رشا عبدالله سلامة
منذ سنيّ مراهقتها كانت عليا تسمو على “التعقيدات العاطفية في المجتمعات الشرقية، والتي تشوبها السطوة الذكورية وعدم إيلاء صدق العاطفة والعفوية مكانا”، بحسبها.
لأجل ذلك كانت تلجأ عليا من نير “الواقع العاطفي الجلف” إلى ما تُطلق عليه “رومانسية الزمن الجميل” التي تتمثل بالنسبة إليها في الأفلام المصرية في حقبة الستينيات والسبعينيات وخصوصا تلك التي كان يلعب فيها عبد الحليم حافظ أو أنور وجدي دور البطولة.
دأبت عليا على هذا اللجوء إلى تلك العوالم الوردية حتى ناهزت العشرين من عمرها، ما طرح أمامها مواقف على المحك فيما يخص الزواج، إذ كان يُطلب منها الرضوخ لرغبة أهلها والجلوس مع من يتقدمون للخطبة كي تنتقي أحدهم.
كابرت عليا، التي غدت الآن ذات أربعة وعشرين ربيعا، على أمل أن تلتقي بفارس أحلام لا علاقة له بكل “سيناريوهات المجتمعات الشرقية في الزواج، بل بسيناريوهات أفلام عبد الحليم حافظ وسعاد حسني وشادية وغيرهم”، بيد أنها منحت أحد “الخُطّاب التقليديين” فرصة الرؤية، فتجاذبت معه أطراف حديث يخلو من أي رسميات مفتعلة، وبعد أن حلقت في رومانسيتها وأبقت له صورة وردية فرض الواقع الذي كانت تخاف منه دوما نفسه عليها، إذ بقي في مخيلتها ذلك اللقاء الجميل الذي تحفظه حتى الآن، فيما صديقاتها يضحكن ساخرات على رومانسيتها بينما يقلن لها “من توهمت في لقائه كل تلك الرومانسية والانفتاح الفكري لربما طاف حتى الآن على عشرين بيتا كي ينتقي عروسا مناسبة”.
والآن، آثرت عليا أن تعود لبرجها الرومانسي من جديد، وألاّ تتنازل مجددا عن مبادئها فيما يتعلق بـ “المجتمع الشرقي الذي يتخذ من العاطفة والارتباط مسرحا للافتعال البعيد كل البعد عن الصدق”.
تزيد قائلة “يبدو أن رومانسية الزمن الجميل دُفنت مع رموزه، إذ كانت تلك الرومانسية مستقاة من الواقع، وليس كما هو الحال اليوم، إذ تستميت الأعمال الرومانسية في إقناع الناس بها بلا جدوى”.
كذلك الحال مع سارة التي تبلغ من العمر ثلاثين عاما، والتي اصطدمت هي الأخرى بعتبة الواقع حينما أرادت تطبيق رومانسية الأعمال الدرامية على حياتها مع خطيبها السابق. تقول “كانت رومانسية سعاد حسني وعمر الشريف وميرفت أمين تهيمن على تصوري لأي علاقة سأخوضها يوما، حتى ارتبطت تقليديا بشاب وأردت بدء مشوار الرومانسية بعد الخطبة، فكان الإخفاق حليفي”.
تسوق سارة مثالا عن ذلك الإخفاق، إذ تقول “أوصيت أحد المحال التجارية إرسال باقة من الورد له في عيد ميلاده، ليكون جزائي اتصال هاتفي منه يخلو من الدفء الذي كنت أنتظره، بل نبهني بعصبية كي أكمل حديثي بسرعة لأن هاتفه سيفرغ من الشحن”.
مواقف أخرى كثيرة توالت مع سارة حتى قررت التنازل عن أحلامها الرومانسية والقبول بأقسى خيارات الواقع وهو الانفصال، بعدما ذهبت معه لشراء فستان الزفاف، وإذ به يزبّد ويرتعد من التكاليف “ما هشّم رومانسية الموقف” بحسبها، وهو ما جعلها تتأكد من وجهة نظره في الارتباط الذي يعدّه “مهمة يريد إتمامها دون النظر إلى جوانبها الرومانسية الجميلة”.
تضحك سارة بينما تبوح على سجيتها قائلة “يلعن هالأفلام والمسلسلات، عيّشتنا بعالم رومانسي مش موجود أصلا، صرت أكره أشوف أي عمل رومانسي.. كله كذب”.
من جهتها، ترى القاصة والكاتبة بسمة النسور أن “هذا الجيل أقل رومانسية مما سبقه، ولعل من أبرز الأسباب هي تلك المتعلقة بفقدان الدراما لتأثيرها السابق”.
وتوضح النسور، قائلة “جيلنا السابق بنى شخصيته على قراءاته ومشاهداته الفنية، أما جيل اليوم فقد عركته تعقيدات الحياة مبكرا، كما أسهمت وسائل الاتصالات المتاحة والسينما الحالية التي يهيمن عليها طابع الآكشن في تقليل جرعة الرومانسية إلى أدنى الدرجات”.
كذلك تلحظ النسور أن الفتاة العربية “باتت تتقمص شخصية الغربية من خلال الأفلام بدلا من نموذج فاتن حمامة ومريم فخر الدين الذي كان مهيمنا على الجيل السابق”. تقول “أبدَلَت الفتاة العربية رومانسية ونبرة صوت الفنانات السابقات بصراخ واسترجال الفتيات اللواتي يظهرن في الأفلام الغربية”.
ولا تنفي النسور أن هنالك من ما تزال لديه جرعة رومانسية من أبناء هذا الجيل، “بيد أنهم قلائل، إذ أن سكرة الحب قائمة على الوهم، وإيقاع الحياة الحديث أذهب هذا الوهم وقتله”.
ذات الأمر يشير إليه دكتور علم الاجتماع حسين الخزاعي، إذ يقول “الواقع شيء والتمثيل شي آخر، إذ يقدم التمثيل الواقع الرومانسي الجميل المفترض وجوده، بيد أن الواقع لا يكتفي بمخالفة تلك الرومانسية بل ومهاجمتها”.
ويكمل الخزاعي “ما يُكسب الأعمال الدرامية رومانسيتها هو قفزها على الاعتبارات الاجتماعية المحكومة بالعادات والتقاليد، فيتم بها إيلاء العاطفة الأولوية، لذا تتكسر هذه الرومانسية عندما يحاول أحدهم تطبيقها على أرض الواقع الذي يختلف كليا عن ظروف الدراما”.
ويقر مدير النصوص الدرامية في المركز العربي ياسر قبيلات بحاجة كل فرد إلى “الإشباع العاطفي، إذ نكاد نصل إلى مرحلة نتحدث فيها حاليا عن إصابتنا بجوع عاطفي عام، وهو ما يجدر بنا ملاحظته بداية قبل الحديث عن الدراما العاطفية”.
ويضيف قبيلات “بيد أن الاندماج في الحالة الرومانسية التي تقدمها الدراما للمشاهد إلى ذلك الحد المذكور يكون مرده نسيان المشاهد للفارق الموجود والفاصل بين عالم الخيال والواقع، ما يؤكد على أن الأجيال الناشئة باتت تعاني عدم نضج عاطفي بسبب نقص الإشباع، ما يجعلها تلجأ من علياء خيال الدراما إلى هوة الواقع دون وعي بحدوث ذلك”.
ويؤكد قبيلات أن هذه العوارض “تبرز بقوة لدى الجنس اللطيف”، غير أنه يشير إلى أن “الذكور ليسوا أقل عرضة لها، ولكنها تظهر لديهم بشكل مختلف، إذ تهيمن عليهم في الغالب الاهتمامات الجنسية المتضخمة فيما الفتيات يندفعن لإشباع الرغبات العاطفية ما يسبب خيبة أمل كبيرة يعقبها إحباط عندما تجمعهما علاقة”. ويخلص قبيلات إلى أن “الدراما تؤدي رغم كل شيء دورا اجتماعيا مهما، من خلال إعادة التأكيد على الحاجات العاطفية وأهمية اشباعها، بل إنها تسهم أيضا في إشباع جزء ولو يسير منها”.