رشا عبدالله سلامة
لجّة من الشجون العربية أيقظها مسلسل منزل صدام حسين الذي أعدته قناة البي بي سي عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والذي تحدث في أربعة أجزاء عن حياته منذ انقلابه على أحمد حسن البكر وحتى لحظة إعدامه في العام 2006 وما تخلل الحادثتين من حروب له مع إيران والكويت وعلاقته الجدلية بمن حوله من السياسيين وأفراد عائلته.
لعل من أبرز نقاط القوة التي استند اليها منزل صدام حسين تمثلت في اجتراحه خطاً خاصاً للأعمال الوثائقية، إذ لم تأت سيرته المطروقة في المسلسل من خلال الشهادات المسجلة واللقطات المؤرشفة كما جرت العادة مع الوثائقيات بل جاءت سيرة ممثلة ووفقاً لأجود إمكانيات الإنتاج والإخراج، ما يسهل انتشارها وقبول المشاهدين بها من غير تمحيص.
تمثيل هذه السيرة وليس عرضها وثائقياً كما المعتاد تطلّب من القائمين على المسلسل تبني وجهة نظر بعينها كي يتم إقناع المشاهد بحقائق محددة والوصول به إلى قناعات يريدونها هم من غير إيجاد الفرصة لأي رواية أخرى غير المقدمة كي تعبر عن نفسها وتترافع عن صدام كما هو الحال في أي ساحة محاكمة.
وإن كان ملاحظا في المسلسل عدم تدقيقه كثيرا على التشابه الشكلي بين الشخصيات الحقيقية والممثلين، إلا أنه أولى اعتبارات الزمان والمكان أهمية خاصة لاسيما على صعيد الملابس والبيئة، كما أنه اعتمد بنسبة تفوق المائة بالمائة على الرؤية الأميركية لهذه الشخصية الجدلية بامتياز، برغم تناقض وتضارب الروايات حول شخصه وتصرفاته وقناعاته، إذ هنالك من يعني إليهم صدام بطلا قوميا كان يعوّل عليه النهوض بالأمة فيما آخرون كانوا يرونه لا يعدو طاغية جبارا هوى ببلاده والأمة العربية في مزالق الانفعالية، لذا كان من بين ما يؤخذ على المسلسل عدم إتاحته كلا الخيارين للمشاهد لينتقي أحدهما بل تم إجباره على تجرّع الرواية من غير تفكير.
نقطة أخرى طعنت في صميم الحيادية الأميركية في رواية صدام وهي عدم التعريض للكوارث التي سببها الاحتلال الأميركي للعراق ولعل على رأسها الانتهاكات الإنسانية التي حدثت في سجن أبو غريب، بل اكتفى المسلسل ببضعة مشاهد عرض فيها قسوة الجنود الأميركيين في اعتقال العراقيين المشتبه بصلتهم مع النظام المخلوع، كما أن المسلسل ساق حتى لبضعة المشاهد هذه مبررا من خلال وضعها في سياق أن الجنود يؤدون عملهم الذي يتطلب منهم قسوة في التعاطي مع الإرهابيين! كذلك لم يتم عرض مشهد شنق صدام في نهاية المسلسل، بل تم الاكتفاء حتى صعوده منصة تنفيذ الحكم، وهو ما قد يُفسر بعدم ترك أي فرصة للمشاهد كي يتعاطف معه بل وحتى أن ينتقد طريقة الميليشيات المهينة التي تم إنهاؤه بها.
وبرغم البراعة في التقاط أنفاس المشاهدين حتى النهاية من خلال حوارات مقتضبة غير مملة ومعروضة بسلاسة مطلقة وبدهاء في التصريح تارة والتلميح أخرى، إلا أن المسلسل لم يكن حيادياً أيضاً في استعراض الشخصيات السياسية المحيطة بصدام، إذ كان واضحا التعاطف مع طارق عزيز وتصويره بـ المغلوب على أمره وغير المقتنع فعليا بما يحدث، فيما صوّر آخرين كعلي الكيماوي وحسين كامل وعدنان خير الله وغيرهم بمن لا يقلون جبروتاً في أحيان كثيرة عن صدام.
كذلك الحال مع إسهاب المسلسل فيما يخص علاقة صدام حسين مع عائلته، وعلى رأسهم زوجته ساجدة وابنه البكر عدي الذي رسم المسلسل تفاصيل شخصيته وحياته الصاخبة وتجبره هو الآخر بمن حوله والسماح لذاته تحت ذرائع السلطة بممارسات غير لائقة أو قانونية، فيما كانت الصفة المهيمنة على العائلة هي البذخ والبعد كل البعد عن معاناة العراقيين المعيشية وخصوصاً إبان فترة الحروب والحصار.
مشاهد كثيرة ظهرت بنكهة الغربي المندهش والمتطلع بعجب إلى عالم الشرق لا سيما ما يتعلق بمصادرة الحريات والقبول بالعيش تحت ظل الديكتاتورية والقمع، ولعل من أبرز تلك المشاهد تدوين صدام للمصحف بدمه والانشغال في صناعة النُصب التمجيدية له ومنها ذلك الذي تشق فيه يد قوية الأرض والتي أُفرد لها وقت طويل على ارض الواقع لجعل قياسها مماثلاً لقياسات يد صدام الحقيقية، إلى جانب تصدره نشرات الأخبار مع عرض مشاهد لاحتفاءات الشعب به رغم ما يرتكبه من تهور، كذلك في إثارته الرعب في نفوس من حوله سواء سياسيين أو عائلة أو حتى شعباً، إلى جانب استسهاله تصفية كل من يتعارض معه حتى أقرب الناس إليه، والأهم هو عرض نشوته بإسهاب بينما كان كمن يزغرد موهوماً بالنصر والعزة فيما بلاده في الواقع تغرق في دوامة الحرب والعنف والفقر بعد حرب إيران والكويت.
بيد أن من أكثر ما يثير الانتباه في مسلسل منزل صدام حسين هو إناطة دور صدام بممثل إسرائيلي وهو إيغال ناعور، برغم كل ما قد يسببه ذلك من امتعاض وتشكيك بحيادية الطرح، إذ هو إسرائيلي من أصل عراقي ويذكر مراراً في تصريحاته بأنه كان من الناجيين من قصف صدام لتل أبيب، برغم تأكيده أنه لا يريد أداء الدور من باب الثأر، كذلك يتعجب المشاهد من كونه إسرائيليا ويشجب الجبروت والعنف وشلال الدم المتدفق فيما هو راضٍ في المكوث على أرض فلسطين المحتلة ومن غير امتعاض من ممارسات دولته القمعية ضد أصحاب الحق!
عود على بدء، فإن الشجون التي أثارها مسلسل منزل صدام حسين لا تقتصر على التخاذل العربي الذي يمتد حتى للفن، إذ كان من الأجدر بالعرب توثيق سيرة صدام أو أية قضية عربية أخرى مهما كانت جدلية بدلاً من تسليم زمام الواقع والحكاية للغرب، بل إن الشجن الأعمق والأكثر إيلاماً هو حال شعب عربي كالشعب العراقي الذي يمتلك كل مقومات القوة بيد أن قدره يضعه دوما بين مطرقة الجبابرة والديكتاتوريين وبين سندانة الاحتلال الذي يمتص ما تبقى من دمه وعافيته يوما بعد يوم.