“القدر هو لا أحد والمسؤولية هي شخص ما” بول ريكور
لا ينقسم العالم فقط إلى غرب وشرق فهذا تقسيم تاريخي أساسه عقائدي وسببه النزاعات والحروب التي اندلعت على مر العصور والتي كونت الأحلاف والاستقطابات ولكنه أيضا ينقسم إلى شمال وجنوب وهذا تقسيم جغرافي أساسه اقتصادي يكون فيه الشمال هو الغني المزدهر والمتطور والجنوب هو الفقير النامي والمستضعف ولذلك تكونت العقد والصور المزيفة وتكاثرت الانتقادات باحتقار ومخادعة دول المركز الموجودة في الشمال وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية وشمال آسيا ممثلة في الاتحاد الروسي واليابان لدول الأطراف ومناطق الظل الموجودة في الجنوب وخاصة في إفريقيا وأمريكا الوسطى واللاتينية وجنوب آسيا وشرق أوروبا وجنوبها.
بعد أحداث 11سبتمبر 2001 الكارثية على العرب والمسلمين والموجعة للقيمة الاعتبارية للغرب وبعد بروز الجيل الثالث لمنظومة حقوق الإنسان وانتشار موجات التشجيع على الديمقراطية وتشكل مجتمع مدني عالمي عزمت عدة دول وأحزاب وهيئات وشخصيات تاريخية ومنظرون كبار تجاوز مخلفات الحقبة الاستعمارية والانتقال من مرحلة إعطاء الحرية والاستقلال إلى الاعتراف بالغيرية الثقافية والسيادة الوطنية لدول الجنوب وتقديم الاعتذار وطلب الصفح من شعوبها من أجل الوصول إلى مصالحة وشراكة معها، فهل طلب الاعتذار كافي من أجل نزع الاعتراف؟
لا يهم من يعتذر ولمن ولا يهم هل قبل الطرف الآخر الاعتذار أم رفضه بل الأهم هو حركة الاعتذار نفسها لأنها قيمة نبيلة وتوجه نحو محو أثار الماضي وطي الصفحة المظلمة وتدشين صفحة جديدة كلها عزم وإقبال، فالاعتذار فعل نبيل يعبر عن رقي تفكير من يقوم به وسموه الأخلاقي ويقطع مع أخلاق العبيد وعادات الاضطغان والانتقام والتشفي ويتفوق على منطق جنون العظمة ويقطع مع عقلية التمركز على الذات.
اللافت للنظر أنه سواء نظرنا إلى العلاقات الدولية من زاوية التقسيم شرق/غرب أو إلى الجغرافيا السياسية العالمية من زاوية شمال/ جنوب فإننا نحصل على نفس النتيجة وهي أن العرب والمسلمين ينتمون إلى المجال الدول التابعة والتي مورست ضدها كل أشكال الاستغلال والتجهيل والإفقار.
في هذا السياق خاضت بعض الدول حركات التحرر الوطني وصراع من أجل الاعتراف الكامل بالإنسانية ومن أجل تحقيق الاستقلال والسيادة التامة على أراضيها وتقرير مصير شعوبها بنفسها. هاهي ايطاليا تعتذر لليبيا وتتعهد على لسان وزيرها الأول برليسكوني بالتعاون والإفادة في عملية التنمية والتطوير التي تسعى هذه الدولة إلى القيام بها وتقديم تعويض مادي بخمسة مليارات على التجاوزات والجرائم والإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الليبي ومقابل الثروات والخيرات الليبية التي نهبت واستنفذت واستغلت وحملت إلى ايطاليا عن طريق الجو والبحر في تلك الفترة الحالكة من الاستعمار ومن البربرية الشمولية التي عاملت بها دول الشمال دول الجنوب.
فلماذا أقدمت ايطاليا على هذا العمل الآن وليس في وقت آخر سابق أو لاحق؟ وهل تسير بعض الدول الغربية الأخرى مثل فرنسا على منوالها؟
المفاجأة هي أن تأتي هذه المبادرة ليس من رئيس حكومة يسارية لها تصور أممي للتعاون مع شعوب العالم مثل برودي بل من برليسكوني الذي ينتمي إلى اليمين وقد عرف عنه معاداته للقضايا العربية واستنقاصه للقيم الحضارية المغايرة ودفاعه المستميت على الحضارة الغربية وتمجيد انجازاتها ومناصرته للحروب التي وقعت ضد العرب عامة والعراق خاصة. فما الذي دفع هذا الزعيم اليميني إلى تغيير موقفه؟
اللافت للنظر أن فكرة الاتحاد من أجل المتوسط التي كانت مشترك تاريخي وواقعي ضارب في القدم وأعاد تحريكها دبلوماسيا ساركوزي قد رفضت جملة وتفصيلا من طرف النظام السياسي القائم في ليبيا واعتبرت تحديا لفكرة الاتحاد المغاربي ومزاحمة لمشروع الاتحاد الإفريقي وفسرت بأنها إعلان من الدول المتوسطية الجنوبية الولاء والطاعة للدول المتوسطية الشمالية وحركة تطبيعية مجانية مع إسرائيل، ولكن في مقابل ذلك اشترطت بعض الدول التي تعرضت في السابق إلى الاستعمار والاختراق الكلياني على الدول الغربية التي لها تقاليد في الهيمنة والتحكم أن تعتذر على ممارساتها اللاانسانية وسياساته الاستغلالية وأن تقدم تعويضات مادية.
رغم أنها كانت متأخرة وبعد مناشدات عديدة ورغم أن التعويض المادي مهما كان مرتفعا لا يمكن أن يساوي ما اقترف من تعديات بحق الإنسانية فإن الخطوة الايطالية هي في الاتجاه الصحيح وجاءت في وقتها المناسب من أجل تحقيق التقارب بين الشعوب وتساعد علي معالجة المشاكل العالقة وخاصة الهجرة غير الشرعية وأزمة الطاقة وداء الإرهاب.
ماهو منطقي الآن هو أن تحذو الدول الغربية الأخرى التي لها ماضي استعماري وخاصة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية حذو ايطاليا وأن تقوم بالاعتذار إلى الشعوب التي احتلتها من أجل تحقيق مجموعة من مصالحها الحيوية وأن تقدم تعويضات مادية عن الخسائر التي كبدتها لهذه البلدان المعتدى عليها، كما ينبغي الكف عن الحديث عن كون الاستعمار كان من أجل التنوير والتحديث وبغية إخراج هذه الدول من البداوة إلى الحضارة لأن الاستعمار ليس له منافع وكل ما يتركه عندما يمر بدولة هو أراضي جدباء وعقول مستقيلة وقلوب مهزومة وكرامة مستباحة وكل هذا هو أمر لا يمكن استرداده وتعويضه.
لقد طلب مرارا من أنظمة الحكم المتتالية في فرنسا بيمينها ويسارها أن تعتذر عن ما اقترفه الجيش الفرنسي من انتهاكات في دول المغرب العربي وخاصة في الجزائر بلد المليون ونصف شهيد ولكن دون جدوى وواصلت الجهات الرسمية الهروب إلى الأمام من تاريخ مثقل بالميراث الكلياني.
ذاكرة بعض الدول تحتفظ تجاه دول أخرى ببعض الفصول التاريخية والتجارب الزمنية السوداء وكثيرة هي الملفات التي طويت ودفنت دون أن يقع التحري من الحقيقة ودون أن يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويعطى فيها كل ذي حق حقه وهذه الاحراجات نجدها في كل مكان في العالم ويمكن أن نبدأ بما فعلته اليابان بالصين وروسيا بألمانيا وتركيا بالبلدان العربية وفرنسا ببلدان المغرب العربي وبريطانيا بالهند ومصر والخليج وننتهي بما صنعته الولايات المتحدة بالفيتنام وافغانستان والصومال والعراق والكيان الغاصب بعرب فلسطين من السكان الأصليين.
غير أن هذه الحروب غير العادلة لا تعني نهاية العالم وانتهاء باب الأمل وتكور حركة التاريخ على ذاتها بل يظل إمكان توطين السلم بين الشعوب أمرا قائما وخاصة عندما يقع تعميم صنيع ايطاليا على بلدان أخرى وعندما ترضى بعض الأنظمة بالتواضع والتشارك مع جيرانها من أجل خير الإنسانية.
على هذا النحو ينبغي أن تحترم فرنسا قيم الثورة الفرنسية وأن تبني القانون على الحب والعدالة على الصداقة والشراكة على التكافىء والحرية على احترام الكرامة ويلزم أن تعتذر لهذه البلدان التي عانت شعوبها الويلات وساهمت ومازالت بخيرة شبابها وبخيراتها في حداثة وتمدن الدول الغربية.
ان الاعتذار قد لا يكفي من أجل ردم الفجوة بين العرب والغرب وبين الجنوب والشمال وان فكرة المتوسط لن تجد طريقها إلى الانجاز سوى بطي صفحة الماضي والعود على بدء لأن المطلوب ليس الاعتذار هو رد الاعتبار وليس تعويض ومقاضاة وفق منطق الجريمة والعقاب بل اقتناع حميم وتحمل مسؤولية الضرر الذي حصل للغير والتوجه نحو الوقاية منه وتفاديه ضمن خطة من التعقل المسؤول.
ربما تفهم الخطوة الايطالية على أنها بحث عن السلامة والوقاية من الخطر أكثر منها رغبة في التكافل والتعاون ولكن رغم كل ذلك تظل خطوة منسجمة مع ما يجب أن يكون.
هيمنة دول المركز على دول المحيط ليست قدرا نهائيا ومسؤولية دول الشمال كاملة في حالة التبعية التي هي عليها وبدل حيل الدبلوماسية والتظاهر بتقديم الاعتذارات العلنية وفق سلوك برغماتي مكشوف يخفي الرغبة في تحقيق مصالح مادية كبيرة ينبغي رد الاعتبار والمساهمة الفعلية في ردم الفجوة الرقمية بين الطرفين. فهل نطلب من دول الأطراف تحالف جنوب جنوب من أجل التنمية واللحاق بالركب أم أن مستقبلها رهين اعتذار دول الشمال لها والاعتراف بها كند وشريك فعلي من أجل بناء إنسانية الإنسان الآخر؟ أليس الانتقال من مجرد اعتراف الشمال بحق الجنوب في الحياة إلى الاعتذار ورد الاعتبار هو من أوكد الأمور حتى لا تتكرر مثل تلك العمليات العدمية التي تحاكي نموذج 11سبتمبر؟
كاتب فلسفي