ان التورط في تفاصيل الاتهامات المتبادلة بين رام الله وغزة حول الاضراب الحالي في قطاع غزة (بالفصل الوظيفي التعسفي على اساس سياسي ، والتعيين الوظيفي على الاساس نفسه ، وباستغلال العمل النقابي لاغراض سياسية ، وبتحويل رواتب العمال الى سلاح يستخدم ضدهم ، وبزج لقمة عيشهم في اصطراع فصائلي – حزبي لا ناقة لهم فيه ولا جمل) ، انما هو تورط يحجب حقيقة ان الانقسام الفلسطيني الراهن قد تحول الى عامل جديد من العوامل التي تزيد في تدهور اوضاع العمل والعمال الفلسطينيين ، يضاف الى الاحتلال وموجتي الغلاء والجوع العالميتين والفساد في سلطة الحكم الذاتي و”خطة الاصلاح الاقتصادي والتنمية” التي تطبقها حكومة الدكتور سلام فياض ، كما انه تورط يحجب قضايا نقابية وعمالية واقتصادية ذات ابعاد وطنية تستحق فعلا اضرابا وطنيا عاما ، مسيسا تماما ، لا بل انتفاضة عمالية ربما تكون هي المدخل الى وحدة وطنية نضالية حقا تنفض عنها كثيرا من الاطر النقابية والسياسية التي تاكلت حتى اصبح لوجودها نتائج معاكسة تماما للاهداف التي انشئت من اجلها .
فالاتفاقية التي وقعها الاتحاد العام لنقابات العمال مع الهستدروت الاسرائيلي اوائل الشهر الماضي بحجة “حماية العمال الفلسطينيين الذين يستخدمهم اصحاب عمل اسرائيليون” ، دون أي نص على مساواتهم بالعمال الاسرائيليين ، لم تحظ بما تستحقه من اهتمام الراي العام النقابي ، ودون التسرع بتوجيه الاتهام الجاهز ب”التطبيع” فان امين عام الاتحاد شاهر سعد بحاجة الى الاجابة على مجموعة من الاسئلة ، مثل: ما هي الحكمة من توقيت توقيع الاتفاقية الان بينما السياسة الرسمية لدولة الاحتلال تتجه نحو “اسرلة” كاملة لقوة العمل فيها ، لا بل ان وزارة مالية دولة الاحتلال في مشروعها لميزانية عام 2009 المقبل تخطط للاستغناء عن (15) الف عامل فلسطيني بحيث قد “لا يبقى قريبا أي عمال فلسطينيين في قطاع البناء” ، كما تخطط لفرض ضريبة سنوية قدرها الف دولار اميركي على كل عامل فلسطيني ، كما ذكرت رويترز في الثامن والعشرين من الشهر الماضي ، بالرغم من ان مناشدة الدول المانحة الراعية لما يسمى “عملية السلام” لم تتوقف لفتح سوق العمل الاسرائيلي امام العمال الفلسطينيين من الارض المحتلة عام 1967 ؟
ثم ما هي “المبادرات المشتركة” التي ستقوم على اساسها “العلاقات المستقبلية” بين الطرفين من اجل تعزيز “الاخوة والتعايش السلمي بين الشعبين” ، كما جاء في التصريح الصحفي الذي اصدرته الكونفدرالية الدولية للنقابات بالمناسبة ؟ واي اخوة وتعايش يمكن ان يكونا بين جماهير العمل الفلسطيني وبين جماهير الهستدروت التي خدمت اغلبيتها الساحقة وما زالت تخدم في جيش الاحتلال المسؤول عن ربع مليون فلسطيني عاطل عن العمل ، حسب تقارير منظمة العمل الدولية لعام 2005 ، أي قبل ان تدخل حماس المشهد السياسي الفلسطيني الرسمي ويتخذ الاحتلال من دخولها هذا قميص عثمان لتسويغ سياسة الحصار و التجويع المفروضة على الشعب الفلسطيني ؟ فهل حدث مثيل لاتفاق كهذا في تاريخ أي شعب او امة خضعت للاحتلال ، بينما الاحتلال ما زال قائما ومستمرا ؟ فحتى “احزاب الطبقة العاملة” الشيوعية لم تعرف الا “اخوة” سلاح المقاومة ضد الغازي والمحتل كعلاقة “اخوية” عمالية مشروعة . فاذا لم يكن كل هذا تطبيعا نقابيا وعماليا مجانيا يطيل امد الاحتلال فليقل لنا احد ماذا يكون ؟!
غير ان السؤال الاهم للنقابات واتحادها العام يدور حول مواقفهم من “خطة الاصلاح الاقتصادي والتنمية” التي اصدرت الرئاسة الفلسطينية وحكومة الدكتور فياض اكثر من (400) مرسوم بقانون لتسهيل تطبيقها دون ان نسمع من الاتحاد أي احتجاج او دعوة للاحتجاج لا على الخطة ولا على أي مرسوم من مراسيمها التي لمعظمها صلة مباشرة بسوق العمل واوضاع العمال وحقوقهم .
لا احد يجادل ، ولم يعد مقبولا ان يجادل احد ، بان الاضراب النقابي والسياسي هو حق مدني وسياسي مشروع حتى لو لم تنص عليه القوانين النافذة ، لكن النقابات التي تستغل العمال والعاملين ورواتبهم في الوقت الحاضر لتنظيم اضرابات تخدم اجندات “فصائلية” اكثر منها “نقابية” او “وطنية” انما تساهم في النتيجة في تعميق الانقسام الوطني بدل المساهمة في احتوائه وتثير اسئلة هامة حول ادوارها وتفويضاتها نتيجة لغياب أي موقف لها من قضايا نقابية وسياسية ووطنية كان من المفترض ان تكون في طليعة المتصدين لها ، منها على سبيل المثال لا الحصر:
اولا الصمت “النقابي” المطبق على اكثر من (400) مرسوم بقانون يمكنها ” أن تغير تماما النظامين السياسي والاقتصادي للسلطة” كما قال مسؤولون فلسطينيون لوكالة رويترز ، اصدرتها الرئاسة الفلسطينية وحكومتها خلال عام من حزيران / يونيو 2007 الى الشهر نفسه من العام الحالي دون مشاركة او رقابة أي مؤسسة تمثيلية لمنظمة التحرير او لسلطة الحكم الذاتي او للمجتمع المدني وخصوصا النقابات المعنية مباشرة بهذا “الانقلاب” الحقيقي الذي يجري في الظلام الناجم عن الانقسام الوطني الراهن من اجل تطبيق الخطة الخمسية ل”الاصلاح الاقتصادي والتنمية” لحكومة رام الله .
ان فلسطين حتى وهي خاضعة للاحتلال بقيت وطنا لشعبها وان كان محتلا ، لكن هذه الخطة تحولها الى مزرعة تحت الاحتلال معروضة في المزاد العلني للاستثمار مع وعود اقتصادية خادعة بالسمن والعسل ووعود سياسية جوفاء ممجوجة لكثرة تكرارها بارساء البنى التحتية للدويلة الفلسطينية المرجوة ، غير ان الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الاجنبي ، كما ان تجربة الفترة الممتدة منذ مؤتمر الدول المانحة لهذه الخطة في باريس اواخر العام المنصرم وكذلك مؤتمر المستثمرين من القطاع الخاص في بيت لحم في شهر ايار / مايو الذي انعقد لدعمها اثبتت ان الوعود السخية جدا في ظاهرها لتمويلها بمليارات الدولارات لم تكن سوى ملهاة بالونات اعلامية زاهية الالوان سرعان ما انفجرت نتيجة لعدم وفاء اصحابها بتعهداتهم كما اثبت صراخ حكومة فياض طلبا للنجدة والوفاء بها عندما بالكاد تمكنت هذه الحكومة من توفير السيولة لدفع رواتب موظفيها خلال الشهرين المنصرمين .
وتعتمد هذه الخطة على ركائز اساسية اولها تقليص بيروقراطية الوظيفة العمومية في السلطة وقد تم فعلا تسريح ما يزيد على اربعين الفا منهم بهذه الطريقة او تلك ، لكي تتضخم جيوش العمالة الفلسطينية الرخيصة من اجل تشغيلها بازهد االاجور في مشاريع شبكة المناطق الصناعية المخطط انشاؤها على “الخط الاخضر” (للتهرب من خضوع العمالة فيها لقوانين العمل في دولة الاحتلال) بحيث تخدم كل منها “كانتونا” فلسطينيا في الضفة الغربية ، وقد منحت الاولوية لكانتوني الخليل وجنين كبؤرتين ساخنتين للمقاومة ، ولكي تكون في مجموعها مثل “اسفنجة” تمتص ما قال رجل الاعمال الفلسطيني سام بحور في مقال له من رام الله في الثالث من الشهر الجاري انه اكثر من (150) عامل فلسطيني منعتهم دولة الاحتلال من العمل فيها ، وقد نسب بحور الى “اسرائيلي يروج لهذه المناطق الصناعية” قوله له ان كل وظيفة في احدى هذه المناطق سوف تخلق ثلاثة وظائف غيرها خارجها ليضيف مستهجنا: “وهكذا في الجوهر يتم خلق اقتصاد مصطنع بكامله يبنى حول فقاعات اقتصادية يملكها فلسطينيون واجانب لكنها تدار اسرائيليا ، بينما مليون ونصف المليون فلسطيني ممن تحاصرهم اسرائيل في اكبر سجن في الهواء الطلق في العالم ، غزة ، ليسوا حتى جزءا من الحديث” الذي يدور حولها ، وليخلص مستنتجا الى القول ان الخطة تخلق “دينامية للتعايش ليس بين الفلسطينيين وبين جيرانهم الاسرائيليين بل بينهم وبين نظام الاحتلال العسكري الاسرائيلي” . وهذه المناطق هي الركيزة الثانية للخطة !
والركيزة الثالثة “امنية” ، وهي تستهلك الحصة الاكبر من ميزانية السلطة ، وقد لاحظت رويترز ان عاصفة المراسيم بالجملة التي اصدرها واضعو الخطة ومنفذوها في رام الله قد “وسعت صلاحيات وزير الداخلية” ، ولا يوجد أي تفسير للحيز الذي يشغله الامن في الخطة سوى الحفاظ على امن خطة مفروضة من فوق في عتمة ليل تشريعي وديموقراطي بايحاء ودعم خارجي عنواينه واهدافه ليست مشبوهة بل سافرة في عدائها ومعلنه ، لان مطابخ البنك وصندوق النقد الدوليين والاحتياطي الفدرالي الاميركي التي راكم الدكتور فياض خبراته منها تعرف تماما من عشرات الخطط المماثلة التي اخرجت من ادراجها وطبقت في بلدان العالم النامي ان نتائجها الاقتصادية الوخيمة المتوقعة تقود عادة الى ردود فعل شعبية ونقابية وسياسية بحاجة الى قوة امنية متفوقة لكبحها والسيطرة عليها .
اليس امرا مستغربا ان ينطق “رجل اعمال” مستهجنا الخطة بينما المفترض فيهم ان يكونوا ممثلين لضحايا مثل هذه الخطط من العمال ونقاباتهم صامتون صمت القبور على خطة تهدد بتابيد عمالهم وعامليهم واسرهم في اوضاع اوخم مما هم فيه الان ، بينما هم منشغلون في زج العمال ونقاباتهم في معارك وهمية “فصائلية” بتنظيم اضرابات طالبت بانهائها فصائل في منظمة التحرير نفسها مثل الجبهتين الشعبية والديموقراطية اضافة الى “المبادرة” ومنظمات حقوق انسان وطنية مثل المركز الفلسطيني لحقوق الانسان ناهيك عن مبعوث الامم المتحدة روبرت سيري الذي قال انها “ترسخ الانقسام بين غزة وبين الضفة الغربية وتؤثر سلبا في افاق اعادة توحيد الفلسطينيين” ، دون ذكر مئات الالاف من المتضررين من الطلبة واهالي المرضى !
نعم ، ان المسوغات ملحة لاضراب فلسطيني عمالي عام مسيس تماما .
*كاتب عربي من فلسطين