لم تفلح سنوات الاحتلال الإسرائيلي الستون لفلسطين في تمكين العرب من وضعها على خارطة السينما العالمية بمكانة تليق بوزن عدالتها وإنسانيتها.
ما يحدث حاليا هو العكس، فعلى صعيد السينما العالمية وعلى رأسها هوليوود، اعتاد الغرب على تزوير مفردات وإرهاصات هذه القضية مع قلب موازينها كافة لصالح العدو الاسرائيلي وصورته.
أما فيما يخص السينما العربية، التي كان يجدر بها أن تقتات عليها وعلى ما أفرزته من إلياذات وأوديسات منذ ستين عاماً حتى الآن، فإن ما تقترفه يتعدى في الواقع التسطيح وعدم الكفاءة والجدية.
بل باتت تلك الأفلام تسحب البساط من تحت أقدام القضية لمعايير مادية وتسويقية وسياسية بغرض إدخالها بأي ثمن لحلبة مهرجانات الأفلام العالمية وإن كان الثمن التلاعب بمفرداتها وحقائقها وظروفها.
جوبا كان آخر تلك الأفلام العربية، التي آثرت الخروج عن أحد الخطين السينمائيين السائدين وهما إما الكوميديا المبتذلة أو الوقوع في براثن التفسير الغربي لظاهرة الإرهاب تحديدا، فكان أن اجترح له ضرباً سينمائياً خاصاً وهو مناقشة جانب المقاومة في القضية الفلسطينية.
ومعلوم أن جوبا ليس الفيلم الأول الذي يسلك درب مناقشة القضية، إذ سبقه إلى ذلك أفلام عرّضت بمشاهد معدودة وسطحية للمظاهرات وممارسات الاحتلال، فيما أفلام أخرى ارتأت أن تأخذ جانب سبر الغور فيما يتعلق بالحق الفلسطيني على أرضه، ولعلّ آخرها يكاد يكون السفارة في العمارة لعادل إمام، والذي رغم كونه يصنف كوميديا إلا أنه استطاع برغم ثغراته الكثيرة بث الدماء من جديد في أوصال الأفلام التي تتحدث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كـالطريق الى إيلات وفتاة من إسرائيل وغيرهما.
نمّ جوبا عن جهل عربي رهيب بيوميات وظروف الصراع الدائر على أرض الواقع في الأراضي المحتلة، إذ ربما هي المرة المائة التي يتم فيها حصر الشخصية الفلسطينية في كوفية من غير أن يعلم القائمون على الفيلم أن فلسطينياً واحداً لا يعتمر أو يطوق عنقه بتلك الكوفية خلال الأربع وعشرين ساعة أو عند مواجهة العدو كما يظنون!
نقاط أخرى في جوبا هَوَت بالطرح الواقعي المتمكن للقضية، لعلّ أحدها ما يخص اللهجة الفلسطينية التي لا تعد عصية على التعلم إن أراد أي ممثل عربي تأديتها كما حدث مع السوري جمال سليمان في مسلسل التغريبة الفلسطينية، أو ان تتم الاستعانة بأي ممثل فلسطيني كي يُحمّل الدور واقعية يستلزمها بدلاً من التفاف المخرج على استسهاله لهذا الجانب من خلال جعل والدة البطلة التي أدت دورها داليا البحيري مصرية فيما والدها هو الفلسطيني لتبرير لهجتها المصرية!
في المقابل بدا المخرج مستسلماً حيال الشخصية الثانية التي أداها أحمد عبدالغني، والتي من المفترض أنها شخصية لأحد رجال المقاومة الفلسطينية في تركيا، إذ تفاجأ المشاهدون بكون تلك الشخصية تتحدث المصرية حتى من غير تبرير سطحي كالذي ساقه فيما يخص البطلة، فكان أن انتهى الفيلم من غير تحديد هوية تلك الشخصية وجنسيتها!
كذلك الأمر فيما يتعلق بالاستعانة بممثلين سوريين كغسان مسعود لأداء دور الشخصيات الفلسطينية في رام الله المحتلة، إذ ظهرت اللهجة مسخ لمن يعلمون كيف تُنطَق الفلسطينية بضروبها سواء مدنية أم فلاحية، فكان أن ضاعت في غياهب المحاولات الفاشلة لإتقانها والإمساك بتلابيبها.
المقاومة على عظم شأنها وصعوباتها ومخاطرها على أرض الواقع وقعت هي الأخرى ضحية التسطيح في جوبا، إذ تغاضى المخرج والبطل مصطفى شعبان عن إمكانيات العدو المهولة حربيا وقفزا على كل تلك التفاصيل بغية الوصول بالفيلم إلى نمط الآكشن من غير أن يعلما بأنهما أغفلا جانباً كان من الممكن أن يكون على قدر كبير من الأهمية والخدمة للقضية وهو ممارسات الاحتلال الجائرة وقمعه لأي مقاومة ولو كانت لفظية.
تجلى ذلك عندما تحوّل البطل على حين غرّة من مصور باباراتزي إلى قناص يصطاد المجندين الإسرائيليين بمنتهى السهولة والسلاسة والخبرة في تعريجات المكان برغم أنه زائر له للمرة الأولى!
كذلك الحال عندما اختار المخرج صورتيّ الشهيدين أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي خلفية لحوار حق المقاومة، الذي جاء على لسان غسان مسعود، ما حصر المقاومة في فصيل حماس ولو رمزاً، رغم أنه يجدر بمن يريد استعراض شخصيات النضال الفلسطيني أن يزج بها جميعاً أو لا أحد بعينه وذلك إعلانا عن جسر الهوة بين الفصائل الفلسطينية وعدم الانحياز لأي منها.
نقطة أخرى وقع من خلالها الفيلم في مطب الاستسهال عندما أورد مشاهد للصحافة العربية التي اعتقدت أن إنجازات القناص هي إشارة لاحتمالية تسلل تنظيم القاعدة إلى فلسطين، رغم أن قضية كالآنفة لم تُحسم بعد من قِبل معظم المحللين السياسيين وحتى الدول العظمى، فكيف يأتي الفيلم بجرّة قلم ليربط بين قصة خيالية وبين قضية كبرى كتسلل القاعدة للأراضي المحتلة؟
أقحم الفيلم قضية الطابور الخامس (العملاء) في صفوف المقاومة الفلسطينية. هذه النقطة على واقعيتها وأهميتها وقعت هي الأخرى في مطب التسخيف والتسطيح، فلم تُصوّر تفاصيلها بإقناع ولم تُعط شخصياتها حقها في الطرح الوافي، إذ صور الفيلم هذا الطابور بجماعة أشبه بالمافيا تعيش في تركيا وتقوم باغتيالات للفلسطينيين الشرفاء هناك من غير أي ملاحقة قانونية، وعلى حين غرة ينهض هؤلاء العملاء ليتبين أن موتهم هو الآخر ادعاء!
قضايا أخرى عرّج عليها الفيلم بسرعة وبشكل أفقدها عمقها وأهميتها، منها ثقافة الخوف المتعششة في التربية العربية وكذلك القيود العربية المفروضة على حرية الإعلام والجهل العربي بحقائق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وخصوصاً فئة الشباب.
كان يجدر بالقائمين على الفيلم، وأولئك الذين سعوا ويسعون لخدمة القضية الفلسطينية من خلال السينما أن يسبروا غور المسألة بفكر عميق ورؤية ثاقبة أكثر من ذلك، فالقصص الواقعية المُعاشة والتي عيشت لشخصيات الفلسطينيين القيادية والشعبية كفيلة بأن تُسمِن السينما لعشرات السنين من غير أن تنزلق إلى أية مبالغات أو هنات كالتي وقع فيها جوبا.
فيلم كهذا وغيره من الأفلام التي تجعل من القضية موضوعاً لها لربما لا تدرك خطورة الاستسهال والتسطيح في العرض، إذ من الوارد أن تُعرَض هذه الأفلام في محافل سينمائية عالمية كمرافعة عربية عن الحق الفلسطيني، وبذا لن تكون الحقيقة الجارية على أرض الواقع متواجدة ولو بنسبة 10% في الفيلم، بل ستنضم هذه الأعمال حينها إلى قائمة إتجوّع يا سمك، التي أضحكت العالم على الفشل العربي بل وصوّرته بالجلاد للبراءة الإسرائيلية.
قصص المقاومة الموجودة على أرض الواقع الفلسطيني، والتي بالإمكان اعتبار طفل الحجر من أهم أبطالها كانت ستكون خير مدافع عن القضية من غير الشطحات التي ارتكبها جوبا، إذ لا تستلزم تلك المقاومة أسلحة قنص وقدرات خارقة كالتي وردت في الفيلم، بل هي مزيج متناقض من البساطة والقوة والانكسار والعنفوان والنشوة والدموع وهنا تتجلى عظمتها على أرض الواقع وليس كما مُحِقت تراجيديتها في جوبا.
حسبنا هنا أن نتذكر فيلماً وثائقياً ارتأت مخرجة فلسطينية أن تجعل لاجئيي لبنان من الفلسطينيين موضوعاً له، وإذ بها تحاور اللاجئين عند شاطئ البحر وفي المقاهي بدلاً من النزول للمخيمات الفلسطينية ورصد ظروفها اللا إنسانية التي تنحدر إلى ما تحت الصفر.
هنا يتجلى الإخفاق العربي في الإمساك بخيوط المرافعة بجدارة، وهو ما يُفسر بأحد سببين لا علاقة لضعف الإمكانيات بهما، وهما إما الجهل العربي وحتى الفلسطيني (في المنفى) بحقائق الصراع على أرض الواقع أو هي الركاكة الفكرية العربية، رغم أن القضية الفلسطينية لا تتطلب منا إبداعاً وابتكاراً بل مجرد نقل صور من الواقع!