عناصر كثيرة حاكى فيها “كباريه” هذه الموجة إلى حد انصهاره الكلي في بوتقة افلامها مثل “ليلة البيبي دول” و”الريس عمر حرب” و”دم الغزال” وغيرها، منها عنصر البطولة الجماعية الذي يبتعد عن محور البطل الواحد سواء كان الهدف من ذلك التسويق للفيلم من خلال ثلة النجوم الذين يحفل بهم، أو في سعي نحو إعطاء الفرصة للقضايا المطروحة بشخصياتها كافة كي تظهر بعدالة أمام المشاهدين.
عنصر آخر تمثل في التركيز على بُعدي أنسنة الانحلال والإرهاب من خلال التعريض للظروف الإنسانية التي تقف وراء الحالتين، والتي ليس أقلها الفقر المدقع والفراغ الفكري وتسلط الجماعات المتشددة على شباب ساذجين، إلى جانب الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي المستشري في البلاد العربية والذي يدفع بأفراد كثيرين نحو سلوك أحد الدربين.
نقطة أخرى لطالما أثارت جدلية في السينما المصرية وهي التعريض لشخصيات عربية بعينها وخصوصاً العراقية التي لم تكن المرة الأولى التي تُطرح بها بهذه الفجاجة.
في “الريس عمر حرب” كان العراقي أحد كبار المقامرين والفاسدين أخلاقياً، كما هي الشخصية النسائية العراقية التي ظهرت في “كباريه”، وهي الفاسدة أخلاقياً والتي تتمتع بثراء فاحش مشبوه تنغمس فيه مع فنانين مغمورين في غياهب عوالم الليل والكباريهات.
وإن كان التركيز دوماً في الأفلام المصرية على الشخصية الخليجية التي تُرسم بطريقة كاريكاتيرية وخصوصاً عند استغراقها في الأجواء المشبوهة كالشخصية الكويتية في “كباريه”، إلا أن النقطة الأهم والتي حُسبت على الفيلم وليس له تمثلت في أحد مقاطع الحوار الذي تحدثت فيه الشخصية العراقية الفاسدة عن شجونها لما يجري في العراق من دوامة عنف وتقتيل واحتلال.
حمل هذا المشهد معنيين محتملين، أحدهما ربما رمز من المخرج لعواقب هذا الانغماس العراقي في دوامات مبتذلة بينما بلادهم تغرق في الظلام وهو ما لا يعد دقيقاً على أرض الواقع، إذ ليس ذلك هو السبب فيما مر وما يزال يمر على العراق من ظروف عصيبة.
الاحتمال الثاني، الذي سقط الفيلم في حفرته بينما كان يحاول جعل المشهد كوميدياً وهو التسويق لتعجب الأميركان ومن قبلهم الإسرائيليون من تعلق العرب الشديد برمزية بلدانهم وحريتها فيما هم لم يزوروها بل وربما قاسوا ويلاتها التي يجدر بها دفعهم نحو التبرؤ منها بحسب منطقهم التوسعي، كان ذلك جلياً عندما كانت الشخصية العراقية الفاسدة بين أقداح الخمر وأحضان المطرب المغمور بينما هي تتألم لحال العراق من على شاشة التلفاز!
مرة أخرى أيضاً يتم تسطيح التخطيطات والتنظيمات الإرهابية إلى حد يبعث على السخرية والضحك، فيما الواقع الذي يعترف به العدو أولاً قبل الدول العربية هو جسامة ودقة هذه التخطيطات والتنظيمات وفداحة فكرها التكفيري، الذي بقي حتى الآن عصياً على التنوير وحتى أخذ الاحتياطات الوقائية الكافية منه.
الشخصية الإرهابية في فيلم “كباريه”، والتي كان المخطط لها أن تفجر الكباريه المشبوه سقطت في مشاهد عدة بفخ التسطيح الآنف، إذ يتم تغسيل هذا الشاب من قِبل رفاقه قبل توجهه نحو الاستشهاد المزعوم بطريقة وبروتوكولات أثارت ضحك المشاهدين أيضاً على هيئة وشكل الحوار الدائر بين أفراد التنظيم، إلى جانب مشهد وقع فيه الفيلم في مطب التذاكي، إذ أراد تصوير الفكر المنغلق للإرهابيين والمتشددين إلى حد عدم احتمالهم رؤية مشهد فتاة ترقص حتى وإن كان ذلك في سبيل التمثيل على الموجودين لتفجيرهم!
فكان أن تعرّق ذلك الشاب وارتبك وكاد أن يصاب بالانهيار من مشاهد الرقص إلى حد جلب الشبهة وخصوصاً عندما كان يستغفر بطريقة واضحة في الكباريه.
فكرة كهذه ما كان يجدر طرحها بكل ذلك الاستسهال الذي اقترفه الفيلم كما أفلام سابقة في سبيل استفزاز الإرهابيين وزعم تعرية فكرهم أمام المشاهدين، إلى جانب أن التركيز على قضية الإرهاب في الأفلام العربية بات إما مجاراة للموضة السائدة ورغبة في تسويق الفيلم عالمياً، أو هو اعتراف وإشهار بالهوية الإرهابية التي يريد الغرب إلصاقها بالعالم العربي رغم أنه هو من كان ضحية للإرهاب الذي أوقعه المحتلون به منذ سالف العصور وحتى اليوم، إلى جانب أن التعسف والتضييق على العرب وانتهاك حقوقهم كانت العوامل الأبرز في إفراز بعض التنظيمات الإرهابية التي جُعِلت شماعة لتعليق كل كوارث الاحتلال واغتصاب الحقوق عليها.
قمة الدراما امتزجت في الفيلم مع قمة الكوميديا، عندما وقف الإرهابي على إحدى طاولات الكباريه لتفجير حزامه الناسف بينما ضاع صوت تكبيراته العالي بين ضجيج الغناء وهتافات الرقص وقرع الكؤوس، لتنهمر دموعه بعدها على هذا الإخفاق ما جعل ذروة تشدده تتبدد لتنقلب في لحظات إلى قمة الانحلال عندما ظل يصب الخمر حتى وصل الثمالة! هذا المشهد حُسب لصالح الفيلم، إذ أفلح في سبر أغوار النفسية المتشددة والإرهابية عموماً، إذ الأعلى جعجعة دوماً هو الأسرع سقوطاً كما حدث مع الشخصية الإرهابية.
يُحسب أيضاً لصالح الفيلم فيما يخص قضيتي التدين والإرهاب اللتين لطالما اختلطتا ببعضهما في أفلام سابقة، عن قصد أو غير قصد، أنه عرض الشخصية المتدينة المعتدلة والتي انتصر لها المخرج بشكل مفتعل عندما جعلها الوحيدة الناجية في النهاية من التفجير، والتي أداها الممثل أحمد بدير، فهو المتدين الذي لا يقطع فرضاً ولا يعاقر أي نوع من المحرمات، غير أنه يضطر للعمل كمدير لصالة الكباريه لأن راتبه حينها سيكون أضعاف الرواتب العادية التي لا تستطيع الوفاء بالتزاماته ومسؤولياته الكثيرة.
كذلك استطاع الفيلم تسليط الضوء على أزمة الهوية الدينية العربية، التي تمتزج بالتعود والتقليد الاجتماعي فيما هي بعيدة في معظم حالاتها عن الفلسفة العقلية والاقتناع بالإسلام كفكر.
كان ذلك من خلال شخصيتيّ الممثلة السورية جمانة مراد، والتي كفّرت بأدائها المتميز في “كباريه” عن فيلمها السابق “لحظات أنوثة”، إذ هي الفتاة البارة بأمها والمتفانية في خدمتها والتي تلجأ لدروب الكباريه الملتوية حتى تضمن علاج والدتها والحد الأدنى من العيش الكريم والأهم هو ادخار مبلغ كافٍ لإرسال والدتها إلى فريضة الحج، فيما الشخصية الثانية والتي مثلت ذروة التناقض الديني كانت شخصية مالك الكباريه الذي يطل من شرفته الزجاجية على سيرورة العمل في الكباريه الذي ورثه عن والده، فيما هو لا يستمع إلا للأهازيج الصوفية ولا يشرب الخمر ولا يقترب من النساء، بل ويذهب سنوياً لأداء فريضة العمرة مع عائلته.
مشاهد أخرى عرضت لقضايا عابرة، وظهر من خلالها المخرج مستميتا في تكثيف أكبر قدر من القضايا العربية العالقة كالإهمال الطبي والاستهتار بحياة المواطنين والذي أدى لبتر رجل إحدى الشخصيات عن طريق الخطأ بينه وبين مريض آخر، كذلك التطرق لـ”الفيس بوك” الذي تنشئ عليه إحدى العاهرات مجموعة لاصطياد الشباب، ما يرمز لتسخير العرب للتكنولوجيا لخدمة هوسهم الجنسي والذي رمز إليه ايضاً العريس الذي يأتي وعروسه للسهر في الكباريه ببدلتيّ العرس ما يدفع معظم الزبائن وعابري المكان وموظفيه للتطوع لإعطائه منشطات جنسية ضارة تُفقده وعيه في آخر المطاف.
شخصية أخرى عرّض لها الفيلم بطريقة مبهمة، أراد من خلالها المخرج حشو عامل الإحباط السياسي ضمن العوامل التي تدفع بالعرب نحو منزلقات الانحلال والانغماس في الملذات على حساب القضايا الجادة، وهي تلك الشخصية الحربية السابقة التي تمثلت في شاب يفقد صوته ورفاقه في إحدى المعارك الحربية غير الواضحة ملامحها للمشاهد، فتستغني عنه الدولة بعدها حتى يجد الكباريه الذي يضمن له شيئاً من العيش الكريم.
وإن كان فيلم “كباريه” أفلح في إدخال المُشاهد في الجو الحقيقي والواقعي لعوالم السهرات الحمراء والفن الفاسد، الذي ألمح لشخصيات فنية مصرية بعينها، والفساد الأخلاقي والتعفن الاجتماعي والسياسي والفكري، رغم الإسهاب في عرض وصلات الغناء والرقص على حساب الأحداث، إلا أنه استطاع إخراج المُشاهد من كل ذلك الضجيج على دوي الانفجار، غير الجاد اخراجيا، الذي ينفذه الإرهابيون في آخر الفيلم، والذي يحصد أرواح ضحايا الفقر والتهميش والفساد والإرهاب والانحلال وكل القضايا العربية العالقة.