باسم حرية التعبير؛ وهي بالتأكيد لا يرقي إليها الشك ولا تقبل الجدل؛ كتب إبراهيم علاء الدين مقالة على أربعة حلقات على موقع الحوار المتمدن 5-8/9/2008، حملت عنوان: “عجائز منظمة التحرير وحكومة فياض”، قدم بها إشارات بيّنة، وأخرى تلميحية مستترة للتأثير على القارئ، جذرها استهدفت الصرح الشامل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
من أجل وضع النقاط على الحروف، فسوف أبدأ بما يبدو له مسائل من الدرجة الثانية حسب الأهمية، في تسلسل حلقاته الأربعة، مبتدءاً بتعقيبه على الجدل الفلسطيني الداخلي حول مسألتين رئيسيتين هما: “أولاً مركزية التمثيل القانوني والرسمي للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات (السلطة أم المنظمة)، وثانياً: دور فتح في هذا الكيان المركزي، ودور الفصائل الوطنية الأخرى”. ويجيب الأستاذ العزيز مباشرةً “جوهر المسألتان أن الرئيس أبو مازن وحكومة سلام فياض والبرجوازية الوطنية الفلسطينية، يحاولون بناء دولة قانون عصرية حديثة” (…) “والبعض الآخر يريد بناء دولة على مقاسه”، ويفسر من هؤلاء “البعض الآخر” بـ “تيار صغير داخل فتح ومنظمات وفصائل فلسطينية ومنها فصائل اليسار”، وبعد إلحاقه لفصائل اليسار “دولة على قد المقاس”، تبدو له المعضلة فتحاوية داخلية، حيث يفسر ذلك استطراده بالقول “البعض الآخر يريد دولة لا قانون فيها، لتكون مرتعاً لذوي النفوذ وضعاف النفوس ليمارسوا فسادهم وإفسادهم” ثم يعلق “منتشرون في كل مكان”، وهكذا ذهبت الإشارة البيّنة بما قصدنا، بالتلميح باليسار الفلسطيني؛ نوعية مغايرة للأسئلة والإجابات، فقد أجاب ومن فمه على فمه، وكان من الأجدر أن يدقق جيداً بما يكتب.
إن أخطر ما في المشهد؛ هو أن الكاتب يقفز عن الحال الفلسطينية الراهنة، والتي هي تحت الاحتلال، سلطة تحت الاحتلال، السلطة التي يصفها بأنها بدأت “منذ اتفاقية أوسلو بوضع مداميك الدولة”، أي اتفاقيات أوسلو ذاتها (بيت الداء) التي أوصلت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى هذا المأزق المعضلة، نتيجته وضعاً داخلياً دادائياً سوريالياً معقداً ومركباً، أوصل الحالة الفلسطينية تحت الاحتلال إلى سلطتين، سلطة الأمر الواقع بالانقلاب العسكري في قطاع غزة بقيادة حركة حماس، والسلطة الفلسطينية في الضفة التي تديرها فتح، وكلتا السلطتين تراهنان على العامل الخارجي في حل “الصراع”، والمأساة المبكية المضحكة هي ذاتها تلبست الأستاذ علاء الدين، فهي مغايرة لتجارب الشعوب وقوانين حركات التحرر الوطني في العالم؛ قانون الائتلاف الوطني الشامل، أي الجبهة الوطنية العريضة، وليس الاحتكار وصفقات المحاصصة التي أوصلت الحال الفلسطينية إلى التشرذم والانقسام والتنازع، وهي تحت رحمة المحتل، وحده الوحيد الذي يستثمر هذا الواقع المأساوي.
كان من المفترض بالأستاذ علاء الدين؛ أن يستهل موضوعه بنوعية متخيلة مغايرة من الأسئلة، مثل: أين تتجه البوصلة الفلسطينية ؟ من المسؤول عن الحال ؟ “بماذا يشعر المواطن الفلسطيني حين يرى حماس تعرض أمام الإعلام الأسلحة التي غنمتها من فتح في قطاع غزة ؟ ماذا يمكن أن يكون شعور المواطن العربي حين يشاهد جنوداً إسرائيليين يضمنون سلامة مقاتلين فلسطينيين فرّوا من نيران إخوانهم، ثم يتولون نقلهم إلى مكان آمن ؟ أية مهانة وذل وضياع دماء شهداء وعقود كفاح؛ وصولاً إلى تهميش وإهمال منظمة التحرير، وهي ذاتها التي أوصلت الرئيس محمود عباس إلى رئاسة السلطة”. ما أراده علاء الدين واضح وبيّن فهو يجاهر به، بعد أن أُفقدت منظمة التحرير من أي دور لمؤسساتها، ومن ثم لوجودها الفعلي، وبالتأكيد لصالح مركز الثقل الجديد: “السلطة الفلسطينية”، فأي ثقل هذا لسلطة تحت الاحتلال! بشكل مقرون بحالة من الاحتكار للمنظمة عبر تهميش دورها، لصالح تغول الحكومات الفلسطينية التي اصطبغت بلون واحد هو لون فتح على امتداد تسعة حكومات وحتى عام 2006، فهل هذا ما أشار له الأستاذ علاء الدين “البعض الآخر يريد بناء دولة على مقاسه” ؟ مرة أخرى كان من الواجب أن يتوخى التدقيق وتسمية الأمور بأسمائها، ثم لماذا الآن لا تشكل حكومة مستقلة ذات مصداقية من وزراء أكفاء تقوم بإنجاز مطلب الإصلاح في المنظمة والسلطة، الإصلاح الديمقراطي الشامل وبالتمثيل النسبي الكامل. حيث تبرز الحاجة الوطنية الماسة لتحديد طبيعة العلاقة سياسياً وعملياً، عبر المرجعية السياسية والقانونية لمنظمة التحرير ومن ثم للسلطة التي تشكلت بقرار منها.
ثم حريٌّ بنا أن نسأل: لماذا يحتج الأستاذ علاء الدين على الحوار والجدل الدائر، بغض النظر عن دوافع من سماهم بِـ “العجائز”، فمن المفترض في الحال الوطنية الموصوفة، أن يدفع بعجلته وتفعيله، نحو الهدف بمشاركة كافة الفصائل في المنظمة وخارجها، فالمنظمة رسمياً ومعنوياً، فلسطينياً وعربياً واقليمياً ودولياً وفي الامم المتحدة وكل مؤسساتها، هي ممثلة الشعب الفلسطيني (داخل الوطن المحتل وفي اقطار اللجوء والشتات حيث 64% من شعبنا)، وهي مظلته حتى وهي تعاني الآن من خلل بنيوي داخلي، فمن المفترض أن تمثل هذا الشعب بجميع تياراته، لا تياراً سياسياً بعينه، وبدون حل مأزق الانقسام فإن المنظمة سيبقى دورها على ما هو عليه، والمقصود هنا إحياء كافة مؤسساتها بدءاً من تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أساس قانون انتخاب يقوم على التمثيل النسبي الكامل، والسؤال هو: هل هذه الوصفة “البوصلة” معيقة لأهدافه بـ “دولة ديمقراطية عصرية …”.
تبرز أيضاً مغالطات في قراءته للديمقراطية الفلسطينية، منها عدم الإدراك للممارسات السلطوية خارج القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية (الدستور)، والذي يرى ترك تشكيل الحكومة بيد رئيس السلطة، كما في الدستور الأمريكي، مثال راهن الآن؛ الرئيس الأمريكي والحكومة جمهورية، أما الكونغرس بمجلسية النواب والشيوخ، فالأغلبية هي بيد الحزب الديمقراطي. ونظام السلطة الفلسطينية مركب كما الأمريكي، الرئيس ينتخب من الشعب، وكذلك المجلس التشريعي، وقانون السلطة أعطاه الحق بتشكيل الوزارة بدون الأخذ بنتائج الانتخابات، فهو غير ملزم بالتكليف. أما رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، فالسلطة ذاتها تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ثم لماذا الزج في الصراعات الفتحاوية الداخلية على صفحات الإعلام، ومنه التشهير بتاريخ د. أسعد عبد الرحمن ؟ أليس من الأجدر والأجدى العمل على إنجاح عقد مؤتمر لفتح يحسم ديمقراطياً في كل هذه المسائل ؟ الواضح الوحيد أن الأستاذ علاء الدين ينحاز بالكامل في الصراع بين أبو الاديب و د. عبد الرحمن ورئيس الحكومة سلام فياض، لصالح رئيس الحكومة وهذا حقه، ولكن ليس من حقه تعميم الحال، يبدو الأمر في الدخول في هكذا تفاصيل وخصوصيات وشخصنات فضلاً عن كونه غير لائق، بل هو “كرت” التقرب من رئيس الحكومة سلام فياض لماذا ؟ …
لماذا الغزل برئيس الحكومة ؟ ولماذا سلام فياض أصبح اليوم مثل كليوباترا له عشاق كثر؟ وعليه يقدم الأستاذ إبراهيم علاء الدين أوراقه في الهيمان والعزف على قيثارة كليوباترا، في واقع خط سياسي سبق وأن وصفناه بتجريبته وانتقائيته يمكن وصفه بـ “المسكين”: أي خط السلطة، فهو لا يعرف إلى أين يصل. الجواب هو أن تكتم علاء الدين على بعضه له علاقة ببعض المنافع، وهذا واضح في الاصطفاف “الشخصي” على حساب الوطني الجامع، الصفة التي توجز بكلمة “انتهازية” لأولئك المتنقلين من موقف لآخر، ما يدعو للأسف والرثاء. لقد أمسك علاء الدين بالفروج الشهي وأقام عليه الشعائر، في ترهات يتعذر تبريرها تصل إلى اقتراف الخطيئة، هي سفسطات باسم القضية ومن أجلها، تستبدل الاستعارة المجازية بالأوهام الفارغة، من أجل أن يبقى “اللاهوت” حياً من “أجل القضية ومن أجل الشعب”، بدلاً من أن تعترف السلطة ذاتها بوجود مؤسسها وموجدها؛ أي مطلقها للحياة. كما أراد أن يقفز علاء الدين ليبرهن لنا عكس ذلك، وفي ظرف تاريخي حريّ به أن يتوخى الموضوعية في حدودها الدنيا، في ظرف ينبغي به فهم المنعطف الفلسطيني بواسطة الإنسان الفلسطيني ذاته، حينئذ يدرك أنه قد جرى تعطيل الإرادة الوطنية الجامعة، التي هي جوهر الوجود الوطني الفلسطيني، لا ترك تأويلها المجازي للجان والغيلان.
يقول الأستاذ علاء الدين أنه حصل على عضوية المجلس الوطني في عام 1987، لكنه رفض الترشيح لأسباب خاصة، رافضاً كل الامتيازات التي يحصل عليها عضو المجلس الوطني، بل اعتبره البعض “غبياً” بسبب تنكره للامتيازات، أية امتيازات!. هنا لا يعلم الأستاذ العزيز أن عضو المجلس الوطني لا يحصل على “فلس أو شيكل” واحد أو غيره من العملات، فالعضوية ليست وظيفة ولا مال، فقط هي هيئة رئاسة المجلس التي تحصل على موقع ورواتب وموازنة لمهماتها.
نصيحة أخيرة؛ للأستاذ علاء الدين؛ فلتسمِ الأمور بمسمياتها، من أجل أن تخدم القضية التي نتبناها جميعاً، وبعيداً عن التجريبية السياسية والانتقائية الأحادية، لأن هذا المنهج هو وفقاً للمثل التجريبي “الشيطان له أُصبع في كل فطيرة”، مقدمة لنظرية “الاستبدال”، أي السلطة بالمنظمة التي مرّ عليها تلميحاً، فالسلطة لا تمثل الشعب الفلسطيني بأكمله، وهناك 64% منه خارج سلطتها في الشتات وأقطار اللجوء. ما لم تقله المقالات مباشرة هو التبشير بنظام أساسي فلسطيني جديد، بعيداً عن واقع الاستعمار الاستيطاني والاحتلال، في خداع للذات والتشرذم والانقسام والتنازع، على ما يتبقى من “الكعكة” التي التهم أجزاءها الدسمة الشيطان. السؤال الأساسي وحده الذي يحدد المستقبل، هو إلى أين تتجه البوصلة الفلسطينية ؟! …
وعليه؛ ليضبط الأستاذ إبراهيم علاء الدين بوصلته مع الشعب الفلسطيني، ووفق التوجه الفلسطيني الجامع والشامل.
ـ كاتب فلسطيني