تعاني مصر من حالة متزايدة من التطرف، سواء من جانب الجماعات الدينية، أو ما عرف في المرحلة الحالية بـ«التطرف بالوكالة»، إذ لم تعد ممارسة السلوكيات المتطرفة مقصورة علي أعضاء الجماعات الدينية المحظورة، بل امتدت لتشمل عناصر من المحسوبين علي المثقفين، كان آخر تلك الممارسات ما قام به أحد أعضاء مجلس إدارة نقابة الصحفيين رغم عدم انتمائه لأي جماعة دينية، وجاءت سلوكياته مخالفة لحرية التعبير والرأي، وهو ما تمثل في منعه تنظيم مؤتمر منظمة “مصريون ضد التمييز” الديني بمقر نقابة الصحفيين. إن مصر خلال هذه المرحلة في أمس الحاجة إلي تأسيس العلمانية القائمة علي مرتكزات التسامح والليبرالية والتنوير والإبداع، للتخلص من مخالب التخلف والجهل التي تجذبها للخلف جذبا عظيما، وأصبحنا حضارة أموات تتغني بالماضي، دون أن نبذل أي جهد حقيقي لتحديث مصر،
وتنوير ثقافتها التي سيطرت عليها الأفكار الظلامية المتطرفة. هذه الظروف كلها تدفعنا إلي تسليط الضوء علي أهمية العلمانية لمستقبل مصر، التي انشغلت عن المستقبل، بصراعات تقوم علي الأسس الأولية المتعلقة أساسا بالدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالي لصلاح البشر، ولكن المنتفعين وظفوه لقتل الآخرين تحت تفسيرهم المغلوط والنفعي له. في هذا التحقيق نجد أن العلمانية لا تعني الفكر أو الإلحاد ولكن إعمال سلطان العقل وتحريره من الوصاية لمصلحة مجموعة من المنتفعين، لفهم الواقع المحيط، وتغييره بصورة إبداعية مرتبطة بالتنوير.
قال أشرف راضي المحلل السياسي: «ساهمت نشأة العلمانية في الخطاب العربي في تشويه المفهوم. فالعلمانية قدمت بوصفها فصلا للدين عن الدولة في مطلع القرن الماضي، في البداية علي يد كتاب مسيحيين وفدوا من الشام إلي مصر هربا من الحكم العثماني، ثم شهد الجدال العلماني الإسلامي نقلة نوعية مع ظهور كتاب الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966) “الإسلام وأصول الحكم”، في عام 1925 وما أثاره من جدل. وقد حددت هذه البدايات السجال حول العلمانية في الخطاب العربي إلي الآن. ويدور هذا السجال حول النتيجة المترتبة علي العلمانية ولا يتطرق إلي سبب العلمانية».
أضاف أشرف راضي: «أنه تم التركيز علي الجانب السياسي للعلمانية وأهمل الجانب الفكري، ما كان له تأثير كبير علي الجدل الراهن حول العلمانية، والذي تجدد مع بداية ما عرف “بالصحوة الإسلامية” في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات. وبدأت هذه الصحوة باستثمار الإسلاميين إخفاق النظم السياسية والاقتصادية المختلفة في حل مشكلات المجتمع واختزالهم مشكلات العالم الإسلامي في الصراع بين القوي الإسلامية والقوي العلمانية. وفي إطار هذه المناظرة، نجح الإسلاميون في تشويه مصطلحي “العلمانية”، بقصد إسكات أو تصفية معارضي نضالهم من أجل إقامة دولة إسلامية. وتعرض العلمانيون للازدراء والتهديد بل والقتل علي أيدي الإسلاميين المتشددين. وروج الإسلاميون لمقولة أن العلمانية تساوي “الجاهلية” و”الكفر”، ويتهم العلمانيين بالارتداد عن الإسلام، وبأنهم عملاء للقوي الغربية والثقافة الغربية، مما دفع بعض الكتاب إلي الابتعاد عن تعبير “علماني” واستبداله بتعبير “مدني”.
وتابع راضي: «الرؤية التي يقدمها الإسلاميون للعلمانية تعد أحد المصادر الرئيسية لتشويه مفهومه لدي الرأي العام. ويمكن القول من خلال مراجعة كتابات الإسلاميين وحواراتهم أن هذه الرؤية تتراوح بين الرؤية المتشددة التي تجسدها الإدارة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية، والرؤية التي يطرحها الإسلاميون المستنيرون والتيار الإصلاحي، الذي ينقسم بدوره إلي تيار يرفض الغرب ويعاديه وآخر يتعامل معه ومع منتجاته الفكرية تعاملا انتقائيا يأخذ بعضها ويترك البعض الآخر. وأصدرت الإدارة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السعودية مرسوما يقضي باعتبار من يعتقد أن هناك هديا أفضل من هدي الرسول أو أن هناك حكمًا أفضل من حكمه كافرا.
ويقف غالبية المثقفين العرب، من العلمانية موقف الخصومة والعداء، اعتقادا بأن العلمانية نتاج للغرب وحضارته وما أنتجته تلك الحضارة من قيم، ويرون أن هذه القيم تتعارض مع الحضارة الإسلامية ومنظومة القيم التي أسستها. وتشكل هذه المواقف عقبة رئيسية أمام تأسيس العلمانية كمفهوم شامل يتضمن طريقة للتفكير وأسلوبا للحياة.
قال محمد فرج، مهندس وكاتب تقدمي وعضو اللجنة المركزية بحزب التجمع، مازالت العلمانية مفهوماً ملتبساً في الثقافة العربية والمصرية السائدة، ويبدو أنها ستظل كذلك طالما وُجدت الفرق والتيارات التي تري مصلحتها في أن يظل مفهوم العلمانية ملتبساً. وأخطر ما يواجه العلمانية من مشاكل لا يأتي بالضرورة من المعادين للعلمانية أو من المتعصبين ضدها، بل يأتي من التعصب بشكل عام، مما يمكن تسميته بأيديولوجية التعصب، أو فيروس التعصب، أو ممن يحملون في قلوبهم وعقولهم أيديولوجية تعصبية، سواء كان هذا التعصب فكرياً أو ثقافياً أو دينياً أو سياسيا.
وأضاف:«يندر وجود إنسان بدون مرجعية فكرية دينية أو ثقافية أو سياسية أو أخلاقية توجه سلوكه العام، وتحدد اتجاهاته وتصرفاته ومواقفه، لكن الأيديولوجية ليست مجرد بناء فكري ثقافي أخلاقي مثالي كما هو سائد، بل هي بناء ينطوي بالضرورة علي مصلحة، حيث تلعب هذه المصلحة دوراً جوهرياً في توجيه السلوك وتحديد المواقف، وهذه المصلحة لا تظهر في الأيديولوجيات بصورة فجة ؛ بل تتخذ صورة البناء الفكري، الثقافي، الديني، السياسي، والأخلاقي. ولا جماعة متماسكة بدون أيديولوجية تعبر عن المصلحة الجوهرية لهذه الجماعة، أيديولوجية تبرر لها وجودها، وتوضح لها طبيعة دورها، وتصنع تماسكها الاجتماعي والثقافي والأخلاقي. ومن هنا تنطوي كل أيديولوجية علي درجة من التعصب وعلي درجة من اليقين والإيمان بجدوي وجود الجماعة وبأهمية دورها، وبدون هذه الدرجة من اليقين والإيمان وجدوي الوجود وأهمية الدور تنتفي المصلحة وتنهار الأيديولوجية وتتفسخ الجماعة.
وقال محمد فرج: «العلمانية ليست أيديولوجية تعصب، وبصفة خاصة ليست أيديولوجية تبرير وتعصب لتيار فكري وسياسي بعينه دون غيره من التيارات، ذلك أنها كانت دوما وستظل قادرة علي استيعاب أكثر من تيار فكري وسياسي تحت جناحيها، فنجد علمانيين من الفئات الرأسمالية، وعلمانيين من الفئات العمالية، علمانيين من التيارات الليبرالية، وعلمانيين من التيارات الاشتراكية، علمانيين براجماتيين وعلمانيين ماركسيين، وقد يخبرنا التاريخ بوجود علمانيين من قادة القوي الاستعمارية، وعلمانيين من قادة القوي التحررية المعادية للاستعمار، ومن التيارات الثقافية قد نجد علمانيين متدينين وعلمانيين غير متدينين، العلمانية منهج في التفكير والبحث والنظر لا يمكن لتيار فكري أو ثقافي بعينه أن يقوم بتأميمها أو احتكارها لمصلحته الخاصة أو إلحاقها بأيديولوجيته الخاصة، فهي منهج شامل يقوم علي ضرورة إعمال العقل والتفكير العقلي والعقلانية في قضايا وإشكاليات ومسائل الفكر والعالم والمجتمع والدولة، وبصفة خاصة هي منهج يقوم علي ضرورة التمييز وعدم الخلط بين المطلق والنسبي، وهي منهج قادر علي التوسع والانتشار والنفاذ داخل جملة من الفئات الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية المتنوعة، وقادر علي التأثير في رؤاها وتصوراتها وأيديولوجياتها المتنوعة.
قال الفيلسوف الدكتور مراد وهبة: «العلمانية منهج للنظر في المعرفة باعتبارها نسبية، وهي منهج للتعامل مع حقائق الواقع باعتبارها تتسم بسمتين متلازمتين: فهي نسبية ومتغيرة، وهذا معني أنها منهج وليست أيديولوجيا، فالمنهج أسلوب وتوجه وطريقة ومنطق، وهذا المنهج يرفض الخلط بين المجالات المختلفة، وهي منهج في التفكير والبحث في دائرة أو مجال الفعل الإنساني. ليست تياراً سياسياً واحداً، بل يمكنها أن تكون مرجعية لجملة من التيارات السياسية الليبرالية والاشتراكية وغيرها من التيارات، وهي ليست موقفاً سياسياً بعينه، بل يمكن أن يتواجد أفراد وجماعات علمانية ولها مواقف سياسية متنوعة، فالعلماني لا يعرف بموقفه السياسي، والعلماني لا يعرف بدينه، والعلماني لا يعرف بتياره السياسي، ولا بتياره الثقافي، ولا بانتمائه الطبقي أو الاجتماعي أو العرقي، بل يعرف بمنهجه في التفكير والبحث، علي اعتبار أن العلمانية منهج للحياة الاجتماعية».
وأضاف وهبة: «الوضع القائم المصري محكوم بالأصولية الدينية، وأن المطلوب تغيير هذا الوضع بما يناقضه، والعلمانية هي هذا النقيض. لماذا ؟ إذا كانت الأصولية الدينية تعني الالتزام بحرفية النص الديني، وبالتالي رفض إعمال العقل، فإن ارتقاء الحياة المصرية يتوقف إن لم يتخلف. وعندئذ يكون من الضروري تكوين رؤية مستقبلية، أو إن شئت الدقة تكوين رؤية عن وضع قادم يريد أن يتحقق في الواقع، فيزيح الوضع القائم ويحل محله، وبذلك تستيقظ مصر من سباتها الدوجماطيقي، وتستأنف حركة التقدم والارتقاء».
وتابع الفيلسوف مراد وهبة: «نعاني من الخوف من طغيان الدولة أو طغيان الشعب. والسؤال إذن: متي تصاب الدولة أويصاب الشعب بالطغيان؟ عندما يصبح أي منهما دوجماطيقيا. والسؤال بعد ذلك: من المسئول عن إصابة أي منهما بذلك؟ أظن أنهم المثقفون المستنيرون أو بالأدق الراسخون في العلم علي حد قول ابن رشد. فإذا تخلف هؤلاء تخلف الرأي العام، وبالتالي يحدث الطغيان. وإذا قلنا المثقفين المستنيرين، فإننا نقول العلمانيين لأن العلمانية أساس التنوير أو بدايته. والسؤال إذن: كيف يبث العلمانيون روح التنوير في الدولة أو الشعب حتي لايصبح طاغية؟ ومن خلال أحد منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، عبر القنوات الفضائية أو ما أسميه ” السوق التكنولوجية” المتحكمة فيما أسميه “رأس المال الثقافي”. فإذا تحكمت الأصولية الدينية في هذا السوق فليس ثمة بارقة أمل. ولقد أدي تخلف المثقفين لطغيان الشعب».
قال الدكتور عصام عبدالفتاح، الأستاذ بجامعة حلوان: «أغلب المؤلفين سواء من انتصر منهم للعلمانية أو من هاجمها بشدة ذهبوا إلي فكرة شائعة اختزلت مفهوم العلمانية، اختزالا مجحفا مؤداها أن العلمانية، تعني انفصال السلطة الدينية عن المدنية، وهو مفهوم شاع استخدامه في أوروبا خلال عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي سطع فيه نجم العلمانية، والذي أرسي أصولا فلسفية لها. ولا مراء في أن يكون عصر الأنوار عصرا فلسفيا للعلمانية، باعتباره العصر الذي انعقدت السيادة فيه لسلطان العقل، بعد أن كانت في أيدي المؤسسات الدينية في العصور السابقة. والتنوير يعني انعقاد السيادة للعقل، ولا محل للحديث عن أي تنوير ممكن، إلا في إطار التفكير في النسبي بما هو نسبي.
أضاف: «كلمة العلمانية أصبحت الكلمة الرجيمة في الخطاب العربي المعاصر، فحولتها من انتهاك المقدس وجعلتها كما يقول أحد المفكرين التنويريين الكبار” ترادف الكفر الصريح”. فحينما سأل القاضي قاتل فرج فودة ” لم قتلته؟” أجابه القاتل بقوله: ” لأنه علماني”، و لما سأله القاضي: “وما معني علماني؟”، أجاب القاتل “لا أعرف”. بل إن الدكتور يوسف القرضاوي نفسه، كبير فقهاء الإعلام العربي السائد اليوم، سئل في إحدي حلقات برنامج” الشريعة والحياة”، عن رأيه في العلمانيين من المسلمين المعاصرين أجاب:”إنني حقا مندهش لماذا لا يطبق عليهم إلي الآن حد الردة؟».
وتابع الدكتور عصام عبد الفتاح: «هناك اعتقاد راسخ في الخطاب العربي المعاصر والعقلية الشعبية بصفة عامة بشأن الاعتقاد بأن ما تقوله المؤسسة الدينية أوالشخصيات الدينية الإعلامية، هو بمثابة الحقيقة الدينية المطلقة، أوهو القراءة التي ينبغي ألا يجادل في مضمونها العقل، لأنها تمثل الحقيقة المطلقة المقدسة. ويكفي مثلا أن يكون صاحب هذه القراءة، هوالمتحدث باسم المؤسسة الدينية الرسمية، لكي تكون قراءته عنوانا للحقيقة، التي لا جدال فيها ولا ريب في صحتها. بل إن هناك في المجتمع فئات عريضة من الناس اعتادت في أمورها الحياتية الامتناع عن إعمال العقل في كل ما يصادفها من مشاكل، واللجوء إلي الشخصيات الدينية الإعلامية، التي أدت إلي فوضي الفتاوي. التنوير لا مكان له بين أناس استعاضوا عن التفكير العقلاني بتقديس أفكار الغير والركون إليها.
إن الدين يمكن أن يمارس دورا ايجابيا في المجتمع، إذا كان من جملة وظائفه، كما اقترح الإمام محمد عبده أن يكون سلطة أخلاقية مراقبة للدولة تساهم في منعها من التسلط، وفي الحيلولة دون اعتدائها علي حقوق وحريات الأفراد في التفكير والتغيير. لكن السلطة المراقبة تتحول إلي” آلة جهنمية للقهر، لو صارت بمثابة مشروع دولة أوذريعة للتسلط وآلة للاستبداد.
وقال إن أهم شرط من شروط التنوير هوالحيلولة دون أن تكون هناك سلطة رسمية تدعي لنفسها حق التحدث باسم الدين وحدها، وتطلق لنفسها العنان في ممارسة السياسة باسم الدين. لقد استقر في الوعي الايديولوجي السائد في العالم العربي والإسلامي التصور القائل بتدامج السلطتين الدينية والسياسية في الإسلام، ولم يفكر أحد في مقولة حسن البنا منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، والقائلة بأن “الإسلام دين ودولة”، مع أن كلمة “دولة” نفسها لم ترد في النص القرآني، ولا في عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية، سواء الصحيح منها أوالموضوع. بل إن هناك حديثا للرسول جاء فيه: ” فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي، فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب” وكذلك ” إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي”. لقد كان من جراء تدامج الديني بالسياسي وقوع أبشع الفتن والحروب، ولعل ما يذكره التاريخ من مجازر بين السنة والشيعة ومقتل الحسين ومعه أربعة من أولاده ممن أنبتوا، إذ يروي التاريخ أن جنود الجيش الأموي إذا ما أمسكوا بولد من أولاد الحسين كشفوا عن عانته، فإذا كان أنبت ذبحوه.
وأضاف: أن العلمانية والتنوير لا يطرحا ثمارهما إلا في المجتمع المدني الديمقراطي. والديمقراطية لا تزال في مأزق شديد في العالم العربي. الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق، إلا إذا توفرت معها وبشكل مواز ذهنية ديمقراطية لدي من يطالبون بها. ويندر أن نجد هذا في الشعوب العربية.
قالت الدكتورة مني أبو سنة: «هناك أربعة مفاهيم مترابطة تتمثل في التعليم والعلمانية والتنوير والإبداع. والتعليم في معناه الأشمل بناء عقل الأمم. وإصلاح هذا العقل يقوم علي العلمانية والتنوير والإبداع. والعلمانية هي التفكير فيما هو نسبي بما هو نسبي، والتنوير هو تحرير الإنسان من الكسل العقلي ورفع الوصاية عن العقل والجرأة في الفهم، أما الإبداع فهو قدرة العقل علي تكوين علاقات جيدة. القاسم المشترك بين هذه العناصر هو العقل مصدر التفكير والفهم. وبالتالي فإن أي إصلاح حقيقي للتعليم يجب أن يقوم علي إعمال العقل. وفساد التعليم في مصر حاليا ناتج عن فساد العقل، نتيجة اللاعلمانية واللا تنوير والتلقين.
وأضافت أن التعليم المصري يقوم علي المطلقات، وفق منهج يقوم علي عدم إعمال العقل، فكل معلومات الكتاب المدرسي وما يقدمه المدرس مطلق غير قابل ةللفهم وغير قابل للحوار، وهو ما يعني قتل الإبداع، ووضع عقلية الطلاب والتلاميذ تحت الوصاية. ولا يختلف هذا سواء في علاقة الطالب بالمدرس أو الكتاب أو المدرسة أو الامتحانات. وتأتي في مقدمة هذا الفساد، العلاقة بين الطالب والمعلم التي تسيطر عليها الدروس الخصوصية، من شأن هذه العلاقة الفاسدة أن ينتج عنها الكثير من مظاهر العنف الآني، أو المستقبلي في الجامعات.
وقالت: إن إصلاح منظمة التعليم في مصر يتطلب ارتكازها علي ثلاثة محاور هي العلمانية والتنوير والإبداع. ويتطلب هذا التخلص من الوصاية والمركزية في العملية التعليمية، وإعمال العقل الناقد، لتغيير الواقع الفاسد، وهذا التغيير يتطلب توفر الإبداع للبحث عن البدائل الإبداعية لحل اشكاليات الواقع المعاش، عبر استغلال العقل وتحريره من الوصاية. علي أن يتم صياغة استيراتيجية قومية لتحقيق هذا الهدف، مدعمة من جانب وسائل الإعلام، إلا أن العنصر الأساسي لإنجاح هذه الاستراتيجية يتمثل في خلق جيل جديد من “المعلم الممارس للفكر”، الداعي إلي المشاركة الإيجابية والفعالة في إحداث النقلة النوعية مع الإدارة المدرسية، في سياق مشاركة فعالة لمنظمات المجتمع المدني لعبور الجسر من ضفة التعليم الظلامي والمتطرف والتلقيني إلي ضفة التعليم العلماني التنويري الحواري الإبداعي.
قال سامح سامي، الباحث في شئون التنمية «كثر الحديث في الآونة الأخيرة في حول العلمانية والليبرالية والديمقراطية، مقابل الحديث عن الأصولية والسلفية والتأسلم السياسي أو تيار الإسلام السياسي، دون أن يحدد المتحدثون ما معني كل كلمة من الكلمات السابقة. ودون أن يلتفت أحد إلي أسباب الانتشار الرهيب للظاهرة، وآخر هذه المظاهر تحجيب «المانيكان» في محال الملابس الجاهزة فالجهد الآن ليس تحجيب المرأة، وإنما الجهد والجهاد في تحجيب تمثال!. كثيرون يلقون المسئولية علي الدولة، ويؤكدون أنها رخوة، وهذا صحيح. ولكن ما حدث ويحدث من انتشار للأصولية في مصر، هو دليل أن المثقفين المصريين أيضا رخويون، وأن الليبرالية التي يتحدثون عنها ليبرالية رخوة.
وأضاف: «المثقف المصري ما يزال مشغولا بتحرير مصر من الاستعمار والحرب مع إسرائيل والقضية الفلسطينية واللبنانية، تاركين الشارع المصري لتيارات سلفية أصولية، تريد فقط أن تظهر مصر وكأنها قطعة من أفغانستان أوباكستان، معتمدة علي أن الشعب المصري لا يؤمن بالعلمانية Mالتنوير. وأنه يميل إلي الخرافة والأساطير، وأن عقله ما زال لا يعترف بالمغامرة والعلم، بجانب بث صورة ذهنية للمصريين علي أنهم شعب متدين بالفطرة ومؤمن، ولا يقبل أي فكرة تتعارض مع التفسيرات الدينية، التي في النهاية هي تفسيرات بشرية. هذا بالطبع أدي إلي ذيوع وانتشار أكثر للفكر الخرافي في عقول معظم المصريين أياً كانت انتماءاتهم الطبقية، مما سهل مهمة التيار الأصولي الذي يتبني تفسيرا متخلفا للدين ويحرم إعمال العقل، ويكفر كل من يختلف معه في الرأي. وساهم في انتشار هذا التيار القنوات التليفزيونية الدينية التي تروج لهذا الفكر المتخلف، واستندت هذه القنوات إلي الفكر الأسطوري للجماهير، واتخذته قاعدة لنشر الفكر الديني اللاعقلاني، بواسطة شيوخ أطلقوا علي أنفسهم لقب “مفكرون إسلاميون”، وهؤلاء هم الذين كبلوا عقل الشعب بالفتاوي الفاسدة، التي أصبحت الوقود الفكري للجماهير.
وقال سامح سامي إننا أمام تناقضين، الأول تراجع دور المثقف في مواجهة التيارات السلفية والأصولية، والثاني في إطلاق لفظ ليبرالي علي المثقف. في حين أن الليبرالية لها معني آخر، ولها شروط لم تتحقق في مصر إلي الآن. فكثيرون لا يعرفون ما هي الليبرالية؟ وإنما يطلقون علي المثقف المستنير كلمة ليبرالي.
قال القس رفعت فكري سعيد، راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف في شبرا مصر أن عصر التنويرAge of Enlightenment) ) مصطلح يشير إلي القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية، وغالبا ما يعتبر جزءاً من عصر أكبر يضم أيضاً عصر العقلانية، والمصطلح يشير إلي نشوء حركة ثقافية تاريخية دعيت بالتنوير، والتي قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها، كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة بدلا ًمن الدين. ولن نفهم عصر التنوير، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألة التعصب الديني والحروب المذهبية، التي فرقت أوروبا طيلة مائتي سنة، ومفهوم التسامح الذي ظهر حلاً لهذه المشكلة، أي مشكلة التعايش بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية «الكاثوليكي والبروتستانتي». وبالتالي فينبغي أن نضع التنوير داخل سياقه التاريخي، لكي نفهمه علي حقيقته. وأنه ظهر لتلبية حاجة ماسة، ألا وهي نيل حرية الاعتقاد وحرية الضمير والتفكير والتعبير، والتفكير العلمي النقدي للنصوص الدينية، ثم حق الاختلاف في تأويل النصوص المقدسة، فالعلم قبل كل شيء هو عملية مستمرة لتحدي وتفنيد الدوجما.
وأضاف القس رفعت فكري إذا ما نظرنا إلي التجربة الأوروبية في التنوير وجدنا أنها كانت صعبة ومريرة، فالمعركة استغرقت ثلاثة قرون متتالية، بل وحتي أربعة من لوثر وايراسم، إلي هيجل ونيتشه، مروراً باسبينوزا وجون لوك، وفولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وغيرهم كثيرون. لقد جيش كل فلاسفة أوروبا طاقتهم للقضاء علي هذا المرض الخطير الذي يصيب أي دين. أقصد مرض التعصب والظلامية الأصولية. ولذا كانت البداية للقضاء علي الأصولية هي في كيفية التعامل مع النص الديني، فلاجدال في أن النص الديني هومحور الارتكاز في كل أفق ديني، سواء كان منغلقاً أومستنيراً, لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة علي التحديث وبعث الحياة فيه ليتجدد مع الجديد ويصبح ملائما لكل العصور، ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقاً .
وقال إن الدين قلب نابض، وفهمه مرتبط بتطور الحياة باستمرار، ولذلك يجب أن يدخل في مصنع الإصلاح لكي يستطيع أن يسير سيراً طبيعياً في الحياة . فعلي سبيل المثال لازالت توجد للآن بعض المجتمعات العربية الرافضة للمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، وبالذات ما يرتبط منه بحقوق المرأة، بسبب سلبيات العادات والتقاليد التي ساعدت في ظهور مفهوم ديني يرفض الاعتراف بالحقوق الطبيعية للمرأة. ومن هنا فإن الإصلاح الديني يسعي لنقد التراث (الديني والاجتماعي) ، أي نقد السلبيات المنبثقة عن التراث، والمؤثرة في فهم الدين، من أجل طرح أفكار دينية جديدة. لذلك فالإصلاح يساهم في بناء ثقافة جديدة في المجتمع، وهذه الثقافة بدورها قد تتعارض مع العادات والتقاليد السالبة.
قال ربيع محمد راشد، الباحث والمحامي بالنقض إن كتابات العديد من الاصوليين الإسلاميين المعاصرين تحرص علي تصوير العلمانية بأنها ليست مجرد رؤية فكرية ومنهجية تدعوالي تفعيل الدين عن الدولة، بل هي كذلك دعوة الي عزل القيم الروحية والأخلاقية والمعرفية عن حياة الناس، وتوحد بين الإنسان الحي والطبيعة المادية . إلا أن العلمانية تعني في رأي الأستاذ محمود أمين العالم “رؤية العالم أو الواقع والتعامل معة بشكل موضوعي، بعيداً عن الأحكام المسبقة والمطلقة والعاطفية اوالدينية عامة” من هذا المفهوم يمكن أن نصل الي بعض الدلالات منها: ليس كل علماني بالضرورة غير مؤمن أو ملحدا، وليس كل متدين أومسلم غير عقلاني (علماني)، وهناك في تراثنا الإسلامي العديد من الامثلة تؤكد هذة الدلالة، فمثلاً عندما عرضت قضية دنيوية وهي (غلاء الأسعار)، فقد رأي العالم الإمام الباقلاني الأشعري أن الغلاء يرجع لا إلي العرض وأنما إلي الطلب (الرغائب والدواعي)، فالحصار المطروح علي المدينة لا يرفع الأسعار داخلها، ذلك (إن لله لو خلق الزهد في الناس لما اشترو ما عندهم) ، ولذا (فإن جميع الأسعار من عند الله تعالي لأنة هو الذي خلق الرغائب في الشراء ويوفر الدواعي علي الاحتكار) . أما القاضي عبد الجابر المعتزل فيري أن سبب الغلاء هو قلة الشيء مع شدة الحاجة إليه، أو كثرة المحتاجين بالنسبة لما هو موجود. نحن امام تفسيرين لظاهرة واحدة، يذهب أحدهما إلي تفسير يمكن أن نطلق علية تفسيرا علميا أوعلمانيا لأنه يستند إلي أسباب موضوعية. في حين يقدم التفسير الثاني للظاهرة نفسها تفسيراً دينياً، ويرجع أسبابها إلي علة خارج الطبيعة أو فوقها، هو الله شأن كثير من الأشاعرة. إن التفسير الديني يناقض التفسير العلماني، إلا أن علمانية التفسير لا تتناقض مع التدين والإيمان والإسلام.
الدلالة الثانية تتمثل في أن العلمانية تعتبر امتدادا للعقلانية في الرؤي والنهج والسلوك ولعل الحديث النبوي “أنتم أعلم بشئون دنياكم” أن يكون تأكيدا لهذا المعني. الدلالة الثالثة هي أن التعامل مع الظواهر وتفسيرها في إطار تحققها الموضوعي الدنيوي وفي ضوء المصالح المجتمعية العامة بمنهج علمي خالص دون الاستعانة بأسباب خارج سياقها الموضوعي، لا تتناقض مع الدين والتدين، ولكنها تتناقض مع الرؤيه الأصوليه التي لا تفسر الظواهر بالدراسة الموضوعية، وإنما بالرجوع الدائم إلي النصوص. مؤكدا أن العلمانية يمكن أن تكون منطلقا صالحا للتجديد الديني، بما يتلاءم مع مستجدات الحياة والواقع.
وقال راشد إن العلمانية لا ترتبط بالثقافة الغربية الحديثة وحدها، لأنها تراث إنساني عريق، يرتبط بالتاريخ المتطور للإنسان نفسه. كما أن العلمانية لا تطمس الهويات والخصوصيات القومية والثقافية. وأشار إلي أنه من الطبيعي أن تفشل كل الجهود الثقافية التنويرية الخاصة، لأنها تصطدم من ناحية بعقبة هذا التحديث السطحي، الذي لم يتسرب إلي أعماق البنية الشاملة للمجتمع، ومن ناحية ثانية يظل الجدل صداماً سجالياً علوياً بين نخب الجماعات الأصولية الإسلامية والدينية عامة، قبالة المثقفين التنويرين، دون دعم منظمة التعليم والإعلام من جانب الدولة، وبالتالي لا يتم التوصل إلي نتيجة موضوعية محققة بين أبناء الشعب