ناظم السعود
قراءة في مجموعنه ” قبعة الافعى “
تسعى القصيدة الحديثة في كثير من اشكالها ومضامينها وآلياتها ، الى استنهاض فكرة غائبة أو حقيقة ضائعة أو حلم موؤود ، كأنها تحاول البرهنة على ان بنيتها هي اكثر اشراقاً ومصادقية من حقيقة العالم الظاهرة ومن صور المرئيات البارخة ، القصيدة التي تصبح قرينة لواقع موعود وأمل مندرس وغد
قد لا يأتي.
وما فعله الشاعر فائز الحداد في مجموعته ( قبعة الأفعى ) هو أنه أظهر بعضاً من تشوقاته المجهضة.. بفعل قوى شتى وأماط اللثام عن ما يكنه من لوعات وصبابات تنطلق بأهات جمعية محتبسة حتى وأن جاءت بلسان فردي موجوع.
ويجد قارئ المجموعة أن الشاعر قد شحن قصائده بمتن تعبيري هو ما اسميه ” الحرية الغائبة ” التي تكاد تنز من جل ابيات القصائد على اختلاف صورها ومبانيها، ولكن تبقى ظلال القصائد وايحاءاتها تنطق بذلك المتن الغائب .. أي الحرية في أكثر أشكالها معرفة وأقل حظوظها ظهوراً، لنقرأ مثلاً :
( رجل طفولته من شوك.. وتفاحته توارت في قبعة الحراس.. أمسك بالوهم وضاع في السياط )
أن هذا المقطع البليغ من قصيدة جزيرة العصافير, ينبئ تماماً عن ما قلناه : من أن الشاعر يهتك بقصدية غير مضمرة ذلك الغياب المريع ل ( التفاحة المحرمة ) ، وهذه كتابة واخزة للحرية الغائبة ومثل هذا يتكرر كثيراً في المجموعة ، وهو ما يفضح بعضاً من المسكوت عنه خارج النص، وجاء الشاعر ليعيد ترتيب ذلك الغياب في متون تعبيرية مفترضة هي اكثر انتماء وجهراً وشهادة لمرحلة هشة وزمان مبتلى.
ثمة خصيصة اخرى يمتاز بها شعر فائز الحداد تلك التي تتمثل بمقدادر الضوء الذي يسكبه مرة أثر اخرى في عتمة الواقع وشروخ النص ، في محاولة اكيدة منه على عدم اشاعة الوهن والاغتراب والضياع التي تنوء بقتامتها اغلب قصائده… لكأنه أرادالقول :
أن اليراع التي تخز الأناء والموبقات وتدفعها بالفصح والاعلان.. هي نفسها قادرة على فتح مسارب الضوء وكوى الأمل وتلك هي مهمة الشعر النبيلة في رأيي ، أذ يصبح من العبث وغير المجدي ان نضيف مزيداً من القبح واليأس الى هذا العالم المتداعي ، وانما قليل من الضوء يكفي لتبديد العتمة المنطبقة .. لنقرأ مثلاً :
( سأمضي اليك .. بأميال الغيمة ، وعند الفجر.. أمنح الطيور جوازاتها لتؤذن ، وادق النواقيس .. لأراك تسبحين ) ، وفي قصائد اخرى يعمد الحداد الى تدوير معنى ما بغير دلالته المشاعة في محاولة منه لاشاعة دلال جديدة … وذلك اجتهاد شعري يحسب له وحده .. كما فعل ويفعل مرارا في معنى ( المطر ) الذي يعرف بالخصب والنماء ، بينما جاء به ك ( ثورة ) دلالة للفجيعة والانتهاك والموت والشرور المستمرة!!
وفي احدى قصائده يسلم الشاعر المفاتيح الى ( نبي المياه ) في اشارة منه الى خلاص قد يأتي بعد التواطوء ، ولعل الملاحظة الأهم التي يخرج بها قارئ هذه المجموعة .. انها تكاد تخلو من ايما ذكر أو رمز أو اسطورة لشخصية تشي ببعد تراث او تاريخي ( مغربي او مشرقي ) وهذا بيان صريح من ان الشاعر اكتفى بهموم وفواجع الحاضر واجهد نفسه في كشف وتعليل اساطير الاخرين عوضاً عن تقليد الرماد والغبار وما كان من اساطير الاولين.. الغافين!!.
نعم .. سيجد القارئ بعض هنات التجارب الاولى في هذه المجموعة المتميزة ، ويتوضح ذلك من كمية الرؤى والاستطرادات التي يكتفي بها جسد بعض القصائد ، وهناك تلغيز وطلاسم ينوء بها هذا المقطع او ذاك.. ولا ننسى تلك الحسية التي تفوح مراراً من كثير القصائد ، ولكن كل هذا لا يمنع من القول :
ان الشاعر فائز الحداد قد اظهر في اولى مجموعاته الشعرية امكانية راكزة في استجلاب الهم العام الى مكان الجمر التعبيري ، ولديه من الجسارة الشعرية والبوح اللغوي السلس ما يمكنه من الخوض بشجاعة في عباب الواقع وجسد القصيدة.. وهذا ما ننتظره منه دائما.