“كل إصلاح إنساني هو إعادة توكيد المصالح الأولية للإنسان، ضد سلطان المبادئ العامة، التي لم تعد تمثل هذه المصالح تمثيلاً عادلاً؛ والتي مع ذلك ظلت تتمتع بتقديس الإنسان وولائه الأعمى”.
جورج سانتيانا
تتمحور علاقة الإنسان المعاصر مع الأيديولوجيين حول جدال دائم لا يتوقف: ما هو الأهم: الإنسان أم الأفكار؟. وأيهما ينتج الآخر: هل الأفكار هي التي تنتج الإنسان، أم أن الإنسان هو الذي ينتج الأفكار؟.
ربما يمكن القول بأن لدينا ها هنا ثلاثة احتمالات للجواب:
الأول يقول، بأن الإنسان هو منتج الأفكار، وأنه سيدها وربها وخالقها، والقادر على تحويرها وتفسيرها، بل تغييرها لتتوافق وحاجاته.
والثاني يقول، بأن الأفكار هي منتجة الإنسان، وهي سيدته وربه وخالقه، والقادرة على تحويره وتفسيره، بل تغييره ليتوافق وصورة المثال في عالم الميتافيزيقا.
والثالث يقول، بأن علاقة الإنسان بالأفكار هي علاقة جدلية: حيث ينتجُ الإنسانُ الأفكارَ، لتحقق له تغييراً حياتياً أفضل. وهذا التغييرـ بدوره ـ يعيد إنتاج الإنسان، ويطور من علاقاته مع المحيط. ثم إن هذا التطور الجديد يؤدي ـ مرة أخرى ـ إلى نمو حاجات جديدة للإنسان، تبدأ في مطالبته بالتغيير؛ الأمر الذي يقوده مرة أخرى إلى مراجعة منظومة أفكاره السابقة، فيطورها ويغير فيها بما يتوافق مع تطوره الجديد، وبتغييرها يبدأ هو في التغير؛ وهكذا… في تصاعد جدلي نحو تحقيق الذات المبتغاة.
ربما يمكن القول بأن الجواب الأول يعجب الأيديولوجيين الماديين، الذين يقدسون حاجات الإنسان المادية، حيث يتقدم الخبز وتتأخر القيم. بينما يعبر الجواب الثاني عن واقع حال الأيديولوجيين المثاليين، الذين يقدسون الفكر، حيث تتقدم القيم ويتأخر الخبز. فيما يتبنى المفكرون الإنسانيون الجواب الثالث، الباحث عن حاجات الإنسان الأساسية، ثم المتجه من بعد إلى عقله وروحه: فالجائع لا يطرب لصوت الموسيقى، رغم أن الخبز ـ إذا ما توفر ـ فلن يكفي وحده لحياة تستحق أن تُحيا.
وإن علاقة كل ذلك بالديموقراطية لوثيقة ومؤسسة.
الأيديولوجي يؤمن إيماناً راسخاً بأن لديه حزمة من الأفكار، المصوغة في مجموعة من النصوص والخطط. وأن هذه الأفكار والخطط تملك قداسة، تفوق في قيمتها إنسانية الإنسان وروحه وأشواقه.
صحيح أن الأيديولوجي المادي كان في الأصل منطلقاً من رغبة سابقة، في تحقيق مصلحة الإنسان وتأمين حاجاته؛ ولكن الأصح من ذلك هو أنه ـ خلال نضاله لتحقيق هذه المصلحة ـ قد أخذ يتصور أنه وحده الأقدر على فهم حاجات الإنسان، وصياغة برنامج عمله اليومي. ومن هنا تنشأ المعضلة الديموقراطية، ويقرر الأيديولوجي المادي عدم السماح للآخرين بالسيطرة على السلطة، حرصاً منه على استمرار سيرورة (المسيرة الأيديولوجية) التي فرضها على الآخرين ـ ومن لا يصدق فليتأمل في تاريخ الأنظمة الشيوعية ـ وكذا يفعل الأيديولوجي المثالي، ومن لا يصدق فليراجع تاريخ الكنيسة.
ومن هنا يصبح الإنسان في خدمة الأيديولوجيا ومفسريها.
قد يختلف الأيديولوجي المثالي عن رفيقه المادي، في المنطلق، ولكنه لن يختلف عنه في النتيجة. سيقهر كلاهما الإنسان، ويلزمه بالدوران الأعمى وراء شعاراته، التي لا تحقق إلا مصالح طبقة ضيقة من المفسرين والسياسيين المتلونين.
إذن فالعلاقة بين الأيديولوجيا والديموقراطية هي علاقة عداء تام، حيث يمثل أحدهما نقيض الآخر.
O قد يلجأ الأيديولوجي إلى الديموقراطية ليصل إلى الحكم. ولكنها ستكون المرة الأولى والأخيرة.
O قد يتنكر الأيديولوجي ـ علناً أمام الجماهير ـ لرغبته الدفينة في قمع المواطنين (فهو يراهم غير مؤهلين لمعرفة مصلحتهم). ولكنه إذ يدرك أن بقاءه في السلطة مرهون بالقمع، فسوف يمارسه، بل سوف يضع له البرامج، ويبتدع له النصوص.
O وفي كل ذلك فلن يختلف الأيديولوجي الديني عن مثيله المادي إلا في نوع الشعار. ومن يتأمل هذه الشعارات ـ ذات الصبغة الدينية ـ عن “نقاء الحقيقة ونقاء العرق”، و”ثوابت الأمة”، و”مرجعية النصوص”… ثم يقارنها بمثيلاتها، لدى كل طغاة الأيديولوجيا؛ فسوف يفاجئه حجم التشابه. وإن النصوص ـ في كل الحالات ـ لحاضرة وجاهزةٌ، ولها طبقة من المفسرين.
O لن يحرّم الأيديولوجي الدم الإنساني، ولا دماء مواطنيه، لأنه يعتقد أن كلاً من الفكر والنص أكثر قداسة من الدم، وأن الأفكار أكثر اتساعاً من الأوطان. ومن اعتقد بمثل هذه الشعارات، فلن يجد كثيرَ بأسٍ في الكثير من الدم، لقاء حياة بعض النصوص، والطبقة التي تفسرها.
فإذا ما سأل سائل: ما علاقة كل هذا الكلام بالحالة الفلسطينية؟. فسوف أقول:
نحن في فلسطين لدينا قضية عادلة، ومطالب شديدة الوضوح: التحرر من الاحتلال، وتنمية الإنسان والمجتمع. ونحن كذلك متدينون ـ مسلمين ومسيحيين ـ وليس لدينا أفكار تدعو إلى التحلل من الدين. كما أننا لا نعاني من أفكار عنصرية تزعم أفضليتنا العرقية على غيرنا من البشر. ولئن تسببت لنا نكبة الهجرة عام1948 بفقدان الأرض والهوية، ثم تسببت لنا نكسة عام1967 بفقدان الحرية، فلقد ينبغي معرفة أننا نسعى الآن إلى استعادة ما فقدناه: الحرية، ثم الأرض. ولقد يجب القول، بمنتهى الوضوح: بأننا، في كل من النكبة والنكسة، لم نفقد ديننا، لنستعيده الآن. إن الذي ضاع منا أيها الناس هو الحرية والأرض. فلماذا يحاول الأيديولوجيون الآن حرف البوصلة عن توجهها الحقيقي؟.
وإذ لم تملك الأيديولوجيا الدينية تصوراً واقعياً للتحرير، فقد لجأت الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى الاستعاضة عن الأيديولوجيا بـ(وحدة واقع الحال)؛ حيث يتوحد الفلسطينيون جميعا خلف هدف التحرير. ولئن أمكن يومئذ تقسيم هذا الهدف الكبير إلى مجموعة أهداف صغرى، فقد كان الرائد دائما هو تسهيل التحقق.
هذا هو الذي أنشأ منظمة التحرير الفلسطينية في المنافي، وهو الذي أنشأ من بعدُ السلطة الوطنية الفلسطينية على واقع جغرافي ملغز، كان على الإسلام السياسي أن يطوره؛ لا أن يجهضه ليبدأ من جديد، وفق واقع دولي أشد قسوة، وواقع وطني يمنع الطفل من الوصول إلى زجاجة الحليب!.
أليس من تضييع البوصلة أن ننتخب حزباً ينادي بالإصلاح، ثم يلتفت هذا الحزب عن شعاره ـ الذي أوصله إلى السلطة ـ إلى الانشغال الدائم بتغيير هوية المجتمع وثقافة المواطنين؟!.
أليس من الخداع أن ننتخب حزباً يحارب الفساد، ثم ينشغل هذا الحزب، من بعدُ، عن الفساد ـ الذي جاء به إلى السلطة ـ إلى سعي محرور وهائج لتحرير العالم؟!. فهل بات واجب الفلسطيني هو تحرير أمريكا من عقدها العنصرية، وإسرائيل من نزعتها الحربية، وبعض مثقفي مصر من أحلامهم الفرعونية؟!… وهل صرنا ـ في ظل الأيديولوجيا ـ أقوى ممن يملكون مفاتيح معابر “كارني” و”إيرز” و”كفار شالوم”؟!. وكيف نطلب المساعدة من دول نسعى إلى محوها وتغيير هويتها؟!.
ألا نحتاج إلى قليل من التواضع؟!.
سيقول الأيديولوجيون بأنني أفسر الأمور بطريقة مبتسرة!. حسناً. فهل بإمكانكم أنتم أن تعرضوا علينا برنامجا واقعيا للتحرير والعودة، يختلف عن برنامج ياسر عرفات ومنظمة التحرير؟.
فإذا لم يكن لديكم؛ فلماذا كان هذا الدم؟. ولماذا كان هذا الانقسام؟.
وأخيراً أيها الأخوة الأيديولوجيون، هل ما زلتم تؤمنون بصندوق الانتخابات، أم أنه قد صار الآن من عمل الشيطان؟.