لقد مثلت”الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية ATEP” منذ انبعاثها ولمدة ثلاثة عقود ذلك الرحم الفلسفي الخصيب الذي أنجب العديد من المبدعين والكتاب والمترجمين والأساتذة والذي ساعد على الاهتمام بتعليم الفلسفة في ربوع بلادنا وعلى التشجيع للانخراط في تجربة الكوني مواكبة وإبداعا والتعرف على الآخر وحسن الإنصات إليه واطلاعه على النقاط النيرة من واقع الفلسفة والعلم عند العرب وإبراز صورة ناصعة عن الذات.
في هذا السياق كانت العودة إلى مواكبة أنشطة الجمعية ضرورية بالنسبة إلى كل عقل متعطش للنهل من دنيا المعارف والعلوم الجديدة لأن الحدث فرض نفسه على الجميع ولم يترك لأحد أي فرصة للتردد على الرغم من التحفظات السابقة والانتقادات المهمة نتيجة بعض التصرفات المتناقضة مع الروح الفلسفية التي تقوم على النقد والاختلاف وتحترم مطلب التنوع والتعددية ومبدأ العيش سويا.
عندئذ تبدو هذه العودة منطقية ومنتظرة بالنسبة لأي مهتم يسعى إلى تحيين أفكاره ومزامنة روح عصره وذلك من جهتين: الأولى أن الجمعية هي الفضاء الفلسفي الطبيعي الذي يتربي فيه المتفلسف ويستقي منه معظم أفكاره الفلسفية حتى وان لم يقبل منها سوى الجيد ويثور على ما يتبقى من المسلمات الجاهزة والأحكام المسبقة والأكليشيهات الزائدة وحتى وان رسم لنفسه توجها مغايرا قريبا من ورشة عمل الفضاء العمومي ومنفتحا على العلم والدين والأدب.
أما الجهة الثانية فهي المناسبة الكبيرة التي ألزمت كل المشتغلين بالفكر الحر بضرورة الحضور والمشاركة من جهة الاستماع والتقبل والاطلاع والمساءلة والاستفسار والتحاور والتواصل مع الأساتذة الوافدين من عدة دول من العالم، والتي تتمثل في تنظيم تونس لملتقى فلسفي عالمي عدد32 من طرف “جمعية الجماعات الفلسفية الناطقة باللغة الفرنسية ASPLF ” وبالتعاون مع”الجمعية التونسية للدراسات الفلسفيةATEP” والعديد من مخابر البحث والوحدات العلمية التابعة لقسم الفلسفة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية 9 أفريل تونس مثل مخبر الفيلاب ومخبر الفلسفة والعلم ووحدة التفكير في العقلانية اليوم ووحدة تاريخ الفلسفة والعلوم العربية والإسلامية ووحدة الحداثة والأنوار وقد امتدت أشغال الملتقي من يوم 28 أوت إلى 01 سبتمبر 2008 بضاحية قمرت بتونس وتخللتها زيارات ترفيهية إلى مواقع أثرية بضاحية قرطاج واستقبال وتكريم للوفود المشاركة بالسفارة الفرنسية.
لقد كانت المحاور التي سعى المنظمون للاشتغال عليها موسعة ومترامية الأطراف والمسائل التي وقعت برمجتها كانت براقة وواعدة وغطت تاريخ الفلسفة بأكمله ابتداء بالإغريق مرورا بالرومان واستثناء الجهود العربية في الحقبة الوسيطة وانتهاء بالغرب الحديث والمعاصر ومعظم المذاهب والمدارس الفلسفية ممثلة في المثالية الألمانية والوجودية والماركسية والفنومينولوجيا والهرمينوتيقا والنزعة الرومنطقية والفلسفة المعاصرة وبالخصوص الكانطية الجديدة وفكر الاختلاف والنزعة ما بعد الهيجلية والابستيمولوجيا والبيواتيقا والنظريات المعاصرة في الفن .
لقد وقع تقسيم المداخلات ضمن ثلاثة مدارات:
– أشكال قديمة ومعاصرة من الكلي والإنساني وتضم الميتافيزيقا والفلسفة العامة والمنطق وفلسفة العلوم والتعبيرات الثقافية عن الكلي وبالخصوص التعبيرات الأسطورية والدينية والفنية.
– التحديات البيولوجية وتحولات الكلي من خلال إثباتات جديدة لهوية الإنساني وبالاستفادة من التقدم الحاصل من الكشوفات الجديدة التي أحرزتها التقنيات البيولوجية والبحث في رهاناتها والنقاشات الواسعة التي تثيرها.
– التحديات السياسية والتعديلات المزمع القيام بها من أجل استشراف مستقبل أفضل للإنسان والخوض في إشكالية العلاقة بين الكوسموبوليتية والسيادة الكونية والاهتمام بتوزع الفضاءات العامة بين الوطني العولمي.
لقد كان عنوان الديباجة التي أعدها منظمو الملتقى:” الكوني ومصير الإنسان” وتضمنت ببعض التصرف في الترجمة الإشكاليات التالية:” لماذا وقع اختيار “الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية ATEP” لمناقشة سؤال العلاقة بين الكونية ومصير الإنسان؟ لماذا نطرح لزوما معياريا إلى جانب واقع ما سيأتي حتما…؟ كيف نضع الكلي الذي يفترضان يقوم بمهمة تنظيمية تصالحية لجملة من المعارف والتجارب والتطبيقات المتشعبة والمتناقضة في مواجهة مع مصير غير يقيني وغامض يمكن أن يتجلى عبر فصول من التاريخ متفجرة ودون الارتباط بالمسارات المشتركة؟ كيف يتمفصل الكلي من حيث هو أفق لمثالية والذي يحملنا نحو غاية مثبتة سلفا ويظهر أنه يقوم بتحييد المستقبل مسبقا مع مصير في الفرد أو في الجمع إنساني ليس له أفق في الفرد أو في الجمع غير محدد إذن؟
كانت الجهود حثيثة من أجل تكوين اهتمامات مقسمة على مجموع الثقافات الراهنة وتقبل التوجيه نحو تحقيق الغايات المشتركة أو الاستعدادات الأخلاقية للبشرية حسب تعبير كانط.
اللافت للنظر أن الكلي الذي تعودنا على التفكير فيه كفكرة ناظمة ومثال تثبيتي أو وعد خلاص يمكن أن يختزل إلى مصدر حزن ويخفق في الوفاء بالانتظارات المشتركة الكبرى.
هذا التشكيك في الكلي أو التحذير من مخاطره نابع من الاختزال الذي تم في مستوى قدرتنا على التفكير في المستقبل المشترك وما يؤكد ذلك هو خلو التاريخ من هذا المنطق الداخلي الموجه نحو غايات كلية متمثلة في التقدم ومملكة الحرية والسلم الدائمة والمجتمع اللاطبقي.
بكل أسف هذا الاختزال المشترك للكلي ولقدرتنا على التفكير وعلى تهيئة مصير الإنساني يحد من اهتمامنا باللامشروط لأن الناس مهما كان التشكل الخصوصي لثقافتهم يظلون في حاجة في نفس الوقت إلى بعد كوني أي إعطاء أهداف مطلقة لقدرتهم على التفكير والفعل وهذا الأمر ليس سوى استكمال لكرامتهم الإنسانية. فهل نحن متهيئون لمواجهة الأخطار الكبيرة التي برزت منذ الآن ضد المستقبل المشترك لأي إنسانية آتية؟
هناك مخاطرة عند الوصول إلى نقطة اللاعودة في تقسيم الإنسانية إلى إنسانيات دائما غير متساوية والتي تواجه خطر تجفيف منابع الحياة على الأرض.
هذه المسألة البيئية هي متضامنة مع المسألة البيولوجية التي تتعلق بالإمكانية المتوفرة للنوع البشري من أجل التشكل عن طريق تدخل ميكانيزمات التكاثر طوال حياته. كما تظهر الوضعية التاريخية الحاضرة رفضا لكل اعتراف بقيم الآخر وهو ما يؤدي إلى انغلاق جميع الحضارات على ذاتها والدخول في حالة تصادم مع بعضها البعض.
ألا يكشف كل هذا في الآن نفسه عن وزن العوائق العملية التي تقف أمام الكلي وعن اتساع المجهودات التي ينبغي أن نبذلها من أجل تخطيها؟ كيف نفرق إذن في الكلي بين ما يمكن أن يكون تقلص في القدرة أو تمثل شمولي ومخصوص للإنساني وبين ما يستشف على العكس من لزوم أصيل لللاشرطية l’inconditionnalité؟
لهذا السبب فان التساؤل عن الأشكال المتضاربة من الكلي وبالتوازي مع المصير غير المضمون للإنساني هو منذ البدء تفكير فيما يمثل بالخصوص مجال الاتيقا والسياسة والحق والرافض للكلي من جهة والتفكير من جهة أخرى في مخاطر تصحير المستقبل بمعنى التنحي عن المسؤولية déresponsabilité تجاه الجماعات المنظمة . فكيف يكون نقد الواحد انتصارا للآخر أي نقد الهيمنة يكون انتصار لللاشرطية؟ كيف نعطي مقاربة تحصيلية واقعية للكلي مع مقاربة للمصير الإنساني مفتوحة على الممكن وعلى غير المحسوب ولكن دون الهروب أو العزوف عن مواجهة الصعوبات الحاضرة والقادمة؟
هكذا يكون السؤال الذي سيجمعنا هو سؤال جديد نسبيا وأنه يستوجب معالجة فكرية تنتبه إلى التغيرات الكبيرة الحاصلة التي شهدتها الإنسانية وتهتم بالتمييز بين ماهو محتمل وماهو مغاير لذلك؟
نحن نأمل إذن أن نقيس المسافات والاحترازات أو تحمسات الفلاسفة اليوم من أجل البحث عن المنفذ المؤدي إلى الكونية المتحققة (والتي يساهم في إنتاجها والاعتراف بها مختلف الثقافات الموجودة) التي يمكن أن نحلم بها ولكي نبحث عن المسالك التي نتبعها من أجل أن نتحمل مسؤوليتنا في المحافظة والإشادة بإنسانية الناس. ان طموحنا هو أن تتمكن المقاربة متعددة الاختصاصات في هذا النقاش والاهتمام الثابت بالتعددية الفلسفية من أن تساعدنا على التوجه نحو الفكر أثناء استشكال مطلب الكلي.”
فماهي الطرق والمناهج المقترحة من طرف المشاركين في سبيل طرح هذه الإشكاليات طرحا جيدا؟ وكيف تعاملوا مع القضايا الراهنة؟ وهل جاء سير الأحداث مطابقا للانتظارات والأهداف المبرمجة؟ والى أي مدى ترجمت الورشات والحلقات المستديرة هذه الوعود على أرض الواقع وأخرجتها من دائرة الإمكان إلى دائرة الوجود المتعين؟
ما يلفت الانتباه عند المتابعة لبعض المداخلات هو المجهود المبذول من بعض الأساتذة المرموقين لتقديم البضاعة الفكرية التي تتناسب الحدث مع ويظهر ذلك خاصة لما اعتصم فرنسوا بورجوا رئيس “الجماعة الفرنسية للفلسفة” كالعادة بالفكر الهيجلي إلى درجة الدغمائية وتحرك فليلنكو بشكل متواصل في الفضاء الكانطي الأخلاقي وسانده جان فيراري رئيس “جمعية الجماعات الفلسفية الناطقة باللغة الفرنسية” ذا الخلفية الكانطية وبحثه العقيم عن تشريع للكوني من منظور الحداثة السياسية التي بشر بها عصر الأنوار وعكستها مبادئ الثورة الفرنسية.
أما المواضيع التي اشتغل عليها الضيوف فهي عديدة وقد توزعت على الموائد المستديرة والمحاضرات والورشات وبالنسبة للموائد المستديرة وقع التطرق أولا إلى موضوع أنسنة الطبيعة من طرف أندريه ستانجيناك وما انجر عن ذلك من اهتمام بإشكالية التقنية والايدولوجيا والبيئة الاتيقا وبالموازاة مع ذلك دار نقاشا واسعا حول المثالية الألمانية بتنشيط من لوك لونغلوا وبحضور بورجوا وتناول المتناقشون مفاهيم الحرية والفكر ومعرفة الذات والديالكتيك والتأمل والمصير الإنساني وقد خصصت مائدة مستديرة لتذكر كل من جون لاكروا وفينان غوشي بحضور فيراري وجون مارك غابود وجون فرنسوا بيتي وإيريك مونجان والاعتراف لهما بالجميل على ما قدماه إلى الفلسفة تأليفا وتدريسا وتعريفا.
الحلقات المستديرة الأخرى كانت حول كونية القديس أوغسطين ومسألة الترجمة و مبدأ حسن الضيافة وقد لفت المتدخلون النظر إلى الأساتذة الذين درسوا بالجامعة التونسية متذكرين ميشيل فوكو بالخصوص والسنوات التي قضاها في تونس التي مثلت بالنسبة إليه محطة كبيرة ونقطة انطلاق في مسيرته الفلسفية.
والحق أن التنظيم كان مرضيا والجو مناسبا وسير الورشات والمحاضرات مقبولا ومعظم الشخصيات المدعوة كانت مبتهجة ومتفاعلة مع الحوار الفلسفي الدائر ولكن التدخلات كانت ذا مستوى متفاوت حينا يعانق الروعة والإبداع مع بعض المتفلسفة المرموقين المتمكنين من اللغة الفرنسية وأحيانا يهبط إلى درجة عادية مع بعض المتفلسفة الشباب أو البعض الذين فقدوا الكثير من التركيز ووجب تكريمهم بتشجيعهم على المزيد من البذل وتسليحهم بعناء الإضافة والبحث الشاق. لكن الإشكال الذي يظل عالقا والذي ينبغي تنظيم ملتقيات أخرى لمعالجته هو: أي مصير للإنسان؟ وهل يقتضي هذا المصير حضور أي نوع من أنواع الكلي أم غياب البعض منها أو كلها؟ ومن يصنع مصير الإنساني؟ هل الأمر بيد الإنسان أم بيد غيره؟ ومن هو هذا الغير؟
كاتب فلسفي