت أي سلطة أخرى تقف بجانبك, وجمعت حولك المنافقين والمقربين والمتزلفين والفاشلين, وأغضمت عينيك عن كل التجاوزات المتعلقة بكرامة المصريين, مع افتراض أنها لم تكن رغبتك أو ارادتك أو برضاك, أو هي تعليمات ملزمة من قصرك لتأديب المصريين وتعليمهم مباديء العبودية والطاعة والصمت.
أليست وجبات التعذيب والاهانة والركل والبصق على الوجوه والاعتداء الجنسي والحرق في أقسام الشرطة وبمعرفتك الشخصية كراهية للمصريين ولمصر الطيبة الصابرة؟
أليس ما حدث تحت سمعك وبصرك من نهب خيرات وأموال مصر في ولاياتك الأربع كراهية تحملها أنت للبلد الذي سلمك شعبه مقاليد حكمه, ومنحك سلطات مطلقة في مشربه ومأكله وحياته وموته وحاضره ومستقبله؟
أكثر من عشرين عاما وأنت, سيدي الرئيس, لا تملك رؤية واضحة وصريحة وواقعية وملزمة بسلطتك التنفيذية لصناعة دولة مؤسسات قائمة على إدارة سليمة وحديثة بضلعيها, الكفاءة والاستعانة بالتطور التكنولوجي الهائل؟
من يشاهد ما آلت إليه أوضاع الوطن في ظل قيادتك وحكمك لا يصدق أن هذا البلد يمكن أن يقوم من جديد, ولو قامت جهة محايدة تهتم بشؤون الادارة والحكم بزيارة لأهم مؤسسات الدولة في عهدك, الشهر العقاري, مجمع التحرير, محاكم الدولة, أرشيف مصر العصرية, خطوات استخراج ورقة رسمية أو شهادة أو تصدير مطبوعة أو تلقي بريد من الداخل أو الخارج, أو تقديم طلب لجهة رسمية أو تسلم بضائع في الجمرك, أو الحصول على وظيفة, لما صدق أننا في بدايات القرن الواحد والعشرين وننتمي لعالمنا ولعصرنا وزمن العولمة!
الادارة السليمة والعلمية التي لا يمكن لأي دولة عصرية أن تخطو خطوة واحدة للامام بدونها لم تكن على قائمة اهتماماتك, وربما طرحها عليك مستشار أو وزير أو محافظ أو خبير أو أكاديمي, لكن يبدو أن تخفيف معاناة مواطنيك تأتي في ذيل اهتماماتك.
مشكلتنا معك, سيدي الرئيس, تبدأ من فهمك لوظيفتك وهي في الواقع خدمة الشعب, لكنك تراها علاقة بين حاكم مطلق اليد في كل أمور الدولة, وبين شعب ما عليه إلا أن يطيع ويصفق ويستحسن ويهلل لانجازاتك العملاقة!
ومشكلتنا أيضا معك هي فهمك للمهام الموكلة برئيس الدولة, فظننت أنها تاج وصولجان ومواكب سيارات واستقبالات ولقاءات مع الزعماء وتجنيد كل مسؤولي الدولة الكبار لخدمتك, وتوديعك في المطار, واستقبالك لدى عودتك, والوقوف خلفك في الحفلات وافتتاح مشروعات وحضور مناسبات وطنية ودينية, لذا من أراد أن يبحث عن مسؤول كبير أو وزير أو حتى رئيس الوزراء ووزير الدفاع فعليه أن يبحث عنك أنت أولا, فكلهم في خدمتك, ويدير شؤون مكاتبهم وكلاء مساعدون أو رجال أمن أو عمال السنترال, ويضيع وقت كل منهم, وهو في الواقع وقت ضائع من الوزارة ومن خدمة الدولة, في مقابل أن يكون قريبا منك لعله يضمن البقاء في منصبه فترة أخرى قبل أن تأتيه ورقة بحجم الكف يذرف بعدها دمعتين على منصب ضاع, وهيبة تلاشت, وصوت خفت, ولا يملك من أمره إلا لقب الوزير السابق.
كتبت لك من قبل, سيدي الرئيس, عن لغز اختيارك للوزراء والمسؤولين الكبار والمحافظين, والتي لا يختلف مصريان في الوطن أو في الغربة على أنك لا تحسن اطلاقا اختيار رجال الدولة. يتناقل المصريون أحاديث صريحة عن غضبك وعدم رضاك عن الوزراء النشطين والأمناء والمخلصين والعاملين بجد ومثابرة من أجل شعب مصر العظيم, وقد فهموا سبب توليهم مناصبهم على أنها دعوة للعمل بشرف واخلاص والتقدم صوب الدولة العصرية والادارة السليمة العلمية.
وكانت المفاجآت تصدم أصحاب النيات الحسنة والساذجين والبسطاء, فإذا شمر الوزير عن ساعده, وقرر العمل من أجل الشعب فإن عمره الافتراضي الوظيفي يكون في حكم الأجل المرتقب,كما فعلت مع الدكتور ماهر مهران ( رحمه الله), والدكتورة نادية مكرم عبيد, والدكتور مصطفى السعيد, والدكتور اسماعيل سلام, والدكتور أحمد الجويلي وغيرهم ممن خرج مأسوفا عليه من شعبك.
أما من حقق فشلا ذريعا, وضربت الفوضى وزارته, واستشرى الفساد والمحسوبية والتراجع واهدار أموال الدولة في موقع عمله, فتقربه لك, وتدافع عنه, وتمد له في منصبه, أليس كذلك؟
عندما أصبحت عزبة ماسبيرو نموذجا للفساد والتخلف والمحسوبية والرشوة وتراجع الاعلام المصري سنين عددا, قربت إليك الوزير, وكاد يصبح الرجل الثاني وهي كلمة ممنوعة في قاموسك, فأنت الأول والآخر والظاهر والباطن, وبيدك الأمر والنهي والسلطة ومستقبل مصر وتحدد أيضا للمصريين فرعونهم القادم ولو استرحموك واستجدوك أن تترك لهم حرية اختيار زعيمهم بعدك, فلن تنصت إليهم لأنك ترى المصريين كلهم أقل شأنا, وغير ناضجين مثلك ومثل ابنك جمال, وأنك وصي عليهم, تحدد لهم ما يأكلونه في بطونهم من سموم, وما يشربونه من مياه غير نظيفة, وما يتنفسونه من هواء ملوث, لكنك تترك لهم حرية الاختيار بين الانتحار وبين الصمت على ظلمك اياهم!
عندما يفتح التاريخ صفحاته لمؤرخي عهدك, مع افتراض أن الثلاثين عاما القادمة من حكم ابنك جمال مبارك لن تمسح من ذاكرة الشعب تفاصيل المشهد المباركي الأول لأربع أو خمس ولايات, ستكون علامات الاستفهام أكثر عددا من الكلمات, ولن يفهم مصري واحد بعد عدة عقود سبب احتفاظك بالفاشلين والمعطلة قدراتهم الذهنية والذين تحوم حولهم الشبهات؟
لماذا أعطيت الضوء الأخضر لضباط الشرطة في طول مصر وعرضها باهانة المواطنين, وتعذيبهم, والحط من كرامتهم, والاعتداء عليهم, واعتبارهم كما مهملا في دولتك الديمقراطية؟
لماذا تحتفظ في سجون الوطن ومعتقلاته بآلاف الأبرياء لمجرد شبهات خلافات أيديولوجية أو انتماءات لجماعات دينية أو سياسية, وذلك دون محاكمة عادلة؟
لماذا حكمت مصر الطيبة والمسالمة التي يطيعك أهلها طاعتهم للفرعون بقانون الطواريء العسكري, ورفضت كل مطالب الشعب, الذي من المفترض أيضا أنك تمثله, برفع القانون, والغاء مَحاكمه العسكرية, وعودة الحياة الطبيعية المدنية؟
لماذا وضعت أصابعك في أذنيك كلما سمعت عن أوجاع المصريين وآلامهم وأحزانهم وبؤسهم في عهدك, وتمنياتهم أن ترحل أو تستقيل أو حتى تهرب, فقد بلغ الغضب حده الأقصى, وفي نفوس المصريين كراهية لحكمك وعهدك لم تشهدها مصر من قبل؟
لماذا استهزأت بمشاكل وهموم أبناء وطنك ورعاياك التي نشرتها صحف ومطبوعات لاثنين وعشرين عاما, وبلغت عشرات الالاف من القضايا العاجلة والخطيرة, فلم تعرها اهتماما, ولم تبد اكتراثا لأهميتها, وظننت أن هذه ليست مهمتك أو وظيفتك أو شروط المصريين عليك قبل أن تصبح رئيسهم وزعيمهم وفي خدمتهم؟
لماذا لم تضع حلا أو نصف حل لأخطر مشاكل الوطن, أي مئات الآلاف من القضايا المعلقة في المحاكم أو التي تنتظر حكما بطيئا أو موت أصحاب القضية, ولو كانت الادارة السليمة العلمية والعصرية أحد اهتماماتك لما شهدت مصر دموع أبنائها بهذه الكثافة الفيضانية, واتعجب من ردود فعلك على أوجاع شعبك, كأنها تسعدك أو تبهجك أو تحقق أهم أهداف حكمك واستمرارك القسري في ولايات لانهائية لأسرة مبارك؟
لماذا عجزت, سيدي الرئيس, عن رفع وصمة العار في عهدك, لتنقل مليونين أو ثلاثة أو أكثر من سكان المقابر إلى منازل لائقة بآدميتهم, ولن تحتاج لأكثر مما نهبه بعض لصوص عهدك من بنوكنا الوطنية, أم أنك ترفض أي مشروع يزيل الغمة عن المصري ويضعه مع باقي الشعوب, حتى الفقيرة التي تأتي العزة والكرامة في أولويات الحكم لديها؟
لماذا رفضت طوال فترة حكمك فكرة مشروع قومي ضخم تشترك فيه كل مؤسسات الدولة لمحو الأمية, ونقل ملايين من رعاياك إلى عالم الكلمة المقروءة والتي بدونها لا تستقيم حياة عصرية, ولا يلمس بلد ركب الحضارة أو يشم رائحتها؟ أم أن الأمية في صالح استمرار عهدك, وضمان لصناديق اقتراع مملوءة بأصوات لا يعرف أصحابها برامج المرشحين أو حتى كتابة أسمائهم؟
لماذا تظن أن وظيفة أو مهمة رئيس الدولة الرئيسية لا تخرج عن اطار الصورة البروتوكولية الظاهرة في الاستقبالات والحفلات والسفر والمحادثات الثنائية, وما أسهل هذه الأمور, وتنسى أو تتناسى أن الزعيم الحقيقي هو الذي يعيش مع شعبه, ويتلمس أوجاعه, ويضع همومه قبل العالم كله, ويحل مشاكله, ويحافظ على خيراته وثروته, ويفسح المجال لأصحاب الكفاءات والقدرات, ويستخرج من بطن الوطن كنوزا من الأدمغة العبقرية, يحافظ عليها ويمنحها الأمن والسلام والمال والوظيفة والمختبر, ويقربها إليه, وينصت إليها, ويستنصحها في كل أمور وشؤون الدولة في الوقت الذي تنفر نفسه العفيفة من المحنطين خلف الزمن وخصوم التقدم وعاشقي البيروقراطية وأعداء الخير للشعب؟
سيدي الرئيس,
هل تريد أن تسمع مني الحقيقة التي لم ينقلها إليك إنسٌ أو جان من أقرب مستشاريك ومخلصيك وحوارييك؟
لم يفشل زعيم مصري منذ عصر النهضة في عمله ووظيفته وقيادته وحٌكمه كما فشلت أنت, ولو كان في الأرض عدل لما استمر حكمك عاما أو بعض عام!
لكن من حسن حظك أنك تحكم شعبا طيبا يظن بفرعونه العبقرية والقداسة والاخلاص, ويفرش أمام الطغيان حُسن النية, ويبرر الخطأ, ويمنح الزعيم وقتا اضافيا قد يمتد بطول العمر أملا في يوم مشرق جميل قد لايأتي حتى يلج الجمل في سم الخياط!
كنت أظن أنني واحد من قلة نادرة تغرق حتى أذنيها في حلم اليقظة بانتهاء عصرك وأرسم في مخيلتي مواصفات الزعيم القادم, وأكاد أرى رؤي العين الصقرية المشهد المصري في عهده يتغير, وتشرق الشمس, ويكتشف عشرات الالاف من العباقرة المصريين الذين يسابقون الزمن لوضع مصر على خريطة العالم الجديد, ويلهب حماس أبناء الوطن, ويسد كل منافذ النهب والسرقة والاختلاس, ويحافظ على أموال الدولة, ويمنح مشروعات الانتاج الأولوية وليس فقط مشاريع الخدمات وثقافة التسول.
واكتشفت, سيدي الرئيس, أن هذا الحلم ليس قاصرا على صاحب هذه الكلمات فقط, لكنه يمتد إلى وجدان كل مصري, تقريبا, وأنا على يقين من أنك تستطيع أن تحصي عدة مئات أو آلاف لا يزالون يتمسكون بقيادتك في مقابل عشرات الملايين من شعب مصر العظيم يرفضون عهدك وحكمك ووراثة العرش لابنك جمال الذي اعددته لأكثر من عشرين عاما, وتركت منصب نائب الرئيس خاليا لعل حلم المصريين فيمن يخلفك يبتعد كثيرا عن دستورية تولي النائب في حال زيارة مفاجأة من ملك الموت, فكان جمال مبارك الذي يتعامل معه رجالك ووزراؤك والاعلاميون والمثقفون تعاملهم الحقيقي والواقعي مع رئيس دولة قادم, ومفروض عليهم, ولا حيلة لهم أو مخرج إلا بالقبول والاذعان والرضوخ لنهاية خطة محكمة وضعتها أنت لسنوات طويلة, واغلقت كل المنافذ الأخرى, ولم يبق لنا غير التسليم بتسليم السلطة والعرش والتاج والقصر ورقاب المصريين وخيراتهم وثرواتهم ومستقبل أبنائهم لابنك, فهي رغبتك ولو قامت على أنقاض الوطن كله!
سيدي الرئيس,
كل زعماء العالم وحتى أكثر المستبدين منهم والطغاة يدافعون عن كرامة مواطنيهم في الخارج أو يتظاهرون بالدفاع عنها أملا في تحسين صورة الحكم إلا أنت فقد رخص المصري في عهدك, ولم يعد يهم أن يتم اعتقاله أو ضربه أو سرقته أو تصفيته من الغرب والشرق على حد سواء.
غضبت غضبا شديدا عندما قرأت قبيل الحرب الأمريكية على العراق بأن هناك تعليمات منك باعادة المصريين من العراق وهم تقريبا مليون أو أكثر من رعاياك فضَّلوا العيشَ في عراق محاصر وتحت سلطة طاغية وأجهزة أمنه الدراكيولية عن العودة إلى وطنهم في ظل حكمك.
ثم أعلن العراق أنهم أقل من أربعمئة ألف يفضلون العيش مع اخوانهم العراقيين في الفقر وعدم الأمان وتحت تحت قنابل السيدين بوش وبلير!
ثم أعلنت الحكومة المصرية أنهم أقل من خمسة وستين ألفا سيتم انشاء مكتب خاص برعايتهم في الأردن, رغم أن مخابرات المملكة الهاشمية تضرب المصريين وتمتهن كرامتهم.
ولم يعد إلى مكتب الرعاية أكثر من بضعة آلاف من النساء والأطفال فالمصري في أي مكان وتحت أي ظروف لا يصدقك ويفضل العيش مع كفيل يأكل لحمه ويستغله, أو في سجن دولة أوروبية , أو معرضا حياته للخطر في مركب قديم مثقوب ينشطر نصفين قبل أن يصل إلى شاطيء دولة أو جزيرة بعيدة عن الوطن الأم .
أن يكون هناك مليون مصري يتذكرهم زعيمهم قبل الحرب بعدة ساعات أو تكتشف وزارة القوى العاملة أنهم خمسة وستون ألفا فلا يهم, ومنذ متى تكترث أنت, سيدي الرئيس, بمواطنيك ورعاياك وأبنائك المصريين؟
لو كانت البطالة بين المصريين, شبابا وكهولا, هي الأزمة الوحيدة في عهدك لكانت سببا في اعتزالك الحكم, وعودتك مواطنا عاديا أو رئيسا سابقا أو قائدا عسكريا متقاعدا, ولكن هل سمع أحد عن زعيم مستبد اختار الانسحاب بهدوء إلى الحياة المواطنية اليومية؟ باستثناء حالة عبد الرحمن سوار الذهب فلا يتخيل العقل العربي أو الافريقي زعيمه المبجل وقد عاد إلى صفوف الجماهير يشاهدونه, ويلمسونه, ولا يهتفون له بالروح والدم فداء لطلعته البهية!
البطالة في عهدك كارثة أشد هولا من عدة حروب مجتمعة, وأكثر تأثيرا من بضعة هزائم, وأشد الأدلة والشهود وضوحا وصراحة عن فشلك في وضع تصور عملي لانهاء معاناة الملايين من العاطلين, فمستشاروك يوحون إليك بزخرف القول والاتيان بحجة أن البطالة تتساوى في كل دول العالم, وكأن مصر مثل السويد, وأوغندا لا تختلف عن آيسلندا, وفنزويلا تتشابه أوضاعها مع سويسرا؟
في عهدك عرفت مصر بيانات رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة التي يصعب على المتابع أن يعثر فيها على كلمة صدق واحدة, وتبدو كلها كأنها خارجة من رحم صناديق الانتخابات المزورة, وأنت تعلم, سيدي الرئيس, أنها أرقام خيالية وكاذبة وملفقة , وشهادة زور علنية باسم حكومتك, ولا يصدقها مصري عاقل, لكنك تراها أمرا ضروريا لاستمرار لعبة امساك السلطة ولو تهدم الوطن على أبنائه, فمادمت أنت في الحكم مطلق اليدين, يقدسك الخائفون, ويتحدث عن انجازاتك العملاقة الوهمية الجبناء من المثقفين, ويبرر فشلك مخضرمو الصحافة المصرية من مكاتبهم العاجية التي تطل على مدينة الألف مئذنة, فالأمل ضعيف في أن ينهض الوطن من كبوته قبل أن ترحل أو تستقيل أو تهرب أو ينفجر غضب جماهيري عارم لا يحتاج إلا لصيحة واحدة كالتي اطلقها واحد من الرومانيين أمام قصر نيكولاي تشاوشيسكو فتوحدت بها كل الجماهير المحتشدة في وقت واحد.
كل الأشياء والخسائر المادية تهون, ويتم تعويضها بفضل عبقريتي المكان والزمان لشعبنا المصري, لكن التخريب المتعمد في النفس المصرية, والعمل بهمة ونشاط على صناعة سلوكيات جديدة ومشينة وتسولية وطفيلية هي سمة مميزة لعهدك, ولا يستطيع مصري واحد أن يتعرف من جديد على مشهد الوطن ومواطنيه بعد أكثر من عقدين من حكمك.
سيدي الرئيس,
مرة أخرى أسألك وفي نفسي مزيج من الحزن والغضب, ماذا فعلت بمصر وشعبها وأرضها وحضارتها وثقافتها وخيراتها؟ عندما يحاكمك التاريخ, لن يقف أمام النهب والسرقة والفساد والقمع والقهر وظلم الناس أطول من وقفته مندهشا أمام قدرتك العجيبة على التسلل بكل أجهزتك داخل النفس البشرية لتعيد صياغة سلوكيات مصرية وفقا لخطة محكمة تعجل في انهيار الدولة, وخلق حالة من اللامبالاة أمام هموم الوطن, مما جعل المصريين يخرجون في مظاهرات حاشدة تعتبر طاغية العراق بطلا, أو ترفع صور محمد سعيد الصحاف, أو تطالب بترك العراقيين تحت أحذية طاغية وولديه, لكنها لا تطالب ولا تقترب من قانون الطواريء المصري أو التعذيب في سلخانات الشرطة أو المزيد من حقوق المواطنة أو الافراج عن آلاف الأبرياء في المعتقلات أو ايجاد فرض عمل لستة ملايين شاب أو الحفاظ على كرامة المصريين في الخارج!
ديمقراطيتك, سيدي الرئيس, أكثر سوءا من ديكتاتورية الكثيرين, فأنت تترك الصحافة تكتب, وتنشر, ويعترض المثقفون, وينتقد أصغر صحفي رئيس الوزراء وكل أعضاء حكومته, لكنك ترفض الشق الآخر الذي بدونه لا تستقيم أمور دولة, أعنى الاستماع والاهتمام والاستجابة للمطالب العادلة.
عندما فضح الدكتور المستشار وشيخ القضاة يحيي الرفاعي جهاز العدالة في عهدك والذي تسرب الفساد أيضا إليه, سقطت ورقة التوت عن نظامك, وبلغ اليأس الحناجر من حصول المصري على حقوقه العادلة ولو في قاعات الجهاز الشامخ لقضائنا العادل والنزيه.
صدقني, سيدي الرئيس, فأنا كغيري لا نفهم ولا نستوعب رؤيتك أو أفكارك في تسيير أمور الدولة, وعندما قلت في تصريح لك عقب انشاء فندق ضخم بأن قيمة المشروع الناجح تكمن في تشغيله لعدد من الشباب وصلت الرسالة إلى الجميع بأنك لا تفرق بين المشروع المنتج ونظيره الخدماتي, ولو كنت تفرق, سيدي الرئيس, لكان بامكانك منذ توليت الحكم أن تصنع من مصر قلعة الانتاج والتصدير والاكتفاء, خاصة وأنك تحكم شعبا قادرا على أن يمدك ليلا ونهارا بعلماء وخبراء وأكاديميين وعباقرة في كل المجالات.
وحدث العكس, فقد طاردهم عهدك وطردهم من الوطن وفضل عليهم المتخلفين والمعتوهين والمتزلفين والبيروقراطيين, وتم تفريغ الوطن رويدا .. رويدا في هجرة متدفقة لأدمغة مصرية تستطيع أن تصنع المعجزات.
قطعا لا تملك مشروعا للقضاء على البطالة غير بيانات هلامية غير واضحة من رئيس الوزراء وأنت لا تعلم, أو ربما تعلم, أن نسبة الانتحار في عهدك الميمون اقتربت من نقطة الكارثة وأنت تملك عزة نفس شديدة الاستعلاء, ولا تريد أن تعترف بفشلك, بل تعد ابنك جمال مبارك ليخلفك, ويحرم المصريين من حرية اختيار زعيمهم, ويمسح من ذاكرتهم في ولاياته الأربع أو الخمس أو الست القادمة أي أثر لسلبيات عهدك, فالتاريخ دائما يصنعه واحد من اثنين, إما القصر أو المنتصر .
ولكن خريطة المنطقة, سيدي الرئيس, تقوم باعادة رسمها القوة العظمى, وأمريكا ليس لها أصدقاء أو أوفياء أو خدم أو حشم, فقد يسلمك مدير مكتبك رسالة خطية من السفير السامي الأمريكي بالقاهرة( وكل سفير أمريكي في بلد عربي يحمل ضمنيا هذا اللقب ) وتطلب منك الرسالة الممهورة بتوقيع سيد البيت الأبيض اجراء انتخابات, ورفع قانون الطواريء, والسماح للجان حقوق الانسان بزيارة السجون والمعتقلات, ومحاسبة كل ضابط شرطة عذب أو قتل أو أشعل النار في جسد مواطن, والكشف عن عشرات المليارات التي دخلت الخزانة المصرية وتبخرت في هواء القاهرة أو سقطت سهوا في جيوب وحسابات المسؤولين ورجال الأعمال ونواب الكيف وأقرباء الكبار!
هل صحيح أن أسرتك الكريمة أكثر ثراء من ملايين المصريين المطحونين فقرا وفاقة وقهرا؟
ماذا لو اضطر رجل الأعمال علاء مبارك إلى كشف حساباته كلها, وشراكته مع الآخرين التي جاء بعضها طوعا وأكثرها كرها؟
سيدي الرئيس,
لماذا لم تشرح لشعبك ولو مرة واحدة سببا يتيما لاحتفاظك سنوات طويلة بوزير أو محافظ أو معاون على قدر ما تستطيع مصر الولادة دائما ( وفقا لتعبير أحمد فؤاد نجم ), أو سببا لتغييرات وزارية, أو اقالتك وزيرا وهو في الخارج أو على متن طائرة أو اثر نجاحه في عمله الذي أوكلته إليه تترك اللصوص ينهبون خيراته؟
في عهدك, سيدي الرئيس, تهاوت بناءات اكتسبها الشعب عبر عشرات السنوات من الجد والجهد والابداع, فليس فقط حق المواطن في علاج رخيص بمستشفيات الدولة, أو تعليم في مدرسة متقدمة ونظيفة ولائقة, أو دواء صالح لآدميته يشتريه من صيدلية ولا يثقل ميزانيته المتواضعة, لكنك في عقدين تمكنت من صناعة اعلام المسلسلات ومتابعة انجازات الرئيس, وقتلت السينما المصرية, مفخرة بلدنا, والتي كانت تنتج في العام تسعين فيلما فانتهت إلى ثلاثة أو أربعة أفلام, وجعلت مصر كلها في خدمتك, مسؤوليها وثقافتها وندواتها ونشرات أخبارها ورجال أمنها وسياستها ورؤى مثقفيها ووسائل اعلامها ومعرض كتابها.
في عهدك, وقع ظلم بَيّنٌ على أشقائنا أقباط مصر, ولم يحصلوا على حقوقهم الطبيعية والمواطنية الكاملة, واكتفيت دائما في حكوماتك المتعاقبة باختيار واحد أو اثنين في وزارات غير سيادية, واختفت الكفاءات القبطية العظيمة وفخر مصر من المناصب الكبرى في الدولة والقيادات الاعلامية والثقافية والبرلمانية والمستشارين, ثم جاءت كارثة أحكام قرية الكشح التي استشهد فيها أكثر من عشرين قبطيا مصريا, واختفى القتلة تحت رداء العدالة الغائبة, وصدرت أحكام القضاء منحازة تماما للمسلمين في وطن من المفترض أنه لا يفرق بين مواطن وآخر وفقا لدينه أو مذهبه أو عقيدته, وصعدت أرواح الأقباط الطاهرة إلى بارئها تشكو ظلمك إلى العلي القدير, وتتذكر قول نبينا الكريم محمد بن عبد الله, صلوات الله وسلامه عليه, من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة, وقوله: أوصيكم بالقبط خيرا.
سيدي الرئيس,
هل جربت مرة واحدة أن تحب مصر وشعبها الطيب ونيلها وتاريخها وحضارتها وفنونها وثقافتها وتثق في قوي الابداع فيها؟
لا أظنك قد فعلت هذا, ومن يتأمل المشهد المصري في اثنين وعشرين عاما, ويذرف دموعا دافئة على هذا الانهيار المتواصل والمستمر والمتعمد لا يخالجه أدنى شك في أنك تسعى فقط إلى السلطة والنفوذ وتوريث الوطن لابنك جمال وجعل أسرتك فوق المصريين كلهم وتقسيم هذا البلد الطيب إلى قلة من الأسياد وكثرة من العبيد!
الغلاء, سيدي الرئيس, سرادق يتلقى فيه الشعب العزاء في رحيل كل الأزمنة التي سبقت عهدك ليبقى زمنك شاهدا على القهر والقمع وطحن المصري والحط من كرامته ونهب خيراته بفضل اللامبالاة التي ميزت عهدك لكل ما يسيء للمصريين أو يزيد من مأساتهم وفقرهم وآلامهم.
ومع امساك القطب الواحد في البيت الأبيض العصا والتلويح بها لكل الأنظمة في عالمنا العربي, وارتعاش الكثيرين من الزعماء المستبدين, والأرق الذي أصاب الطغاة وأجهزة القمع وأحزاب السلطة, يبقى الأمل في أن يعجل خوفك من أن يأتي دورك فتأمر برفع الظلم عن الشعب, واغلاق المعتقلات, والترحيب بمنظمات العفو الدولية, واجراء انتخابات رئاسية يتساوى فيها جمال مبارك مع مرشح للرئاسة من اليساريين أو بقايا الشيوعيين أو الوفديين الجدد أو الاخوان المسلمين أو الأقباط أو المستقلين, وتراقب الانتخابات لجنة دولية نزيهة.
وربما يزداد خوفك فتأمر بمطاردة اللصوص وناهبي أموال شعبك وتكشف حسابات رجالك ووزرائك وأقربائهم وأسرتك وولديك!
ومع ذلك فلا يتمنى أي انسان شريف أو عاشق لمصر أن يأتي التغيير من الاستعمار الأمريكي القبيح, أو تخضع أنت لأوامر الكاوبوي, أو يمهلك سعادة السفير الأمريكي السامي حتى السابع عشر من الشهر لحل الحزب الوطني والغاء قوانين الطواريء وتعيين نائب وتحديد موعد للانتخابات ومحاكمة مجرمي التعذيب في أقسام الشرطة وتغيير النظام القضائي واحترام الدستور وعدم توريث العرش لابنك والكشف عن مصير عشرات المليارات التي ضاعت في سنوات الفساد منذ توليك الحكم.
هل عرفت الآن, سيدي الرئيس, لماذا أرجوك واستحلفك بالله أن تهرب قبل أن ترى بأم عينيك طوفانا من الغضب الشعبي لا تستطيع أن تقف في وجهه ساعة أو بعض الساعة؟
هل الديون الخارجية التي بلغت أربعين مليارا أو خمسين أو حتى مئة سر من أسرارك الخاصة لا يطلع عليها الشعب؟
هل تعرف, سيدي الرئيس, أن الديون جريمة في حق الأجيال القادمة التي ستتحملها من معيشتها وميزانيتها فيورث جيل حاضر أجيالا قادمة متاعبه ومشاكله ونتائج فساد كباره؟
قرأت عن ضرب النائبين حمدين الصباحي ومحمد فريد حسنين ضربا مبرحا والقائهما في تخشيبة قسم الشرطة لأنهما مارسا حق التظاهر في عهدك ودافعا عن شاب جامعي صغير, ولكن هل يحترم رجال أمنك السلطة القضائية حتى يحترموا السلطة التشريعية؟ إن الذي تصدر أحكام البراءة في حقه تقوم وزارة الداخلية بتجديد اعتقاله بناء على توجيهاتك, ومع ذلك فإنك تقف أمام الله, عز وجل, وينصت إليك العالم كله وتزعم أنك تحترم القضاء!
هل سمعت عن طالب هندسة المنصورة الذي هتك عرضه ضابط أمن في قسم الشرطة, ولم يقدم الضابط للمحاكمة ولن يجرِؤ أحد على تقديمه للعدالة, فكل زبانية التعذيب تظللهم حمايتك؟أم هل سمعت عن المحامي جمال عبد العزيز ولفيف من المحامين الذين تم اعتقالهم وضربهم بعد حبسهم بتهمة ممارسة حق التظاهر, وهدد ضابط الشرطة المحامي المذكور بأن يضع العصا في فتحة شرجه, ويذيقه ألوانا من العذاب لم يسمع بها من قبل؟
لن أحدثك عن سياستك الخارجية والتي صغرت بها مصر العملاقة في عهدك, ولم يعد دورها يتعدى وساطة بين الكيان الصهيوني الاستيطاني وبين المقاومة الفلسطينية المشروعة, أو الضغط على الفلسطينيين بطلب أمريكي لوقف العمليات الاستشهادية, أو تلقي ثمن أمركة مواقف مصر العظيمة أو تصريحات منك في كل الحروب والأزمات بأن الوضع خطيرا جدا وسيؤثر سلبا على كل دول المنطقة وهي تصريحات اكليشية لم تتغير في عشرين عاما؟
لو قدر لك واطلعت على صدور أبناء شعبك ومشاعرهم نحوك لخرجت من الباب الخلفي لقصر عابدين ووليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا.
وتظل الكلمة الأخيرة والصادقة للتاريخ الذي سيكشف حجم المعاناة الجحيمية للمواطن المطحون والمقهور في عهدك بفرض أن جمال مبارك لم يصل إلى الحكم ويأمر هو مرتزقة القلم بكتابة تاريخ والده وفقا لهواه, ويتم التزوير في أوراق وطن حزين!
أتعجل يوم رحيلك وابنك وأراه كأنه عرس لبهية .. أم الدنيا, وتحرير للوطن, وانقاذ لشعبنا الصابر العظيم قبل أن تشهر مصر افلاسها. لذا استحلفك بالله, سيدي الرئيس, أن تهرب قبل أن يطلب منك الأقوى تقديم كشف حساب عهدك, ولحظتئد ستعرف أن نصيحتي لك هي الأغلى والأصدق
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج