د. عوض السليمان
أجبرنا حكامنا وزعماؤنا في الوطن العربي على الاعتقاد وبشكل قطعي أن أمريكا هي من تقرر كل شيء كما تريد وتشتهي، وليس علينا نحن العرب إلا السمع والطاعة. وبالفعل بدأ كثير منا يعتقد أن أمر الدنيا مربوط بالإدارة الإرهابية في البيت الأبيض. فهي تأخذ نفطنا وتقتل أبنائنا وتستحيي نسائنا ويتوجب علينا على الدوام أن نبارك هذه الخطوات وننتقد أنفسنا ونوجه اللوم لديننا ومعتقداتنا وتاريخنا ونجلد ذاتنا بل ونفتخر بما تقوم به أمريكا من تدمير لبلادنا ونهب لثرواتنا.
ما قام به الرئيس البوليفي مؤخراً من طرد السفير الأمريكي من بلاده بل وبفضيحة إعلامية، أثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن حكامنا يكذبون علينا ويمكرون الليل والنهار، حتى نكون تبعة لأمريكا وسجادة لأحذيتها.
بوليفيا ليست بالدولة الكبيرة، أو القوة الاقتصادية الهائلة، فعدد سكانها لا يتجاوز ثمانية ملايين نسمة، ولكن كرامة الشعب البوليفي رفضت قطعاً السماح للبيت الأبيض بالتدخل في الحياة السياسية للبلاد، فقامت وبمنتهى الجرأة والوضوح بطرد السفير الأمريكي.
قبل أن يصبح القرار حبراً، وقبل أن تصل نسخة منه إلى الحكومة الأمريكية،أعلن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز مؤازرته لبوليفيا وأعلن طرد السفير الأمريكي من بلاده أيضاً. وفي أقل من ثمان وأربعين ساعة انضمت هندوراس إلى فنزويلا وبوليفيا ورفضت قبول اعتماد السفير الأمريكي الجديد على أراضيها.
لقد عرفنا الآن أن أمريكا لا تقرر، إنما يقرر الثوار ما يريدون، وإنما لا يعرف الجبناء معنى الثورة ولم يسمعوا بها.
عدد السكان في الدول الثلاثة مجتمعة لا يصل إلى نصف عدد السكان في مصر العربية، والثروات الاقتصادية لهذه الدول مجتمعة أيضاً تساوي الثروات في دولة عربية خليجية منفردة. الفرق بيننا وبينهم أن لديهم حكاماً ثوراً. لا يقبلون أن تقرر أمريكا حياتهم وطريقة شربهم وأكلهم ونومهم.
أضف إلى هذه المقارنة، أن دول أمريكا اللاتينية هذه على مرمى حجر من الولايات المتحدة الأمريكية ومع هذا فإن الإدارة الإجرامية في واشنطن لا تجرؤ على تجاوز حدودها مع هذه الدول، بينما تأتي الأساطيل والجيوش الأمريكية من وراء البحار ومن بعد آلاف الأميال لتحتل العراق، وبتأييد وتسهيل كامل من الدول العربية ومخابراتها.ثم تتجرأ أمريكا على إعدام الرئيس الشرعي الشهيد صدام حسين يوم عيد الأضحى إذلالاً للعرب والمسلمين قاطبة ومع ذلك تلق التأييد من حكامنا وزعمائنا.
في الوقت الذي تقوم فيه هذه الدول الفقيرة بطرد سفراء الشر من أراضيها، تقوم الحكومات العربية باستقبال جورج بوش ووزير خارجيته، بأكاليل الزهور والأوسمة، بل والرقص بالسيف العربي.
وإذا كانت فنزويلا تجرأ على طرد السفير الأمريكي فإن حكومات عربية لا تجرأ على الاتصال بسيادة هذا السفير هاتفياً خوفاً على راحته، بل وتنتظره حتى يتصدق هو عليها ببعض كلمات تكون عادة أوامر ونواهي وتحكم بأدق التفاصيل الداخلية في هذه الدول.
لقد تعلم “بوش” في بلادنا صيد الصقور، وأتقن الرقص التقليدي بالسيف ، كما أصبح ذواقة للأطعمة العربية من ثريد وكبسة.
لم يحدث أن التقى رئيس عربي بآخر قبل أن تمر عليه “رايس” أولاً وتحدد له ما يقول، حتى غدونا نسمع باسمها أكثر مما نسمع باسم رؤسائنا أنفسهم.
ففي كل يوم تصل “حمالة الحطب” إلى بلادنا ومن على أرضنا تصرح بما تريد غير آبهة بنا أو بحكامنا. فعلى أرض العروبة أخذت أمريكا القرارات باحتلال العراق، ومن أرض العروبة دمرت الصواريخ الأمريكية مساجد العراق . ومن أرض العرب صدرت القرارات الصهيونية بمحاصرة غزة وتجويع أهلها، ومن أرضنا أيضاً تم الاتفاق على محاصرة سوريا.
وإذا غضبت أمريكا على دولة عربية أو إسلامية وجب على الدول العربية كلها أن تشارك أمريكا غضبها، وقبل أن ينهي “بوش” خطابه، يسارع الإمعات في القصور العربية، لنقد موقف تلك الدولة أياً كان وحول أي موضوع، وبعد يوم واحد ينضم إلى تلك الإمعات، إمعات أخر هم علماء السلطان الذين يفتون بتكفير أهل وحكومة الدولة المغضوب عليها. وبعد أسابيع تقوم الدول العربية مع أمريكا والصهيونية بتحالف عسكري للتدخل في ذلك البلد والتمتع بقتل أبنائه!!.
هذا ما حدث مع العراق، وما قد يحدث مع أي دولة عربية أخرى حتى ولو كانت نفسها حليفة لواشنطن يوماً من الأيام.
ولكل ما تقدم، فأعتقد أن دولاً عربية تعد الآن خطة سياسية جديدة تقوم بموجبها بمقاطعة فنزويلا وبوليفيا وهندوراس، وأعتقد أن وزارات المالية في عدد من الدول العربية وضعت برنامجاً لدعم حركات التمرد في تلك الدول بهدف الإطاحة بأنظمتها المعادية لأمريكا.
وإذ أقول هذا فإنني لا أبالغ، ولا أقوله على سبيل التهكم، فقد دمر العراق وشرد أهله، بمال عربي أغدق دون حساب على جيش الولايات المتحدة لتقوم بهذا الفعل الشنيع الذي لن ينساه التاريخ. وكذلك فإن احتلال فلسطين والاستمرار في احتلالها جاء بفضل المال العربي والنفط العربي الذي يقدم لأمريكا والصهاينة، لتصنع به الأسلحة التي تستخدمها ضد شعوبنا.
شتان فنزيلا والدول العربية، لقد عرف كثير من الناس اليوم أن دولاً صغيرة هي التي تقرر إذا كان حكامها ثواراً، وليست الولايات المتحدة، التي لا تزال مصدومة من أثر القرارات بطرد سفراءها، فلم تجد طريقة إلا التشكيك بادئ الأمر بجدية تلك القرارات، وبدل أن تبدأ أمريكا بدأ الثوار وأخذوا قراراتهم فطوبى لهم. بينما يستطيع السفير الأمريكي في أي دولة عربية أن يغير الحكومة أو أن يعزل وزيراً أو مسؤولاً في تلك الدولة وإن لم تصدقوا فاسألوا الجامعة العربية المغدورة.
اللاتينيون هم الذين قرروا وكذلك ثوار العراق ومجاهدوها هم الذين يقررون، وقد قرروا متابعة الجهاد حتى طرد آخر جندي أمريكي في العراق، وسيكون ذلك قريباً إن شاء الله. والمقاومة الشريفة في كل مكان هي التي تقرر ولن يقرر عنها أحد، وليستمتع حكامنا بصورهم مع “جورج بوش” وابتسامات “رايس” في وجوههم، وهنيئاً لحكامنا بالوجبات التي أكلوها مع مجرمي الإدارة الأمريكية، تلك الوجبات الملطخة بدم الأبرياء. هنيئاً لهم خاصة بلعنة التاريخ واحتقار البشرية جمعاء
د. عوض السليمان. دكتوراه في الإعلام – فرنسا