يرى الكاتب اسامة عكنان ان “الازدواجية الاجتهادية الخطيرة” في الفكر الاسلامي السلفي افرزت تيارا يتصالح مع السلطة الحاكمة وآخر يتصالح مع العنف رغم انهما من منبت واحد. وقال مؤلف كتاب “تجديد فهم الاسلام” انه “لا يمكن لأمة أن تنهض ما لم تنطلق في معركة نهضتها من معالجة النقطة التي سببت الانحدار والتخلف، ألا وهي البنْيَة الفكرية والمعتقدية والثقافية التي حصل ذلك الطلاق المُرَوِّع بينها وبين حركة الواقع، مؤديا إلى ذلك الانحدار”.
“إن تصورا غير هذا، إنما هو في الواقع تغاضٍ سافر عن تجارب المغول، جبابرة الأرض الذين أبادوا كل الحضارات التي وقفت في طريق زحفهم الهمجي، ليختفوا هم أيضا من التاريخ وإلى غير رجعة، بعد ذلك بقليل، وليذوبوا في الأمم التي هزموها ذوبانا يكاد يكون كليا”.
وتابع “كما أنه تغاضٍ أكثر سفورا أيضا عن حقبةٍ امتدت في تاريخ أمتنا أكثر من أربعة قرون عثمانية المذاق، كانت خلالها كل معاني التخلف الحضاري وعناصر الانحطاط الثقافي وكل مقومات الجدب الفكري والإبداعي تتراكم”.
وعن مفهوم النهضة، قال عكنان انه “يثير في الذهن الكثير من التساؤلات التي نحسبها على قدر كبير من الأهمية والدلالة. فسؤال ‘لماذا يتعين علينا أن ننهض’ يظهر للوهلة الأولى كنقطة بداية تكشف عن ضرورة اعترافنا بأننا في حالة سقوط مروِّعَة، يفصلنا بسببها بَوْنٌ شاسع عن حالة النهوض المُسْتَهْدَفة! ولكن أليس من الواضح أن حالة السقوط هذه لا يتم إدراكها إلا بإدراك نقيضتها، ألا وهي حالة النهوض؟ فمن لا يرى مفهوم النهوض ماثلا أمامه ومتمثلا في حاله، لا يستطيع أن يدرك أنه ساقط عبر مقارنة حالته بالحالة الماثلة أمامه”.
“ثم وبعد أن نعرف الصيغة النهضوية المستهدفة التي عَرَّفَتْناَ بدورها على حيثيات حالة السقوط المرضية التي تعاني منها الأمة وتئن تحت وطأتها، يبقى علينا أن نتساءل عن الكيفية التي على الأمة أن تنتقل بواسطتها من حالة السقوط إلى حالة النهوض. وإذا كان الحديث والتساؤل عن صيغ النهضة المُسْتَهْدَفة في شتى المجالات، وعن رديفتها “السقوط”، هو تساؤل في صميم الفلسفة والدين وعلم الاجتماع بكل فروعها، فإن التساؤل عن الكيفية، إنما هو تساؤل في صميم العمل الحركي والسياسي”.
واضاف في الكتاب الصادر عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع في عمان “استوقفتنا ظاهرة غريبة في تعاطي المسلمين مع قضاياهم المصيرية، أوضحتها لنا وجَلَّتْها، قضية احتلال العراق عام 2003، بل وقضية العراق عموما منذ زلزال الثاني من آب عام 1990. فمَعْقِلَ الوهابية التي نعتبرُها وكثيرون غيرُنا، الاجتهادَ الديني الأكثر جمودا ورفضا للتجاوب مع ما استجد وفُرِضَ على الأمة من قضايا ومسائل في هذه العصور، تتطلب أكثر بكثير من مجرد الاجتهاد الفقهي الضيق المعنى. هذا المعقل احتضن في الوقت ذاته النقيضين معا”.
“فمن عباءة الوهابية ذات الجذور السلفية، بالمعنى السائد لمصطلح ‘سلفية’، أي تلك الفئة من المسلمين التي تريد سحب الحاضر إلى الماضي بالتركيز على إعادة صورة المعتقدات الإسلامية وما يتعلق بها من عبادات وسلوكيات، إلى ما قرره السلف، استنادا إلى التركيز على ما تصفه بأنه أحاديث نبوية صحيحة، مقروءة ومشروحة في ضوء العقيدة التيمية (نسبة إلى ابن تيمية)، المرتكز ابتداء إلى ما يقال أنه تصورات فقهية ومعتقدية حنبلية (نسبة إلى الإمام أحمد ابن حنبل)”.
واستطرد عكنان قائلا “من هذه العباءة الدينية المضطربة مُعْتَقديا، لتأرجحها بين ماضٍ لا تريد التخلي عن أيّ من تفاصيله، وحاضر تعيشه مُكْرَهَة ورغما عنها، لكنها ترفض معايشته ولا توافق عليه، انبثق إلى حيز الوجود اجتهادان متعارضان أشد التعارض، إلى درجة استحالة تَقَبُّل العقل السَّوِي لواقعة أنهما يؤولان إلى المرجعية السلفية التيمية الوهابية العَصِيَّة على الازدواجية الاجتهادية نفسِها”.
وقال عكنان في كتابه الواقع في حوالي 450 صفحة من القطع الكبير “الوهابية السلفية السياسية والمؤسسة الدينية المرتبطة بها، وجدت في مرجعيتها الدينية ما تبرر به استقدام القوات الأميركية والحليفة إلى أراضيها، وتقديم كل التسهيلات لها لضرب العراق وشعبه واحتلاله، بحجة إسقاط نظام حكم العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تعاملت معه بوصفه حزبا متجبرا وطاغيا وكافرا، في تجاهلٍ غير مفهوم لكل أدبيات السلفية الداعية إلى التكاتف والتعاون بين المسلمين، وهو ما تمارسه تلك السلفية السياسية ببذخ عندما ترصد موازنات ضخمة من أموال البترودولار، لدعم طلاب العلم الديني وحفاظ القرآن ومروجي كتب التراث، في كل مكان على وجه الأرض”.
“الوهابية السلفية ذاتها، ولكن في جناحها غير السياسي هذه المرة، هي التي راحت تُكَفِّر بلا هوادة كلَّ من يقبل مجرد قبول فكرة التعامل مع القوات الأميركية في العراق، بل وكلَّ من لا يعتبر الأنظمة الخليجية أنظمة كافرة ومرتدة عن الإسلام، لقبولها ضرب المسلمين بقوات أسمتها صليبية حاقدة، وتصدت بنفسها لمقارعة الأميركان وحلفائهم، آخذة في طريقها الأخضر واليابس، دون تمييز بين بريء وغير بريء”.
وقال “إلاَّ أن ما نحب توضيحه هو أننا لم نهدف من إيراد هذه الثنائية العجيبة التي قَسَّمَتْ جِسْماً مُعْتقديا أشد ما يكون انغلاقا وانطواء على نفسه واستعصاء على التعدد، إلى تصويب طرف وتخطيء آخر”.
“ومع أن هذه الظاهرة أشد ما تكون بروزا ووضوحا في الجسم السلفي الوهابي، إلا أن من السهل تعميم هذه الظاهرة المتمثلة في الازدواجية الاجتهادية الخطيرة، وإن يكن بشيء من التحفظ، على معظم، إن لم يكن على كل فصائل الجسد الإسلامي المتصدي لقضايا الأمة”.
واضاف “ولأن باب هذا النوع من الحلول واسع جدا، ولا مجال لحصره، تظهر في سياقاته المختلفة هذه التباينات المرعبة بين فرقاءٍ كانوا قبل ذلك لا يَقْدِرون على الاختلاف في مسائل أصغر من ذلك بآلاف المرات، كجواز أو عدم جواز الصلاة بين السواري، أو كجواز أو عدم جواز تحريك الإصبع في التشهد خلال الصلاة، أو كجواز أو عدم جواز زيارة المرأة للمقابر، أو غير ذلك من الأمور، التي لا تحظى بأي اهتمام من الإنسان الذي تَعَوَّدَ على التعامل مع عظائم الأمور لا مع صغائرها”.
“ومن هذه النقطة تبدأ مسيرة التشدد الأكثر تطرفا، عندما يلجأ كل طرف إلى العمل الدءوب على تأصيل اجتهاداته وفتاواه كي يُشَرْعِن مواقفه وسلوكياته”.
ويتساءل المؤلف “هل أخطأ الكثيرون من دارسي الحضارة الإسلامية عندما أرجعوا ركودها في القرون العشرة الأخيرة إلى هذا النوع الغريب وغير المفهوم من تَصَلُّب شرايين الفكر الناتج في الأساس عن الحفظ الأعمى للنصوص وعن الالتزام المتعصب بما قاله الأولون والسابقون، رغم أن القرآن الكريم الذي يمثل المرجعية الأم عند المسلمين لا تضاهيه مرجعية في العالم في تمرده على السابقين وفي رفضه الإتِّباع الأعمى للآباء والأجداد؟”.
“إن الإنسان العربي تحكمه مجموعة من الذهنيات التي تُسْهِم في تشكيل أدائه وفي تكوين طرائق تفكيره وأنماط ردات فعله على ما يواجهه من متغيرات وأحداث في واقعه.
إن هناك العديد من الذهنيات التي تتحكم في سلوك وتفكير الإنسان العربي المعاصر، مثل ذهنية الأُلْفَة وذهنية الخوف وذهنية التَّميُّز وذهنية القمع.. إلخ. وإن لكل ذهنية من هذه الذهنيات دلالاتها في الواقع الموضوعي، وهي عندما تتفاعل مع بعضها البعض فإنها تُنْتِج في هذا الواقع أداءاتٍ تظهر على شكل محاربة للتفكير وللتعقل، أو بكلمة أخرى، تظهر على شكل محاربة لاستخدام العقل عموما”.
وختم بأن الكتاب “ليس بحثا في كيفية تخليص الإنسان المسلم من أمراضه وعقده الذهنية، إنه لا يبحث في آلية مساعدته على تحطيم مرتكزات التميز التقليدية لديه، أو على تحطيم أركانِ ذهنية الألفة التي ورثها عبر مئات السنين، بل هو عرضٌ لمرتكزات تَمَيُّزٍ جديدة ولمألوفٍ جديد”.