أوردت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية فى عددها الصادر الخميس نبأ عن أن الولايات المتحدة رفضت مؤخرا طلبا إسرائيليا بتزويدها بقنابل ذكية قادرة على اختراق ملاجئ محصنة تحت الأرض، كما لم توفر لها ممراً فى الأجواء العراقية بهدف مهاجمة المنشآت النووية فى إيران.
ويُقرأ فى هذا الرفض الأمريكى غير المعهود إقرارٌ ضمنى أمريكى بفشل تجربة الحربين “الرئيستين” على العراق وأفغانستان فضلا عن هزيمتين فى حربين “فرعيتين” أخريين بالوكالة هما حرب لبنان فى تموز 2006 وحرب جورجيا الأخيرة.
فالمانع الذى يمكن أن يحول دون الإدارة الأمريكية وتقديم دعم عسكرى لإسرائيل “الإبنة” المدللة للولايات المتحدة لا يمكن إلا أن يكون قاهرا مثل التيقن مسبقا من أن التورط فى حرب جديدة سيكون هزيمة ماحقة يمكن أن يكون لها أخطر النتائج الاستراتيجية.
وإذا كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة قد أغدقت بسخاء بالغ شتى أنواع الدعوم اقتصادية وعسكرية، مالية وتقنية، على تل أبيب، فإن إدارة جورج بوش الحالية تماهت مع إسرائيل فى كثير من القضايا، بل كانت فى كثير منها أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين، ومن هنا يصبح رفضها ولأول مرة أن تغطى لوجستيا هجومها المحتمل على إيران، وأن تفتح لها أجواء العراق المحتل لعبور مقاتلاتها باتجاه الأراضى الإيرانية.. يصبح مؤشرا على مخاوف قوية من تبعات الهجوم بل يقينا مسبقا من الهزيمة، خصوصا وأن ذلك الرفض يصدر بالذات عن إدارة جورج بوش التى عرفت منذ تسلمها زمام القيادة فى البيت الأبيض، باندفاعها الشديد نحو خوض الحروب لم تثنها عن ذلك الموانع الأخلاقية الإنسانية، ولا العوائق القانونية الدولية، ولا حتى اعتراضات أخلص حلفائها.
ويحق للمراقبين أن يتساءلوا عن البديل الذى تملكه الولايات المتحدة فى مواجهة الخصم العنيد إيران التى أبدت تصميما شديدا على مواصلة برنامجها النووي، كما أظهرت “براعة” نادرة فى اللعب بالورقة العراقية وتطويع الورطة الأمريكية هناك للى ذراع إدارة الرئيس بوش، مستخدمة نفوذها الواسع فى أرض الرافدين وقدرتها عبر الميليشيات الموالية لها على تسخين الوضع فى العراق وتبريده حسب مقتضيات مصالحها.
إجابة على ذلك يذكّر محللون بالمؤشرات الكثيرة التى توالت على مدى الأشهر الأخيرة عن وجود صفقة ما بين طهران وواشنطن، تحفظ مصالح الطرفين وتتم على حساب العراق وبالنتيجة على حساب المصالح العربية، ولعل من أبرز نتائج تلك الصفقة جنوح الزعيم الشيعى مقتدى الصدر – بضغط من إيران حسب ما ذهب إليه متابعون للشأن العراقي- إلى التهدئة وقبوله التحول تدريجيا من العمل المسلح إلى العمل السياسي، وهو الأمر الذى يقدمه العديد من المحللين كسبب رئيس للهدوء النسبى الذى شهده الوضع الأمنى فى العراق مؤخرا.
وهكذا فإن إدارة جورج بوش تكون قد آثرت -وهى على أعتاب الرحيل عن سدة الحكم- البحث عن حل آخر للملف الإيرانى غير الحل العسكرى الذى تعرف أن الخسارة فيه مضمونة سلفا مفضلة صم الآذان عن الزعيق الإسرائيلى المدوى بشأن الخطر النووى الإيراني، وكان من نتيجة هذا الخيار الأمريكى الواضح أن رفضت واشنطن -وفق ما أوردته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية- تقديم “رزمة من المساعدات الأمنية” لتل أبيب تحسباً من شنها هجوما ضد إيران شملت عددا كبيرا من القنابل الذكية وتنسيق الحركة الجوية باتجاه إيران وطائرات تزويد وقود وجهازا تكنولوجيا متطورا.
وحسب ذات المصدر فقد تباحث فى الأشهر الأخيرة مسؤولون أميركيون وإسرائيليون بشأن المطالب الإسرائيلية.
وقالت “هآرتس” إن رفض الولايات المتحدة للمطالب الإسرائيلية من شأنه أن يضع صعوبات كبيرة أمام هجوم إسرائيلى ضد إيران فى حال تقرر شنه ، لافتتة إلى أن الجانب الأميركى رأى بالمطالب الإسرائيلية مؤشرا لوجود استعدادات إسرائيلية متقدمة لمهاجمة إيران.
وبذلك تكون إدارة بوش بصدد ممارسة دور معاكس تماما لتوجهاتها وطموحاتها، حيث كانت قد جاءت البيت الأبيض محملة بأوهام عن إمكانية فرض سيطرة أحادية نهائية على العالم باستخدام القوة العسكرية، وقد بادرت فعلا بإشعال حربين عجزت إلى الآن عن إنهائهما وهما حربا العراق وأفغانستان، كما كانت قد شجعت إسرائيل على القضاء على المقاومة اللبنانية، مزودة إياها بقنابل ذكية من طراز “جي. بي. يو 28” قبيل الحرب على لبنان وأثناءها وفق ما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، وهى قنابل زنة الواحدة 2.2 طناً وقادرة على اختراق اسمنت مسلح بسماكة ستة أمتار.
“هآرتس” أوردت أيضا تفصيلا يتعلق بالممر الجوى يبين فعلا أن إدارة بوش لا ترغب فى تحمل مسؤولية حرب جديدة فى المنطقة، حيث نقلت الصحيفة عن مصادر سياسية وأمنية إسرائيلية قولها إن الولايات المتحدة رفضت منح إسرائيل ممراً جويا فى العراق باتجاه إيران لكنها وجهت الإسرائيليين إلى رئيس الوزراء العراقى نورى المالكي، وقال المسؤولون الأميركيون لنظرائهم الإسرائيليين “إذا أردتم نسّقوا الأمر معه”، وبمعنى آخر أن إدارة بوش تفصت من المسؤولية، وهى تعلم مسبقا أن المالكى لا يستطيع أن يتخذ قرارا من هذا الحجم دون الرجوع إليها.
وقد جرى التباحث فى هذه المطالب الإسرائيلية -وفق “هآرتس” أيضا- خلال الزيارة الثانية التى قام بها الرئيس الأميركى جورج بوش لإسرائيل هذا العام فى شهر أيار/مايو الماضى كما بحث وزير الدفاع الإسرائيلى ايهود باراك الموضوع خلال زيارته للولايات المتحدة فى شهر تموز/يوليو الماضي.
وأوضح الجانب الأميركى فى سلسلة من الاجتماعات بين الجانبين وعلى أعلى المستويات أن الولايات المتحدة فى المرحلة الحالية متمسكة بالخيار السياسى لوقف البرنامج النووى الإيرانى وأن واشنطن لا تمنح إسرائيل “ضوءا أخضر” لمهاجمة إيران.
ومقابل رفض المطالب الإسرائيلية، وكتعويض على ذلك، وافقت الولايات المتحدة على تزويد إسرائيل بدفاعات جوية على شكل رادار يشغله ثلاثة خبراء أميركيين مرتبط بجهاز إنذار مبكر من الصواريخ ويكون قادرا على رصد الصواريخ الإيرانية لدى إطلاقها.. بمعنى أن الولايات المتحدة تدعم خيار دفاع إسرائيل عن نفسها، لا خيار المبادرة بالهجوم، ما يعنى بالنتيجة فشل خيار الحروب الاستباقية الذى لطالما نظّر له بوش وطاقمه قبل أن تحترق أصابعهم بنيرانه فى العراق وأفغانستان ولبنان.. وجرجيا حديثا.