بقلم : منذر ارشيد
هي ذكريات ربما مؤلمة جدا ً ولكنها ومن وحي هذا الشهر العظيم سجلت عندي نقطة تحول كبيرة في حياتي
بقلم : منذر ارشيد
هي ذكريات ربما مؤلمة جدا ً ولكنها ومن وحي هذا الشهر العظيم سجلت عندي نقطة تحول كبيرة في حياتي حيث عشت لحظات رهيبة ولكنها كانت عظيمة جدا ً
ولا يستغربن أحد منكم بقولي…. رأيت الله…!!
فانتظروا حتى أنهي القصة وهي قصة تروي جزءً من معاناة شعبنا العظيم في فترة من الزمن الذي دفعنا فيه من أرواح أخواننا ومن دمنا
نتائج عبثية لاعبي السياسة الكبار وتداعيات الزمان والمكان الذي لا ذنب لنا نحن الثوار فيه إلا أن ذنبنا أننا أبناء فلسطين الطامحين للحرية والإستقلال والعودة
كان هذا عام 1971 وبعد معارك طاحنة في أحراش جرش وعجلون فرضت علينا رغم أنوفنا مع الجيش الأردني والتي استمرت أربعة أيام ٍ بلياليها وانتهت بمحاصرة من تبقى منا في منطقة الأغوار .
بعد أن تم أعتقالي مع الآلآف من المقاتلين ” وضعونا في معسكر( القرن )
في منطقة المشارع وبعدها تم نقلنا بشاحنات عسكرية وبمسيرة طويلة مهرجانية استعراضية (للفرجه) مررنا من معظم قرى شمال الأردن ومدنها والتي ما أن كنا نصلها حتى يتجمع الأهالي في الطرقات والميادين العامه ويرشقوننا بالحجارة (طبعاً لا نرى شيء لأننا مُغَمَيي الأعين )
وبعد أن تم جمعنا في معسكرات وقواعد كبيرة… وكنا في قاعدة واحدة ما يقارب الثلاث آلاف مقاتل في منطقة المفرق….وقد تمت عملية فرز للعشرات من خلال معرفة الأسماء والرتب والوظائف وقد تعرف علي جندي أردني كان معتقلاً عندنا في منطقة اشتفينا .. وتهمته أنه كان مدسوس بين صفوف الثورة
تم نقلي وعدد ليس قليل من المقاتلين إلى سجن الزرقاء العسكري
كان حظي في زنزانة مع أخي الشبل في ذلك الوقت (عمار بن ياسر)
و الان هو في رام الله / متقاعد برتبة لواء / وشخص إسمه نزيه علي عبد الله من طلوزة / لم اكن أعرفه / أما عمار فهوشبل شجاع جدا عرفته في معسكر التدريب في العراق وكان لي مع قصة حينها .!
كان الوضع رهيبا ً جداً / صيف حارجدا ً ووضع أشد حرارة يكاد يوحي بأننا داخلين جهنم بعد حرب ضروس
تحقيقات… ضرب … شبح… صراخ في كل مكان …عسكريين متهمين بأنهم منضمين للثورة سرا ً …هم أكثر عذابا ً منا نحن الفدائيين …
وكان الحقد جراء النزاع والفتنه سيد الموقف وبامتياز
فالجندي الذي يحرسك وينقلك من الزنزانة إلى الحمام أو إلى التحقيق” يمارس عليك كل صنوف الإهانة من ضرب وركل وصفع وشتم “
زنزانات وأبواب حديدية تفُتح وتُغلق في جوف الليل وأكثر ما يرهبك صوت الأقفال وهي تنفتح أو تنغلق كمقدمة لسماع أصوات الصراخ .!
وربما تكون أنت من سيصرخ لاحقا ً ..!
لا أبالغ إذا قلت أنني كنت أشعر وكأننا في يوم القيامة
سبحان من خلق البشر وخلق معهم الصبر والتأقلم والتحمل
(الله يا ربي ما أعظمك )
أكثر ما كان يؤلمنا جميعا ً هو هذا الشعور العدائي من بني جلدتنا وديننا ونحن لا نحمل أي حقد ولم نكن كذلك “ فوجهتنا كانت وما زالت أعداء الله الذين اغتصبوا أرضنا ” وإلا ما كنا قد حملنا السلاح وتشردنا في الجبال والوديان بعيدين عن دفء بيوتنا وأهلينا .!
ولكن كيف تقنعهم وقد وقعت في فتنة كبرى وحرب لم يكن لك يد بها ..!!
أول أسبوع كان من أقسى ما مر علي في حياتي ” الجوع ليس له مكان رغم شح الطعام ولكن حتى لو كان أشهى الطعام ” فمن كان يشعر بشهية للأكل والخوف هو عنوان الليل والنهار..!
ولكن العطش والبعوض في زنازين وغرف مكفهرة مع صيف يشبه هذه الأيام التي نعيشها وربما أكثر قيظا ً وحرا ً .!
أما الذ هاب إلى المرحاض فهو المصيبة الكبرى….وكان أقسى أنواع العذاب حيث كان لدقيقة واحدةر فقط ويا ويلك إن زادت عن الدقيقة ” ففي كل ثانية بعدها عصاة تنزل على رأسك بعد أن يُدفش الباب” فتقع أرضاً على الأوساخ وتعود إلى الزنزانة وأنت تحمل بنطالك الذي تخشى أن يتلوث بما علق بمؤخرتك جراء السقوط على القاع والعصى تلاحقك حتى تدخل زنزانتك…. (حبيبتك ) وهي الأكثر أمنا ً وحنانا ً من أي مكان آخر .
ولا تسأل عن الجنود المراهقين من الشباب الصغار الذين كانوا يتفننون في ممارساتهم القذرة ” وهو يتسابقون في من يكون أكثر شراسة ً وحيوانية وإيذائا ً ، مخربين مخربين مخربين لا تسمع إلا هذا القول والصفة
بعد كل هذا لا ترتاح حت وانت في زنزانتك ….ممنوع النوم …ممنوع الهدوء ولو للحظة واحدة ……
فيأتي من يناديك عبر الطاقة الصغيرة ويقول لك…. تعال خذ كاسة شاي ، وعندما تقترب لتأخذها يدلقها على وجهك بحرارتها الحارقة “أو يبصق في وجهك ويضحك مع زميله / أو يأتيك بكوب مليء بالبول ليرشقه على وجهك ” أو ليطفيء سيجارة في وجهك .! حتى أصبحنا نتحاشى الوصول إلى هذه الطاقة اللعينة
وفي إحد الليالي جاء أحد الجنود وهو من أشدهم سوءً وحقدا ً وقسوة ً وقلة أدب وقال ……….
شو يا خنازير…يا كلاب …. سمحو لكم بالشاي … كان بجانبه من يحمل إبريق شاي ” قال له : صب صب يجعلهم ما يذوقوا
لم يتحرك أحد منا لأننا لا نثق بهم
صب كأسا ً وارتشف رشفة حتى يثبت لنا أنه شاي وليس شيء آخر
أغلق الطاقة بحركة مصطنعة “”
فاقتربت من الطاقة واختلست النظر عبر شقوقها فوجدتهما يبولان في إبريق الشاي ويضحكان ” فأشرت إلى رفيقي في الزنزانة بأن لا يبديا أي حركة وقد صممت على الإنتقام ولو كلف الأمر حياتي
نظرت حولي فكانت ليفة حمام نستعملها أحيانا ً معلقة على مسمار على الحائط …. ودون أي تفكير أخذت الليفة وأدخلت يدي بداخلها حتى أصبحت كقبضة الملاكم وأرجعت يدي إلى أخر ما يمكن
وبينما كان يفتح الطاقة ووجهه ملاصق لها وما أن سحب يد الطاقة
وبكل قوتي ضربت الطاقة ضربة …. أعتقد أنها أقوى ضربة خرجت مني في حياتي
وإذا بالدم يعفر في وجهي ” حيث حدث نزيفا ً كبيرا ً
وصرخ صراخاً رهيباً ووقع على الأرض وهو يتلوى
لم أكن إدرك ما يمكن أن يكون نتيجة الضربة
فقد دخل لاقط الطاقة بين طرف أنفه و جحر عينه تماماً وكما علمت مؤخراً أنها فتحت ثغرة بين عضمة الأنف وجحر العين ووصلت إلى العين
وكانت ليلة من ليالي العمر التي لا يمكن أن أنساها في حياتي
وقد إجتمع علي أكثر من عشرة جنود وبكل ما يمكن أن يستعملوا من عِصِي وأدوات مجدلة (أسلاك) …وقد تم تقييدي بجنازير وعلقت كالذبيحة
وانهالوا علي ضرباً …. لا يتحمله حمارقبرصي ، حتى فقدت وعيي تماما ً .
إستفقت بعد وقت فوجدت نفسي في زنزانة أخرى ولوحدي
ولم يكن في جسدي أي مكان ليس متورماً أو مدمياً عدا عن كسر يدي اليسرى وأنفي الذي كان ينزف دماً وحلقي الذي يخرج منه قطع الدم المتجلط …( عانيت مدة طويلة )
الحقيقة أن إدارة السجن ورغم ما حصل للجندي فمدير السجن ….رجل شهم …وقدعرفته من خلال مقابلة معه إثر الحادثة وقد أخبرني بان ما قمت به هو عمل سيء جداً “وأني سأمثل في المحكمة من أجل هذه القضية
ورغم أنه كان عسكريا ً صارماً
قال : نحن هنا ليس لنا علاقة بقضيتك التي أنت بسببها هنا في السجن”
ولكن مسألة ضرب الحارس هو ما يهمنا
وقال : حتى يكتمل الموضوع أريد أن أفهم منك ما الذي حدث ..!!لماذا فعلت هذا ..!! الا يكفي ما بك من بلاء ..!! كيف تضرب جندي يقوم بحراستك وبمساعدتك واطعامك ..!!
رويت له ما حدث بالضبط وكان المحقق الذي حقق معي يقف بجانبه
ويبدوا أنه لم يذكر ألسبب الذي دعاني للقيام بما قمت به
فنظر إليه وقال : لماذا لم تذكر هذا …!!!
فقال : كذاب يا سيدي …هذا قاتل ….مجرم يا سيدي إنت بتصدقه..!!
لكن وحسب ما رأيت فقد صدقني لأني سمعته يقول له وبصوت منخفض (والله ما هو كاذب….. ولكن الحقد أعماكم )
صرخت وقلت : يا بيك والله إنهم يعاملونا كالحيوانات “
الضرب مش مهم … والشتم مش مهم… والتعذيب مش مهم ….ولكن هل ترضى
أنهم بيضربونا ونحن جالسين في المرحاض….!!!
ويجبرونا أن نجلس على أوساخنا …..!!!
وقف وقال هذا الحكي بيصير معكم كثير أو مرة واحدة ..!!
قلت : كل يوم …كل ما ندخل الحمام ….حتى أننا بطلنا ناكل شيء
نحن نخاف من المرحاض أكثر من الضرب
أظهر قرفه وامتعاضه وقال : أنا لا أسمح بمثل هذه التصرفات أبداً “
وأصدر أمراً بمنع أي تصرف لا أخلاقي مع المساجين وقد لمس الجميع هذا التغير المفاجيء
في اليوم التالي تم تربيطي بقيود بارجلي ويدي واخذوني الى المحكمة
وتلى المدعي العام بيناته الإدعائية وقال أني قمت بما قمت نتيجة أحقاد
تربيت عليها في معسكرات التخريب وهذا نتاج سوء التربية والتخلف والكفر وأننا عبارة عن وحوش ضارية نفتقد الى اي إحساس بالإنسانية
تم الحكم علي خمس سنوات على هذه القضية
بعد أيام دخل علينا أول أيام شهر رمضان المبارك
وكنت ما زلت في الزنزانة منفرداً وهي مقابل للزنزانة التي كنت بها سابقا ً حيث كنت أتحدث مع إخواني عمار ابن ياسر … ومحمد لطفي جرادات رحمه الله والذي كان في زنزانه أخرى وهوصديقي من جنين وأخي الحبيب و رحمه الله
تغير الحراس وما عدنا نرى الجنود من الشباب الصغار” وكأن الحادثة غيرت في الأمر شيئاً ما .!! أو لأن رمضان كان له ترتيب آخر ..
لا ادري ..!!
(( بعد ثلاثة أسابيع من إعتقالنا ….كانت المفاجئة ))
يتبع …………..منذرارشيد