من الأمور الطبيعية والمسلمات البديهية أن الشعوب تفرز أنظمة للحكم فيها مبنية على أساس من الموروث الفكري والعقائدي الذي تنشأ عليه وتعمل خلفيتها الحضارية وتجاربها السابقة على تكوين ذلك النظام وطريقة أداء مؤسساته ولا يمكن في أي حال من الأحوال استيراد أو فرض أو تبني دستورا أو نظاما وتطبيقه كصيغة جاهزة بدون الرجوع إلى الخلفيات التي اشرنا إليها لخلق حالة من التوائم بين الشعب وبين النظام الجديد إذا أريد له النجاح والاستمرار وصولا إلى آلية أساسية هي إسعاد الشعب من خلال تلبية متطلبات حياته اليومية .
ونحن في العراق جزء من امة ضاربة العمق في التاريخ بل إن أولى الحضارات التي عرفتها البشرية هي التي أقامها أجدادنا على ارض الرافدين وأختها التي قامت في وادي النيل وامتنا عرفت حقوق الإنسان واحترمتها وسنت لها القوانين في وقت كانت أمم أخرى تعيش فترات من الظلام الدامس والتخلف وسطوة الحكام وقسوتهم وبطشهم .
إن طبيعة بيئة الإنسان العربي سواء في البادية أو المدينة وضعت له قوالب وأنماط حياتية معينة صقلتها آلية تعامله مع تلك البيئة فامتاز بالشهامة وعزة النفس وحسن أداء الواجبات والالتزامات القبلية ونبذ التسلط والعبودية وأصبحت له أعراف قيد نفسه بها , لذلك لم تكن للعرب دولة بمفهومها المعروف اليوم لأنه ينصاع لأعراف قبيلته بينما يأنف الانقياد إلى سواها حتى وان كانت بينهما روابط والتزامات إلى أن أسس الإسلام أول دولة عربية واضحة المعالم استطاعت بفضل عمق الرابط الروحي بين المرء وخالقه وبفضل إيمانهم بالدستور السماوي العادل الذي نظم العلاقات الاجتماعية فسادت دولة الإسلام وانتشرت مبادئها بين كثير من أمم وشعوب الأرض كما هو معروف .
وفي عصرنا الحديث هذا حيث انفردت الولايات المتحدة بقوتها وسخرت غيرها من الشعوب الأضعف لخدمة مشروعها الكوني عن طريق القوة أو تلبية مصالح معينة تشترك معها في تحقيقه كما هو الحال بالنسبة لجارتنا بلاد فارس حيث يشترك الطرفان الأمريكي والفارسي في مصالح امبريالية توسعية على حساب امتنا وان تمددت شرق بلادهم ولكن بحدود ضيقة تحاول اليوم فرض أعراف ودستور ليس لشعبنا قبل به ولا طاقة على تحمله , فبغض النظر عن كونه يؤسس لتقسيم العراق طائفيا أو عرقيا إلا انه يعمل على تذويب الهوية العربية التي تميزنا بها على مدى آلاف السنين فيفتح أبواب القطر لتتسع لهجرة الأقوام الأخرى وخصوصا الفارسية التي عرفت بنواياها التوسعية وتغير جغرافية القطر السكانية , وهذا ما حصل فعلا حيث دخلت القطر أعداد هائلة من الفرس وتم تسكينهم وبأفضلية خاصة في المدن العراقية الحدودية بالإضافة إلى المدن المقدسة كالنجف الأشرف وكربلاء المقدسة والكاظمة المقدسة ففي الوقت الذي يحرم على ابن البلد العراقي العربي التملك فيها ويمنع ترويج معاملاتهم للتسجيل العقاري يتبنى مروجي الطائفية عمليات التسجيل بأسماء الفرس .
إن التسهيلات التي منحتها القوات الأمريكية للفرس في العراق من خلال سن القوانين والتشريعات التي تساعد على تهجين المجتمع العراقي ودولته والعهدة بالأجهزة الإدارية في الدولة إلى عملاء غرقوا إلى هامات رؤوسهم في العمالة ولا يمتلكون أدنى درجات الوطنية يتنافسون في تقديم فروض الطاعة والولاء إلى أكثر من جهة تسيطر على حكومة الاحتلال تعتبر من أكثر صفحات العدوان خطورة وعنفا وقسوة وتشكل تحدي خطيرا للأمن القومي العربي لان التحالف القذر الأمريكي – الصهيوني – الفارسي عندما استهدف العراق باعتباره– أي العراق – القوة الأكبر في المشرق العربي منطلقا من مبدأ ضرب الحلقة الأقوى لتركيعه ومن ثم إذلال وتحطيم الحلقات الأخرى الصغيرة المتمثلة بمشايخ الخليج العربية , وهذا ما يكرر إعلانه أركان حكم الملالي الفرس بكل وقاحة , وبينما راحت حكومة المليشيات تنمي الفتنة الطائفية وتتفنن في اختلاق اذرع البطش كما حصل مع مليشيات الصحوات التي تم جمع عناصرها وتشكيلاتها من قطاع الطرق وعصابات الإجرام وما أن استنفذت أغراضها حتى أصبحت منافسا قويا على السلطة وعبئا على مؤسسيها فلم يجدوا منفذا للخروج من مأزقها إلا في فتح ملفاتهم القديمة أو تصفية قياداتهم جسديا ومن استطاع الإفلات من هذه التهمة أو تلك أصبح هدفا لتهمة الإرهاب .
ولأنهم لا يملكون قاعدة شعبية يستندون إليها ولان ائتلافهم كان تآلف شر وحقد وتنفيذ مآرب أسيادهم ولأنهم يتنافسون على سرقة فتات ما يتركه لهم المحتل ولأنهم أسسوا لدستور لا يمت للمجتمع العراقي العربي بصلة فقد أصبح السباق بينهم على أشده مع اقتراب موعد ما يسمونه بانتخابات مجالس المحفظات المحسومة النتائج مسبقا فقد سعى نوري المالكي رئيس حكومة المليشيات بعد أن أكمل تصفية أتباع مقتدى الصدر كمشاكسين ومنافسين لاستغلال منصبه في إنشاء قاعدة يستند إليها هو وحزبه حزب الدعوة الذي انشق على نفسه أكثر من مرة وتشرذم بين تهافت زعاماته على التسلط بين تنظيم العراق وتنظيم الفرس وتيار إبراهيم اشيقر الجعفري من خلال التأثير على شيوخ العشائر في وسط وجنوب العراق اختار لها هذه المرة تسمية مجالس الإسناد , وأغدق عليها أموال الدولة لتساعد على انتخاب عناصره , وقد أصبحت هذه فتنة أخرى بين عميل مساند و مدرك لأهدافها معارض لها بينما أدرك مجلس عزيز الطباطبائي تأثير هذه المجالس عليهم فهموا بمعارضتها والتهديد باستخدام السلاح وتصفية من ينخرط فيها وبالتأكيد سيكون مصيرها كمصير الصحوات .
إن الأساليب التي تستخدمها الأحزاب الطائفية في زرع بذور الفتنة خصوصا بين العشائر العراقية لتسهيل عملية إلحاقها وضمها إلى توابع ولاية الفقيه الفارسية ولكسب المزيد من التأييد تارة بتشكيل واجهات من شيوخ العشائر وتارة بتقريب هذا الطرف أو ذاك وأخرى بتكليف بالإجبار والتهديد باستخدام السلاح للنخب الاجتماعية أو بتشكيل مجالس أو أحزاب أو فتح مكاتب استقطاب كلها ممارسات أصبح العراقي يدركها ويدرك أهدافها من خلال سنوات الاحتلال البغيض التي مرت دهورا دون أن يحصل فيها أي تغيير بل على العكس فقد تردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وضاعت الصناعات الوطنية وتدهورت الخدمات الصحية والتعليمية والماء والكهرباء وغيرها وارتفعت نسب البطالة بين الخريجين والشباب مقابل ارتفاع الأسعار المدهش . فأي انتخابات ممكن أن تجري وأي مجالس ممكن أن تنفع العراق وشعبه في ظل حكومة احتلال ؟ فلا خلاص إلا بطرد المحتل وأذنابه عن طريق المقاومة المسلحة وليس غير المقاومة المسلحة طريق للتحرير .