رن الهاتف الأرضي في البيت، عرّف المتحدث نفسه باللغة العربية باسم [ أبو علي] وعند سؤالي له: من أبو علي؟ أراد التأكد من شخصي، وأنني في البيت، وأن لا أحد بجواري، وهذا ما أكدته له بالفعل، وأنا أجول في الذاكرة عن معارفي بهذا الاسم. استرسل المتحدث بالسؤال عن الصحة، والبيت، وأفراد العائلة بالاسم بشكل يوحي أنه قريب جداً، مما أثار فضولي لمعرفته: من أنت؟ من أبو علي؟ أنت من يا أبا علي، ؟ قال عبر الهاتف: أنا لست مبسوطاً لما ممارسته حماس الظالمة ضدك، وكيف تتجرأ على طردك من رئاسة بلدية خان يونس، ولماذا طردوك؟ وهل ستجد حماس من هو أفضل منك خبرة؟ ومن عينت حماس المجرمة بدلاً منك لرئاسة بلدية خان يونس؟ تشككت في البداية أن يكون المتحدث من تنظيم فتح، ويريد أن يلومني، ويعاتبني، وأخذني الشك للظن أن المتحدث من تنظيم حماس، يريد أن يستدرجني لردة فعل، ولكنني أجبت السائل: هذا شأنهم، فمن أنت يا أبو علي، كي أرد عليك، وأبادلك أطراف الحديث؟ أضاف عبر الهاتف المنزلي: هناك في رام الله قطعوا راتبك لأنك أيدت حماس، وحماس طردتك من البلدية لأنك لست حماس، فمن أين تصرف؟ وكيف تدبر أمرك؟ ارتفع صوتي بحدة وعصبية: من أنت يا رجل؟ أجاب: أنا [روني] مخابرات إسرائيلية!. وماذا تريد يا [روني]، ولماذا تهتم بكل هذه التفاصيل، وما علاقة المخابرات الإسرائيلية برئيس بلدية خان يونس المقال؟ قال: نحن نعرف كل شيء، ونهتم بكل شيء، وشخصية معروفة مثلك من الضروري أن تهمنا، لأننا قلقون لأجلك، ومستعدون للمساعدة، وتوفير كل ما تطلب، إنما لكي نتحدث أفضل في المرة القادم، اشتر هاتف [ أورنج] هاتف الشركة الإسرائيلية، ولا تخبر أحد عن هذا الاتصال، إياك أن تخبر أحد عن هذا الاتصال. أثار حديثه عن السرية غضبي، وأنا أؤكد له أن معاشي التقاعدي جيد، ولدي هاتف بيت، وشكراً على الاهتمام، وليس بيننا حديث مشترك كي أخفيه، ومع السلامة يا [روني]. وحسبت أن الأمر قد انتهى عند هذا الزجر! ولكنها المخابرات الإسرائيلية، ففي الساعة الحادية عشر من صباح الأحد 7-9-2008 رن الهاتف المحمول، رقم خاص غير مكشوف، والمتحدث يسأل باللغة العربية عن الصحة، والأحوال، والعائلة، وعن شهر رمضان، وماذا تفعل هذه الأيام! رددت ببساطة، وبراءة: الحمد لله، من أنت يا هذا؟ قال: أنا [ روني] تحدثنا قبل أيام، هل نسيت الصوت، ألست أنت فايز رئيس البلدية؟ أجبته باللغة العبرية، نعم أنا هو، فماذا تريد؟ قال: تحدث باللغة العربية، يبدو أن بجوارك أحد، أعود للاتصال بك مرة ثانية. رددت عليه بالعبرية: لا أحد عندي، ماذا تريد يا [روني]. قال: إذن لماذا تتحدث بالعبرية، تحدث بلغتك العربية. قلت له: منذ سنوات لم أتحدث العبرية، أريد أن استرجع اللغة. قال: اترك العبري الآن، وتحدث بالعربية. ارتفع صوتي وأنا أقول بالعبري: بل سأتحدث بلغتك أنت، اترك أنت العربي الآن يا [روني] وتكلم بالعبري أصر [روني] على الحديث باللغة العبرية، ولم أنطق معه كلمة عربية واحدة، غضب روني وهو يقول باللغة العربية: سأتصل بك مرة ثانية. قلت بالعبرية: بل نتحدث الآن، ماذا تريد مني؟ هل تظنني حانق على ممارسة حماس ضدي، وقد حانت الفرصة كي أتعامل مع المخابرات الإسرائيلية!. تلعثم [روني] وهو يقول: أنت عنيد، ولا تفاهم معك، واقفل الهاتف. كان فرحي كبيرا بهزيمة [ روني] وخيبته، وكان حزني شديداً على الواقع الفلسطيني الذي يشجع [روني] وأمثاله على اغتنام الفرص، والسعي لاصطياد العملاء لإسرائيل. كان فرحي كبيراً لأن المخابرات الإسرائيلية تنقصها المعلومات الدقيقة عن قطاع غزة، بالتالي فهي بحاجة لتجنيد العملاء، ومعرفة ما يجري في غزة، وكان حزني شديداً؛ لأن المخابرات الإسرائيلية تتجرأ، وتحاول مع رجل مثلي يقترب من الستين، وأمضى عشر سنوات في سجون إسرائيل، وله مواقفه السياسية المعلنة، وله رسالة دكتوراه في الشعر العبري، كشفت عن وجدان اليهود، إن مجرد المحاولة دليل على أن المخابرات الإسرائيلية قد استغلت حالة الانقسام الفلسطيني، وربما تكون قد نجحت في توظيف شخصيات معروفة داخل المجتمع الفلسطيني بطريقة أو بأخرى. كان فرحي كبيراً؛ لأنني خالفت ظن روني السيئ بالعرب، وكان حزني شديداً لاستمرار الفهم اليهودي للشخصية العربية بأنها تشترى وتباع بالمال. فهلا أدركت التنظيمات الفلسطينية خطورة الانقسام على جوهر الصراع مع الدولة العبرية، وخطورة الانقسام على ترابط المجتمع الفلسطيني الذي بات نهباً، ومطمعاً للأعداء، وبات أرضاً رخوة لكل محراث سوء.
هلا من خطوة مصالحة جريئة تحفظ الإنسان بعد أن فقدنا الأرض.