المرحلة الثالثة…عصر الغفوة 1972 وحتى الاّن
بعد رحيل الزعيم العربي الكبير ورمز التيار القومي المعاصر جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر1970م تولى رئاسة الجمهورية محمد انور السادات والذي لم يلبث أن إنقلب على مبادئ ثورة يوليو بعد فترة وجيزة نسبياًَ من وصولة لسدة الحكم, حيث إستهل عهده بالبطش بالقوى الناصرية, ففي مايو من العام 1971م شن السادات حملة إعتقالات عنيفة في صفوف الناصريين فيما عرف بضربة “مراكز القوى”, غير ان السادات الذي إستطاع تحجيم الناصريين في مرحلة متقدمة من حكمه لم يستطع كسر شوكتهم فميراث عبد الناصر الثوري ظل حاضراًَ وبقوة في الشارع المصري, ولذلك لم يجد السادات بداًَ مع بدايات العام 1972م من إستحدام ورقة الدين لمجابهة خصومه, وهكذا تحالف السادات مع النظام السعودي وفتح الباب على مصراعيه أمام الفكر الوهابي ليغزوا مصر.
هدف السادات من ترويجه للخطاب الوهابي العاطفي والممول سعودياًَ والمعروف بعدائه التاريخي للثورة إلى زعزعة حضور الناصريين جماهيرياًَ, وهكذا كان, فأعاد السادات إفتتاح جمعية انصار السنة الممولة سعودياًَ ووزع المناصب الأزهرية على شيوخ الوهابية وسخر التلفزيون والإذاعة المصرية لبث برامج دعوية “سلفية” تحض على التمسك بمظاهر التدين كالحجاب وإطلاق اللحية ومحاربة الشيوعية والفكر العلماني.
ومن ناحية أخرى قام السادات بإطلاق سراح قيادات وكوادر الإخوان من السجون حيث تم السماح لهم بمعاودة ممارسة نشاطهم الدعوي والسياسي, لعلم السادات ان هؤلاء المفرج عنهم سيكونون ادوات سهلة في يده يستخدمها في معركته مع الناصريين مستغلاًَ حالة العداء السابقة بين الفريقين وحنق الإخوان المفرج عنهم حديثاًَ على من زج بهم في أتون السجون .
غير ان السادات أبقى على عدم رسمية الحضور الإخواني من ناحية قانونية, حيث ظل الإخوان طبقاًَ للقانون المصري جماعة محظورة, وكان قصده من وراء ذلك هو الإبقاء على ورقة القانونية في يده ليلوح بها للإخوان تارةًَ ترهيباًَ وأخرى ترغيباًَ حسبما تقتضي الضرورة.
كان السادات يريد من كل هذا إلهاء الشارع المصري في صراعات حزبية وإقحام الجماهير في خضم معركة لتصفية الحسابات التاريخية بين قوى المعارضة. وهكذا تم ضرب السلفيين بالعلمانيين وضرب الإخوان بالناصريين ثم ضرب الإخوان بالسلفيين, ليحجم الكل بالكل و يعيش الشعب في دوامة لا تنتهي ويتسنى “للريس” تمرير مخططاته المتعلقة بالتحول من الإشتراكية لنظام السوق والأخرى المتعلقة بالتسوية (السلمية) مع العدو “الإسرائيلي”.
وفي الحقيقة فإن اللعب بورقة الدين في مواجهة حركات التقدم لم يكن إختراعاًَ ساداتياًَ بحتاًَ وإن ابدع السادات في إستخدامه في بداية حكمه, ففي الفترة السابقة إبان حكم الناصرية, إستغل النظامين الاردني والسعودي حنق الإخوان الفارين من بطش الناصريين في الخمسينات ورغبتهم الاكيدة في الإنتقام ورد الصاع إلى عبد الناصر, في تجيشهم عملياًَ للإصطفاف في الخندق الامريكي الإمبريالي المتحالف مع النظامين السعودي والاردني في مواجهة الثورة ودعواتها للوحدة والتحرر من الهيمنة الإستعمارية.
غير أن نجاح السادات كان نسبياًَ وحسب, فلقد خرجت مقاليد الأمور من يده في النهاية, حيث إكتسح الفكر السلفي صفوف الإخوان أنفسهم فالكثيرين من كوادر الإخوان العائدين في حينها من دول الخليج العربي كانوا قد تأثروا خلال إقامتهم هناك بالفكر والمنهج السلفي بعد إنقطاع إتصالهم في تلك الفترة بالقيادات الفكرية للمدرسة الإسلامية النهضوية, حيث كان نشاط اتباع المدرسة النهضوية في الخليج ممنوعاًَ بقرار سعودي لإرتباط هؤلاء المفكرين التجديدين بمدرسة محمد عبده العدو اللدود لمحمد بن عبد الوهاب كما اسلفنا في الحلقات السابقة, وكذلك لم يكن حالهم في مصر بأفضل منه في الخليج, حيث كان ينظر لكل إسلامي هناك على أنه إخوان مسلمون. وهكذا وبعد أن كان الأخوان حتى الخمسينات محسوبين فكرياًَ على مدرسة محمد عبده الإصلاحية النهضوية تحول إخوان السبعينات بفضل الكوادر العائدة من الخليج إلى جمعية دعوية سلفية.
ومن ناحية اخرى, حدث أمر لم يحسب له السادات حساباًَ وهو تكون تيار إخواني داخل السجون إبان فترة الستينات من الكوادر المتاثرين بالأفكار الغاضبة للسجين الإخواني السابق سيد قطب والذي أعدم على يد النظام الناصري, وقد طور هذا التيار داخل السجن فكراًَ خاصاًَ به يمكن أن يقال عنه أنه (خارجي) إلى حد ما. حيث ان سيد قطب المرجع الفكري لهذا التيار (والمفكر والأديب الكلاسيكي صاحب المشاعر المرهفة قبل مرحلة السجن) في كتابه الشهير “معالم في الطريق” ( والذي وضعه كردة فعل غاضبة على التعذيب والإمتهان الذي خبره في زنزانته ) قد رسم الخطوط العريضة للفكر الإخواني الجديد القائم على تقسيم المجتمع إلى جماعة إسلامية ناجية ومجتمع جاهلي يجب تغيره, داعياًَ للخروج على المجمتع الجاهلي وتأسيس دولة الحاكمية.
في الحقيقة أنه لا يمكن لمن يقارن بين (رسائل) البنا و (معالم) سيد قطب إلا أن يستنتج أن كلاًَ منهما ينتمي إلى مدرسة فكرية مختلفة لا علاقة لها بالأخرى, فالاول (البنا) يدعوا لإصلاح العقول وإعادة قراءة التراث وبناء أمة جديدة على اسس حضارية والثاني (قطب) يدعوا إلى الإنقلاب وتجهيل المجتمع وإخراج المخالفين من الملة من غير الإهتمام بإعادة إنتاج خطاب إسلامي حضاري قادر على مواجهة تحديات العصر المتشابكة.
المهم, في منتصف السبعينات نشأ تحالف بين أنصار التيار القطبي الإخواني وبين (الإخوان المسلمين -السلفيين – الجدد) العائدين من دول الخليج العربي, وشكل هذا التحالف الإرهاصات الأولى لظهور تيار ما يعرف اليوم (بالسلفية الجهادية).
وفي منتصف السبعينات إنشق (الإخوان-القطبيون- السلفيون- الجدد الأكثر تشدداًَ) بقيادة السجين السابق عبود الزمر عن الجماعة الأم ليكونوا حركة الجهاد الإسلامي, وقد إستشعر السادات في اواخر السبعينات بالخطر الجديد وبإنفلات زمام الامور من بين يديه, فقام بحملة شرسة لكبح جماح هذا التيار زاجاًَ ب 18000 من كوادره في السجون خلال العام 1980م, إلا أن الأمور كانت قد خرجت فعليأ عن نطاق السيطرة, والنار التي لعب بها السادات طوال فترة السبعينات قد أحرقته في النهاية, فقد تمكنت إحدى خلايا “الجهاد” من إغتيال السادات نفسه بتاريخ 8 اكتوبر 1981م اثناء حضوره لعرض عسكري.
بعد السادات جاء نائبه محمد حسني مبارك الذي تولى زمام الامور بتاريخ 14 اكتوبر 1981م. عرف مبارك بدهائة ان إقصاء التيار الإسلامي بالجملة بات مستحيلاًَ, ولذلك عمد إلى التحالف مع الجناح السلفي ومع الإخوان-السلفيين الاقل تشدداًَ في مواجهة اتباع التيار السلفي –الجهادي. وهكذا سمح للجماعة الأم للإخوان بالإستمرار بالعمل الفعلي لكن غير الرسمي متبعاًَ في ذلك سنة سلفه ليبقي بذلك سيف المنع جاهزاًَ في يده للتلويح به إن إقتضت الضرورة وإن تجاوزت الجماعة المسموح.
والمسموح هنا هو الدعوة إلى الله والى الصلاة والصوم و الإلتزام بالحجاب ومقارعة الشيوعيين والعلمانيين والناصريين, والممنوع طبعاًَ تحدي السلطة القائمة بصورة سافرة وإنتاج خطاب إسلامي تحرري مناهض لنظام السوق وداع لتحقيق العدالة الإجتماعية و المطالبة بإعادة توزيع الثروة القومية.
فهم الإخوان الرسالة, وحصروا جل إهتمامهم بمجال الامور الدعوية العباداتية, وهكذا بعد أن كان إخوان الخمسينات إمتداداًَ لمدرسة التجديدين (الكواكبي, شكيب ارسلان, محمد عبده, رشيد رضا, البنا) وبعد تبنيهم لخطابات الإصلاح والتحرر والعدالة الإحتماعية لم يعد خطاب إخوان الثمانينات يختلف كثيراًَ عن خطاب نقيضهم التاريخي المفترض التيار الوهابي السلفي.
وهكذا نرى ان المستفيد الاكبر والحقيقي من صراع الإخوان والناصرين ومن ظروف سجن الإخوان وما تلا ذلك من تعاون إخواني أردني سعودي ضد الثورة ومن تكتيكات السادات اللاحقة ومن سياسات حسني مبارك الحالية هو التيار السلفي الوهابي والذي إكتسح البلاد وسيطر على عقول وسلوكيات العباد بفضل المال البترولي الخليجي وكذلك بسبب غياب او تغيب فكر المدرسة الإسلامية التجديدية النهضوية كما اسلفنا.
ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش في غفوة عاطفية دينية منتظرين أن يمن الله على هذه الأمة بمن يحيي فيها فكر مدرسة الإسلام النهضوية و ينتج خطاباًَ إسلامياًَ ثورياًَ عصرياًَ يكون قادراًَ على نفض غبار التخلف السلفي الرجعي والعلماني المستورد وعلى بث الوعي الثوري بين الجماهير وبشكل خاص في اوساط الفئات المسحوقة في المجتمع العربي وإطلاق إنتفاضة عربية فكرية وثورية شاملة تقلب موازين القوى العالمية والمحلية وإقامة دولة الوحدة والعدالة الإجتماعية والشورى.
حينها فقط تكون صحوة إسلامية راشدة على منهاج النبوة.
(قل عسى أن يكون قريباًَ)
المراجع:
الكتب:
الحركة الإسلامية أوراق في النقد الذاتي – د. عبد الله النفيسي (بمشاركة نخبة من المفكرين د. طارق البشري, د. حسن الترابي, د. محمد عمارة, واّخرون), طبعة مكتبة مدبولي
الأخوان االمسلمون- ريتشارد ميتشل, طبعة دار مكتبة القلم
الناصرية بمنظور نقدي اي دروس للمستقبل- محمد جابر الأنصاري, المؤسسة العربية للدراسات والنشر
حوارات ناصرية- رياض الصيداوي, الوطن العربي للأبحاث والنشر
مرحلة السادات- حسن أبو طالب, مركز دراسات الواحدة العربية
من اجل التغير – مالك بن نبي, طبعة دار الفكر المعاصر
لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – شكيب ارسلان, دار مكتبة الحياة
المشروع الحضاري الإسلامي- د. محمد عماره, دار السلام
الأزمة الفكرية المعاصرة- د. طه جابر العلواني, المعهد العالمي للفكر الإسلامي
أم القرى- عبد الرحمن الكواكبي- دار الأوائل
طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد – عبد الرحمن الكواكبي, دار النفائس
رسالة التوحيد – محمد عبده, دار إحياء العلوم
السيد محمد رشيد رضا- د. محمد احمد درنيقة, مؤسسة الرسالة
مذكرات الدعوة والداعية- حسن البنا, دار الزهراء للإعلام
الرسائل- حسن البنا, دار الزهراء للإعلام
معالم في الطريق- سيد قطب, دار الشروق