دأبت وسائل الإعلام العربية والعالمية على تداول أخبار اللقاءات الفلسطينية “الاسرائيلية” بالمزيد من الضبابية_ إن لم نقل السوداوية_. بدليل ماتتناقله باستمرار من تصريحات لرئيس السلطة، ومسؤول ملف التفاوض. خاصة وأن ربع الساعة الأخيرة المتبقية من عمر رئيس حكومة العدو، قد سمحت للمراقبين، بالتوصل لاستنتاج يقول بعجز هكذا حكومة عن التعامل مع القضايا الأساسية. كما أن حالة الإدارة الأمريكية التي بدأت تلملم أوراقها لمغادرة البيت الأبيض خلال الأشهر القليلة القادمة، قد أوصلت_ مع أوضاع أخرى تعيشها هذه الإدارة _المتفاوضين إلى حالة الجمود الراهنة. بالإضافة للخلاف الفلسطيني الداخلي، حول جدوى المفاوضات في ظل الوضع القائم على الأرض، في تحقيقها لأية مكاسب للشعب الفلسطيني.
جاءت تصريحات رئيس السلطة خلال الأيام القليلة الماضية، في بيروت وايطاليا والقاهرة، التي زارها تباعاً، لتوحي بوصول المفاوضات لأزمة حقيقية. فقد استبعد في معظم أحاديثه (التوصل إلى اتفاق سلام مع “الإسرائيليين” يشمل كافة القضايا قبل نهاية السنة. وأن لا يوقع على اتفاق لا يشمل القضايا الست الرئيسية).وهذا ماأشار إليه أحمد قريع رئيس الوفد المفاوض أثناء لقائه مندوب اللجنة الرباعية “طوني بلير” في أبو ديس قبل أيام(لن نوافق على تأجيل أو تأخير البحث في أي موضوع من مواضيع التسوية الدائمة بما في ذلك القدس واللاجئين). جاءت هذه المواقف،المترافقة مع التصريحات المتوازية التي أطلقها مؤخراً سلام فياض وصائب عريقات، لتدلل على طبيعة المأزق الذي وصلت إليه هذه اللقاءات المتواصلة، والمشمولة في رعايتها من سيدة الدبلوماسية الأمريكية، التي حرصت على مساهمتها الميدانية _ ثمانية عشر زيارة _في حلحلة العقد المستعصية بما يتلاءم مع مصلحة حكومة العدو، التي تعمل في هذا “الوقت المستقطع” على تطبيق بنود برنامجها الاحتلالي/الاستعماري، مستفيدة من ضعف سلطة رام الله المحتلة، التي فقدت منذ لحظة وجودها قدرتها على الحركة والمناورة و “السيادة” التي نفتها تماماً بنود اتفاق أوسلو.
في ظل هذه الحالة المأزومة، حاولت قيادة التفاوض ممارسة نوع جديد من “الضغوط” على حكومة العدو، والإدارة الأمريكية الداعمة لها. فقد تحدث رئيس الوفد المفاوض في اللقاء المشار اليه من( أن احد الخيارات الابرز أمام الفلسطينيين هو الاعلان بشكل أحادي الجانب عن اقامة دولة فلسطينية). إن أية دراسة ميدانية، تؤكد استحالة تحقيق هذا الخيار، نتيجة الوقائع المثبتة على الأرض المحتلة منذ عام 1967 “الجدار الاحتلالي/التقسيمي، كتل المستعمرات، مصادرة الأرض والثروة الباطنية، الارتباط والتشابك الكاملين بالاقتصاد والبنى التحتية مع حكومة العدو، التقطيع والتفتيت للوحدة الجغرافية “. وقد جاء هذا الموقف بعد مرور أيام قليلة، على حديث له، حول رؤيته للخروج من المأزق الراهن، من خلال اللجوء إلى خيار(الدولة ثنائية القومية). إن الرد على أزمة الاستعصاء التي تشكو منها الحالة التفاوضية بين الطرفين لاتتطلب القفز في الفراغ، بمقدار ماتستوجب العودة إلى البرنامج السياسي/ الكفاحي للحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن الفارق الكبير مابين تحقيق الدولة الفلسطينية بالإعلان الأحادي عن قيامها، والوصول لتلك الدولة الثنائية المتخيلة، مع مايتضمنه كل تصور، من اسقاط لحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المحتل مرتين 1948 و 1967).
وفي هذا الإطار من “الاجتهادات” المتطيرة، في سبيل البحث عن مخارج، جاء كلام “سري نسيبة” الأكاديمي المعروف بأفكاره المثيرة للجدل، وبعلاقته الحميمة مع أحد القادة الأمنيين السابقين في المؤسسة الصهيونية “عامي أيالون”، عبر عدة صحف “هآرتس” و”القدس” في منتصف الشهر المنصرم، عندما أكد على “الدولة ثنائية القومية”، مسقطاً حق المواطن الفلسطيني في وطنه، وداعياً لتحقيق ” المساواة” في هذه الدولة العتيدة. داعياً إلى(استبدال الكفاح من أجل الاستقلال، بالكفاح من أجل المساواة في الحقوق وحق العودة). لكن “نسيبة” يدعو إلى إدراج هذا الحق _العودة_ في صفقة للمقايضة (بالنسبة لنا، مهما كان حل قضية اللاجئين هاما للفلسطينيين، فإن القدس أهم لهم ولباقي العرب والمسلمين. ومن أجل القدس سيوافق حتى اللاجئون الأكثر تطرفا على تقديم التنازلات. لذلك نقول أن القدس هي المفتاح الوحيد للتنازل عن حق العودة). إن هذا الإعلان الخطير الذي يضع مصير القضية الوطنية في بازار المقايضة والتفاضل، يشير إلى وصول بعض دعاة الحوار والتفاوض، البعيدين عن الأضواء، إلى مراحل متقدمة في رسم ملامح التنازلات في المرحلة القادمة، مما ينبىء بحصول الانهيار الشامل.
إن وقف الانزلاق نحو الكارثة، مرهون بضرورة تحقيق توافق وطني عام حول برنامج العمل السياسي/الكفاحي للشعب الفلسطيني في كافة مناطق تواجده . فالتمزق الجغرافي والسياسي والمجتمعي، أعطى للسياسة العدوانية الاحتلالية،مبررات البقاء والتمدد. خاصة وأن العديد من السياسات والممارسات داخل المؤسسات الإدارية والأمنية التي أوجدها اتفاق اوسلو، قد فاقمت من الأزمة الداخلية. كما أن الشرخ الكبير قد انتقل منذ فترة إلى داخل الأطر والصيغ التوافقية الفلسطينية. ومانقلته الأنباء عن الخضات العنيفة التي دارت في الإجتماعات التشاورية/التداولية التي تمت خلال الأسبوعين الماضيين لأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المتواجدين في عمان، تؤكد على أن التجاذبات والاختلافات حول إعادة تهيئة المجلس لتحمل دوره، والقيام بوظيفته، لم تعد مجال خلاف بين القوى السياسية، بل_ولاعتبارات عديدة_داخل اللون السياسي الواحد، لأن البعض يريد إعادة ترتيب المجلس، بأعضائه ومهامه، بما يتلاءم مع رؤيته .
في ظل هذا المشهد، لابد من خطوات جماهيرية، منظمة وفاعلة، تعمل على إعادة ضبط الحراك الراهن، وتوجيهه نحو لملمة الأوضاع الداخلية على قاعدة التمسك ببرنامج المقاومة.